يمر الآن أربعون يوماً على وفاة جمال الدين بن شيخ. في 8 غشت، توفي وقد بلغ الخامسة والسبعين من عمره. الكتابات، التي رافقت نعْيه، تدل على ما كان لهذا الرجل من فضائل على الثقافتين، العربية والفرنسية، بل تدل على ما أسدى للعرب في غيبة عن معرفة الجمهور الثقافي الواسع بما كان يقوم به. وأنا كنتُ أقرأ كلمات وأصمت. لا أقولُ شيئاً. اكتفيْت بتعزية العائلة، كلودين وإلف. أربعون يوماً تمر. وطيلة هذه الفترة كان صوتُ جمال الدين بن شيخ يكاد لا يفارقني. آخر مرة كنّا التقينا، صحبة كلودين، كانت ندوة الرباط عن حوار الثقافات، التي عقدت قبل سنتين. آنذاك كنّا، كالعادة، ضاحكيْن. نتبادل عبارات مغربية محببة إلى نفسه. بحركة واحدة تنفجر الكلمات وتنفجر الضحكات. الموسيقى الأندلسية. المواويل. قضينا ثلاثة أيام من التواصل الشفاف. كان شبهَ متعب ولكنّ التعب كان يعود للسن وللحالة الصحية التي هي حالته. كلودين ذكرتْ لي أن المرض كان، هذه المرة، مفاجئاً وكاسحاً. وهو رأى جميعَ أبنائه من حوله. كان سعيداً برؤيتهم مجتمعين. كذلك قالت لي وأنا أفهم معنى الكلمات، بعد أن رافقته عمراً طويلاً، بين فرنسا والمغرب. قضيت أياماً في صمت. لا أعلم هل أنا كنتُ أفضل الصمتَ أم أن الصمتَ كان أكبر من الكلمات كلها. أكبر وأعْتَى. هي الحياة التي لا يمكن استرجاعُها. لا حياة إنسان فقط، بل حياة إنسان وثقافة وإبداع أظن أن من الصعب التعريف بها بسهولة. حياةٌ من طبقات متراصّة. وحياة من صراع معرفيٍّ فريد. وحياة من نُبل فكري وأخلاقي. كان ذلك متفاعلاً ولا أحدَ يدعي الوفاء به. صعبٌ. صعب جداً. تقولُ لي نفسي. بماذا يمكن أن نبدأ ونحن نستحضر جمال الدين بن شيخ؟ هذا السؤال، الذي يستوحي سؤال رولان بارط، إشارة إلى ما كان لجمال الدين من فعْل ثقافي لا ندركه تمامَ الإدراك. طبيعي ذلك أقول لنفسي. إنه جزائري، مغتربٌ في فرنسا، كاتبٌ بالفرنسية.، يشتغل في حقل الأدب العربي القديم. كل هذه عوامل تجعله بعيداً عن معرفتنا به وبما كان يقوم به، في سياق ثقافي فرنسي وعربي، على السواء. أعود لأتذكر الأربعين يوماً، على وفاة جمال الدين بن شيخ. تمر أربعون يوماً. وستمر الأيام القادمة. ونحن علينا أن نبحث من جديد عن الفعل المستور لجمال الدين بن شيخ. لا أطالب بتكريم ولا بإقامة ندوات، في الجزائر أو في الدار البيضاء أو في القاهرة أو في بيروت. أخص مدناً بعينها وأنا أعلم أنه ترك في كل منطقة عربية بركةً ما. من اليمن إلى العراق وفلسطين إلى موريتانيا. لا توجد منطقة عربية لم تكن حاضرة في حياة جمال الدين بن شيخ. ذلك وحده يمثل رؤيةً جديدةً في الثقافة العربية الحديثة. إنها بخلاف الرؤية السائدة في الثقافة العربية المشرقية، التي لا تنتبه إلا لنفسها أو تضع للثقافة العربية حدوداً تقف عند أسوار القاهرة. تلك علاماته الأولى، وليست بداياته. في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، ارتفع في فرنسا صوت العنصرية، المنادي بطرد المغاربيين تحديداً، كرمز للعرب والمسلمين، من الأرض الفرنسية. لوبين، زعيم اليمين الفرنسي المتطرف وباسْكوا، وزير الداخلية. لكل منهما لغتُه الخاصة في تبرير الموقف ذاته. آنذاك نشر جمال الدين بن شيخ في جريدة لوموند، يوم الخميس 8 شباط فبراير 1990، نصاً بعنوان"أنا، المهاجر المغاربي العاشق لفرنسا". هذا النص مرافعة تاريخية واستثنائية عن الحق في الاختلاف الثقافي. جاءت كتابة هذا النص استجابة لرغبة