بوفاة جمال الدين بن شيخ يطوى الفصل الأخير من سيرة هذا الرجل المتميز، الخفِر، والذي عمل طوال حياته بعيداً عن الإعلام وأمجاده. أستاذ مادة الأدب العربي في القرون الوسطى والأدب المقارن، في السوربون، شاعر وباحث ومترجم. ترك بن شيخ كتباً تشكّل مراجع أساسية في الحقل الذي كرس له حياته، من مجموعاته الشعرية المتجذرة في الحداثة وهي في أساس كتابته، إلى كتاب"الشعرية العربية"الصادر عن دار"غاليمار"والذي تجلت فيه قراءته للشعر العربي في القرون الوسطى، وهي قراءة تذهب بعيداً لأنها ترسي أسساً جديدة لمفاهيم الشعر القديم والحديث على السواء، وللعلاقات القائمة بين اللغة من جهة والفلسفة العامة للوجود من جهة ثانية. هناك أيضاً، وفي المقام الأول، ترجمة"ألف ليلة وليلة"إلى الفرنسية، وقد ترجمها بن شيخ بالاشتراك مع المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل وصدرت أخيراً ضمن سلسلة"لابلياد"عن دار"غاليمار"، وتشكل حدثاً ثقافياً، بل ستكون إحدى الترجمات الأساسية للّيالي في الغرب، منذ ترجمتها الأولى التي تحمل توقيع المستشرق أنطوان غالان، مطلع القرن الثامن عشر. وقد استقبلت الأوساط الثقافية الفرنسية صدور هذا الترجمة بحفاوة كبيرة. تقتضي الإشارة إلى أن هذه الترجمة واكبها صدور عدّة دراسات وكتب لبن شيخ أهمها كتاب"ألف ليلة وليلة أو الكلمة الأسيرة"، وكتاب"ألف حكاية وحكاية من الليالي"، بالاشتراك مع ميكيل وكلود بريمون. من هنا كانت الترجمة محصّلة عمل استغرق عقوداً من الزمن واستطاع معه بن شيخ أن يؤسس مختبراً للحكايات على غرار المختبر الألماني والمختبر الإنكليزي. بالنسبة إلى بن شيخ، لا يتوقّف العمل على الترجمة عند حدود"ألف ليلة وليلة"، بل أن الليالي كانت جزءاً من مشروع أوسع هو نقل بعض أبرز وجوه الموروث الثقافي العربي. في هذا السياق نشر بن شيخ بالفرنسية أجزاء من مقدمة إبن خلدون تحت عنوان"عقلانية إبن خلدون"، والقصائد الخمرية لأبي نؤاس، كما نقل إلى الفرنسية، وبلغة كثيفة شديدة الحساسية، حكاية الإسراء والمعراج وقد جمعها من مصادر عدة، وصدرت في كتاب مصوّر أنيق عن"المطبعة الوطنية"في باريس. وفي نص رائع ختم به الترجمة وعنوانه"مغامرة الكلمة / مدخل إلى دراسة الحكايات الأبوكاليبتية العربية"، عمل بن شيخ على التأريخ للنصوص التي وردت فيها حكاية الإسراء والمعراج وقارن بينها، ليخلص إلى القول إن مصير هذا النص العربي الذي دخل الأسطورة بسبب غيابه تم نقله خمس مرات إلى اللغات الأوروبية قبل أن تعاد صياغته... بالعربية على يد صلاح فضل في كتاب صدر عام 1980 وهو مخصص لتبيان تأثير الثقافة الإسلامية على"الكوميديا الإلهية". هذه الطريقة في الحديث عن المعراج تذكرنا بحديثه عن"ألف ليلة وليلة"، الكتاب الذي يبحث عن مؤلّف. وهو، بدون شك، كالمترجمين الكبار دائماً، أحد مؤلفي الكتب التي يترجمونها. كان جمال الدين بن شيخ يريد التأكيد أنه ليس أوروبياً يعمل على الثقافة العربية. له رؤيته كما للباحث الأوروبي رؤيته. وهو يعرف أن المستعربين الأوروبيين يعملون، في الغالب، انطلاقاً من المواقع التي تحددها الثقافة التي يعملون عليها، ذلك أن كل ثقافة تختار مواقع لها وتطلب أن تقرأ وتدرس انطلاقاً من تلك المواقع بالذات. أما هو فما كان ليلزم نفسه بحدود، بل كان يختلف في تناوله للتراث عن الكثير من البحاثة العرب أو المستعربين