السيرورة الأساس في الأقطار العربية حالياً هي انحسار الدولة القومية العربية في السيادة والجغرافيا. ولأن لا فراغ في الطبيعة السياسية، فإن «شيئاً» ما يحلّ محلّ هذا الانحسار لم يأخذ بعد شكله النهائي. نشير بداية إلى أن مفهوم الدولة القطرية الحديثة يتعرض لضغط العولمة من ناحية ولضغط مكوِّنات الداخل، تلك النزعات الإقليمية أو العرقية أو الدينية. وهي سيرورة حاصلة في مساحة الأقطار العربية أيضاً. لكن سيظلّ للجيو سياسة العربية خصائصها، وأبرزها أن انحسار الدولة العربية لا يحصل بضغط العولمة في أساسه، بل لقصورات بنيوية أساساً في صلب مشروع الدولة. وإذا ما واصلت الأمور تدحرجها في الاتجاه ذاته، فقد نرى اضمحلال بعض الدول العربية وسقوطها من إطارها الذي عُرفت به، وهو تطور يجري الآن على الأرض في عدة مواقع، بينها لبنان والعراق والسودان واليمن. لعلّ أبرز ما تنبئ به السيرورة الآنفة الذكر، هو تداعي الفكرة الناظمة المؤسِّسة للدولة العربية، المتجسّدة بفكرة العروبة أو القومية العربية. لقد سلَّمنا منذ زمن بعيد باستحالة توحيد المجتمعات العربية وصهرها على شكل «أمة عربية»، فقد تنازلت غالبية العرب بالتجربة القاسية عن هذا الحلم. حديثنا هو عن القومية العربية في حدود القُطر أو الدولة الحديثة العربية الخارجة من حروب التحرير والقائمة على أساس الفكرة القومية. لقد تفككت الدولة العربية القائمة على أساس هذه الفكرة التي رأت في الثقافة والهوية العربيتين أساساً فلسفياً وتنظيمياً لها، لصالح مكوناتها الأدنى، المجموعات الدينية والعشائرية والقبلية والجغرافية. في العلوم السياسية نظريات تقيس احتمالات انقسام دولة ما، وهي تقول بوجود احتمال حقيقي للانقسام، في حين تطابقت خطوط التوزيع الجغرافي مع خطوط التوزيع العرقي أو القومي وخطوط توزيع الموارد (انظر الأكراد في العراق، وجنوب السودان ذا الأغلبية المسيحية، والألبان في مكدونيا، وتجربة تيمور الشرقية)، بمعنى أن التنوع السكاني من حيث المجموعات العرقية أو الدينية غير كاف كشرط لإحداث شروخ في جسم الدولة الحديثة، وهو بحاجة إلى وجود غبن في توزيع الموارد، وإلى سياسات إقصاء وعنصرية، أو قمع وقهر ليتحول التمايز بين الجماعات إلى عامل جدي في إحداث الانقسام أو الانشطار في حدود الدولة الواحدة. إن أشياء مما تقدم قد حصلت في الدولة العربية الحديثة وأنبأت بمطالبات بالانفصال، أو بحكم ذاتي على الأقل، لكن ظلّ الإطار العام للدولة قادراً على تصريف الأمور أو تذليلها. لكنّ دخول العامل الديني بصيغته الشعبوية الانتهازية على خط الدولة في السنوات الأخيرة، لا يهدد باضمحلال الصيغة المعهودة للدولة فحسب، بل بمجازر في طول الأقطار العربية وعرضها، إذ إن انفراط العقد الناظم الذي جسّدته القومية العربية بصيغها المختلفة، أخلى الساحة لبروز المدّ الديني المناقض لهذه الفكرة في كل شيء، فإذا كانت الفكرة القومية احتوت بخجل أو بوجل المجموعات الدينية وحفظت أمنها وقرّبتها أو ضمنت لها حداً أدنى من