الذين يعملون على الثقافة العربية، وذلك مذ ترك مجال شعر القرون الوسطى ليعمل على المتخيل العربي مع فريق عمل جمعه من أجل هذه الغاية. يقول في هذا الصدد:"إذا كان توجهي مختلفاً فلأن المدى الذي أتحرك ضمنه هو مدى صحراوي، وأنا داخله في عزلة تامة، مستحبة ومقلقة في آن واحد. مستحبة لأنني غير مضطر إلى مواجهة رؤى أخرى، ومقلقة لأنني أبدأ من لا شيء ولا أجد حتى المقدمات الأولية التي يحتاج عملي إليها سواء عملتُ على"الحيوانات في الرمزية العربية"أو على"العرب والكوني"، أو على مواضيع أخرى". وبالنسبة إلى المنهج دائماً، لطالما تساءل بن شيخ: لماذا لا نفعل في الأدب ما تم فعله في الرياضيات والفيزياء؟ وهل نستطيع أن نفترض أن اكتشافاً علمياً كبيراً حققه باحث أميركي مثلاً، لا يمكن أن يستعمله باحث عربي بحجة أنه ليس هو الذي ابتكره؟ من جهة أخرى يأتي بن شيخ، من الاتجاه المعاكس دائماً. وكان يحلو له أن يردد:"لقد علموني أن أنظر في اتجاه معين وأنا أود أن أنظر في اتجاه آخر. كيف لا، والشيء الذي أمامي يختلف النظر إليه باختلاف وضعيته وباختلاف الضوء المسلط عليه."حتى يوم كان لا يزال طالباً في الخمسينات من القرن العشرين، لم يتقيد بتوجيهات معلمه بلاشير. كان بلاشير وقتها أشبه بجبل لا يمكن زحزحته، على حد قوله، وهو من الجيل الذي ينتمي إلى توجهات القرن التاسع عشر. إلى ذلك، كان بن شيخ يحمّل المستعربين مسؤولية كبرى حيال العالم العربي والثقافة العربية، ويعتبر أنهم قادرون على فرض هذه الثقافة. فأين هم؟ كان يقول:"إنّ ما يساهم في إقبال القارئ الفرنسي على الأدب الأميركي اللاتيني هو إحساسه بأنه ليس غريباً عن هذا الأدب ولا عن منتجيه، فيما ثلاثة أرباع الفرنسيين لا يميزون بين عربي ومسلم. وهنا تبرز أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المستعربون". لا ينحصر اهتمام جمال الدين بن شيخ فقط في الأدب العربي والجماليات العربية وانتشارها في الغرب، بل كان أيضاً مسكوناً بهاجس الحوار الصعب بين ضفتَي المتوسط، وكان متتبعاً للأحداث الجارية على امتداد العالم العربي، بدءاً من الجزائر. وهذا ما كان يعبّر عنه باستمرار في الوسائل الإعلامية المختلفة. وقد جمعت تلك المقالات والمداخلات في كتاب صدر عام 2001 عن دار"سيغييه"في باريس بعنوان"كتابات سياسية". يختصر هذا الكتاب معظم أفكاره حول السياسة والاجتماع والثقافة، حول الإسلام والغرب، اللغة والأدب، وكذلك حول الاستعراب في فرنسا وكان يعتبره التزاماً من أجل الحرية. في مقال بعنوان:"أن تكون عربياً وأنتَ في العشرين من العمر"ويهديه إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع جيلالي اليابس الذي قتل في الجزائر، يقول بن شيخ:"أن تكون عربياً وأنت في العشرين من العمر ولا تقول إنه العمر الأجمل. أن ترى بيروت مهدمة، وبغداد محاصرة، والقاهرة والجزائر في حروبهما الداخلية، وفلسطين التي أنكروا وجودها، ولا تأخذ أي أمثولة من اليأس بل من تكراره... أن تكون في العشرين من العمر بدون تأهيل ولا مسكن، تجول في شوارع مكتظة ولا تصدق حرفاً مما تقوله الأنظمة المستبدة، الفاسدة والعاجزة... أن تكون عربياً وتتذكر أن بشار بن برد، أبا نؤاس، الحلاج، ابن خميس، ابن زيدون والسهروردي ماتوا قتلاً، وأنّ ابن مسرة، ابن حزم وابن خلدون حكم عليهم بالنفي. أنّ كُتب طه حسين والشيخ عبد الرازق ونجيب محفوظ صودرت، وكذلك"ألف ليلة وليلة"، وهذا ما يستمر حتى اليوم". في هذا المقال، كما في مقالات أخرى كثيرة، إحساس بالفاجعة التي تضاعفت عنده في السنوات الأخيرة حتى اليأس، خاصة مع تصاعد موجة التطرف الديني، والأثر الذي يتركه على الإسلام. وهو يختصر علاقته بالإسلام على النحو التالي:"الإسلام الذي أنتمي إليه هو إيمان وليس سلطة، أخلاق لا سياسة. أنادي بروحانيته ضد نزعة الاستبداد والتسلط التي تحكم ذهنية حفنة من المسلمين". هل يكتمل الحديث عن بن شيخ من دون الالتفات إلى الجانب الشخصي، وإلى الصداقة التي جمعتنا منذ وصولي إلى باريس، ليس حباً بالحديث عن الذات، بل للقول كيف أن الذات تغتذي وتتبلور وتصبح مضاعَفة لدى احتكاكها بالآخر المتجلّي، المترفع عن الصغائر. عام 1993، وكان لا يزال يسكن في ساحة"تيرن"في الدائرة السابعة عشرة في باريس، اتصل بي ليخبرني أنه نقل إلى الفرنسية كتابي"عزلة الذهب"فجمعتنا لقاءات عدة حول قراءته. أثناء هذه اللقاءات اكتشفتُ العمق الإنساني لبن شيخ. ثم التقينا في"الكوليج دو فرانس"حيث كانت تجري حلقات دراسية حول"ألف ليلة وليلة". ولا أنسى يوم دعانا إلى منزله لنطّلع على كتابه الجديد"الخيمياء"المزيّن بإحدى عشرة لوحة للفنانة سارة فيام. كنا مجموعة من أصدقائه من الكتّاب العرب والفرنسيين. دخلنا منزله لتطالعنا كتبنا وقد وضعت جنباً إلى جنب على طاولات صغيرة، وصولاً إلى غرفة داخلية كان فيها كتابه الجديد. وكانت زوجته كلودين تفتح صفحاته كأنها تدعونا، بابتسامتها المشرقة، إلى الوليمة. وإذ أذكر هذه القصة الآن فلأنها تختصر شيئاً من روحه وجمال صداقته. هو النزِق، المتوتر، السريع الغضب، لكنه الغضب الذي يجلو الغموض ويسطع من بعده كلّ شيء. في أدبه وفي شخصه كان واحداً. بل أن الأدب كان تكريساً لمزاياه الشخصية ذاتها. وكانت علاقاته الإنسانية لا تحتمل المراوغة والكذب. في لقاء أخير جرى منذ وقت قصير في متحف"اللوفر"إثر صدور"ألف ليلة وليلة"، كان بن شيخ متعباً، لكنه كان كعادته صافي الذهن، متقداً. كانت نظراته تسابق ابتسامته إلى من يحب من المقرّبين والأصدقاء الذين جاؤوا تلك الظهيرة ليحتفلوا به وبعمله. وكان فرحاً لرؤيته هذا العمل وقد رأى النور بالصورة اللائقة التي كان يترقبها دائماً. حتى نهاية الرحلة، ظلّ جمال الدين بن شيخ ينتمي إلى الناس الحقيقيين، وهم قلة قليلة! ونشعر أننا في غيابه نخسر شيئاً من حضورنا، تماماً كما كانت تعبّر مجموعة من الهنود الحمر عندما يموت أحد أفرادها وترى أن الجرح أصاب المجموعة بأكملها وأضعفها... هل انتهت الرحلة فعلاً يا جمال الدين؟ أم أنها الحسرة هي التي انتهت؟ حسرتكَ على الأوطان الضائعة، وعلى العالم العربي الغارق في الحروب والتخلّف. وأيضاً حسرة على باريس التي ما عادت تتسع لحزن قلبك؟ وكنتَ تحاول أن تزيّن تلك الهموم، بل كنت تحاول أن تحوم فوقها بجناحك الشعري الذي لم يهدأ يوماً وكان مرادفاً لنبضك وظلاً لوجودكَ على هذه الأرض. ولا أجد الآن، لوداعك، أفضل من تلك العبارة التي جاءت في تصديرك لترجمة"عزلة الذهب"حين تقول:"وسرعان ما عاد إلى الصمت، تاركاً فينا تلك اللحظة التي لم يعد لنا منها إلاّ طعم الرماد. ما يتعذّر التقاطه يتعذّر الإمساك به، لكنه يترك لنا وعداً بالآتي. وسنحتفظ على أيدينا بعطور الحب التي هي الرسالة الوحيدة لأجسادنا المهدَّدة".