الكينونة والعيش الكريم، فإن الفكر الديني الحاد المزاج يصنِّف هذه المجموعات بشكل مغاير ويضعها في عداد «الآخر»، المسيحي أو الكافر أو الغازي (مسيحيو العراق وأقباط مصر مثلاً)، بمعنى اعتراف القومية العربية - كصيغة أساس للدولة - بنوع من المواطَنة للأقليات في الشرق، وبضمّهم ضمن التعريف، فإن النزعة الإسلاموية الصاعدة تصنّف غير المسلمين تصنيفاً فظاً وعدائياً، وتضغطهم في خانة أضيق تعود بهم وبنا إلى ألف ونصف الألف إلى الخلف! إن بناء الهوية الإسلامية تجاوز بناء الهوية العربية في حينه، من حيث خفض مستوى الخصوصيات الثقافية والدينية والعرقية ضمن التكوين العروبي، إلى محو هذه الخصوصيات، بالإقصاء والتخوين والتكفير والقتل (كنيسة سيدة النجاة)، وهو ما يدفع المجموعات المتمتعة بخصوصيات دينية أو عرقية أو لغوية إلى مزيد من الحرج ومزيد من الهجرة والشروع في تحويل الخصوصية إلى هوية، لغرض الدفاع عن النفس، بل رأينا أن هذه الأقليات شرعت بالتململ العلني حيال التطورات الواقعة على جلدها (الأكراد في سورية والأقباط في مصر والمسيحيون في جنوب السودان)، علماً بأن هذه الأقليات قبلت، وإن على مضض، القوميةَ العربية بما تشكله من حلم جامع وضامّ، فانخرطت هنا بقوة في مشروع الدولة، أو راهنت عليه على الأقلّ في مستوى ضمان الأمن الوجودي! ومن هنا، فإن الضغط الإسلامي الحاصل يشكل قوة دفع غير مسبوقة باتجاه إخراج هذه الأقليات من حساب المشروع الإسلامي واعتبارها عبئاً، إن لم نقل عدواً، أو محسوباً على الأعداء. وانتقلت الدولة العربية في التالي إلى مرحلة الهويات الدينية وبداية الاحتراب في ما بينها، ليس بسبب من انغلاق الأقليات الدينية أو العرقية أو التاريخية، بل بسبب من صدامية المشاريع الإسلامية المطروحة وشعبويتها وبؤس تطبيقاتها ودمويتها («المقاومة» في العراق، وحزب الله في لبنان مثلاً). إن هذا التطوّر الحاصل في كثير من المواقع العربية لن يُبقي حجراً على حجر إذا اندفع بكامل قوته من دون تدخُّل أحد، وهذا أيضاً جزء من السيرورة المقلقة، إذ نفتقد في النُّخب العربية الحاكمة أو المقيمة على ضفاف الحكم إلى موقف حازم وصريح ضد التقتيل على الهوية والانتماء الديني. ربما هناك من يراهن على «القوى الإسلامية» أن تواجه الغرب، لكنني أرجح أن انهيار ما بقي من الدولة العربية أقرب بكثير من نجاح هذا الرهان، لأن الحاصل يدفع أكثر فأكثر اتجاهات العودة إلى القبيلة والعشيرة والطائفة والإقليم والهوية العرقية وحصن اللغة الخاصة، وهي حركة طاردة عن الدولة باتجاه تقسيمها جغرافياً بعد أن تنحسر السيادة العامة والإرادة العامة. هنا، تحلّ الولاءات الخاصة بدل الولاء للدولة، ويتقطع خيط «العقد الاجتماعي» الناظم، وتنفرط حباته إلى جهات منفصلة في أحسن الأحوال، متناحرة في الأسوأ منها. أما العولمة كسيرورة ونُظُم، فستكون مساعِدة في إنتاج عوامل دافعة بهذا الاتجاه، سيما أن أبرز ما تفعله هو دك الحصون واختراق الحدود وتدميرها لغرض إنشاء حدود وحصون بديلة.