الجريدة في معرفة وجهات نظر الطرفين المغاربي والفرنسي بخصوص معاداة الأصول المغاربية للمهاجرين القاطنين في فرنسا ومعاداة الإسلام. نشرت كلمة جمال الدين بن شيخ جنب كلمة صديقه الكبير الفرنسي أندري ميكيل بعنوان" أنا، الناطق في الأصل بلغة دوك العاشق للإسلام". في هذا النص يطرح جمال الدين بن شيخ الخلفية الفكرية والأخلاقية التي كان وفياً لها في حياته. وهي تخطط لوعي ثقافي جديد في العلاقة بين الطرفين المغاربي والفرنسي. المسلم العربي الفرانكوفوني في هذا المرافعة يوضح جمال الدين بن شيخ كيف أنه مسلم حر في تفكيره، وأنه عربي لا يفرط في حبه للعربية ولا في فكرها وآدابها قديماً ولا حديثاً، وأنه تعلم من الثقافة الفرنسية من طريق الكتب قيم الحرية والمساواة والأخوة التي لم يكن لها أثر في سلوك المستعمرين الفرنسيين تجاه الجزائر."فالغرب، الذي كان يتكشّف لي، كان يعلمني ألا أكون مخدوعاً بسرابه وأن أبقى كما هو أنا دون أن أكون مخدوعاً بأهلي". ذلك هو الدرس الكبير الذي نادراً ما تم فهمه من طرف نخبة عربية افتقدت وعياً نقدياً هو مدخل القراءة الحديثة للعلاقة بين ثقافتين وبين حضارتين. لذلك فإن بن شيخ كان واضحاً في موقفه. هكذا كتب:"نحن لا نلغي اختلافاتنا التي لا سبيل إلى التوفيق بينها، بل علينا أن نبني صداقة لا تدين لأي حساب". وينهي النص بخلاصة تأكيدية، هي بمثابة إعلان صريح عن واقع وعن مستقبل:" إنني، في كامل وجودي، عربي غير قابل للاختزال، فرنسي غير قابل للاختزال، بهذه الحركة الثنائية للفكر الذي يختار حريته في ما يحثه على الابتهاج لا في ما يبتره". أنبه على هذا النص لتفرده في تاريخ الثقافتين العربية والفرنسية. فمن خلاله، لا نقف عند رؤية مثقف جزائري، يعيش مهاجراً بمحض حريته في فرنسا، بل نطلع على رؤية يمكنها أن تتسع لتشمل العلاقة الصعبة والمركبة بين الثقافتين العربية والغربية في عصرنا الحديث. بموقف كهذا، كان جمال الدين بن شيخ يصدر عن معرفة قوية بتاريخ الثقافتين العربية والفرنسية من جهة، ويصدر عن حياة نضالية في كل من الجزائر في العهد الاستعماري وفرنسا في آن. إن الصدور عن هذه المعرفة وحده لم يكن كافياً لولا وجود الخلفية النضالية، التي كانت لجمال الدين بن شيخ، في الحالتين السياسية والثقافية، على السواء. نص قصير ولكنه مكثف إلى أعلى درجات التكثيف، مكتوب بفرنسية رفيعة، لا يتقنها إلا كبار الكتاب الفرنسيين. وجمال الدين بين شيخ كان محباً للغة، العربية والفرنسية، ولكنه كان يمارس كتابةَ لغة عليا بالفرنسية. وهو ما أعطى لهذا النص مرتبة استثنائية في جودة الدفاع عن الموقف الذي أراده لا لنفسه فقط، بل لجميع المهاجرين الجزائريين الذي وهبوا حياتهم لفرنسا دون أن تعطيهم فرنسا شيئاً مما تنادي به قيمُ الثورة الفرنسية، من حرية ومساواة وأخوة. دفاع فكري وسياسي في آن. ولكنه دفاع ارتفع إلى مستوى الثقافي والحضاري، عندما أصر على إثبات الحق في الاختلاف والحق في بناء صداقة لا تتكئ على نفعية كيفما كانت نوعيتها. إنه معنًى جمعَ فيه جمال الدين بن شيخ بين الشخصي والجماعي، بين المغاربي العربي المسلم والفرنسي، بين التعلم من الآخر والحرية تجاه الآخر كما مع الذات، بين الحضاري وبين السياسي. وهو في كل ذلك كان، من حيث يدري أو لا يدري، كان يبني لوعي جديد ينشأ بين طرفين وبين ثقافتين وحضارتين، أساسه الصداقة. عندما كنت قرأت هذا النص لجمال الدين بن شيخ، منشوراً جنب نص أندري ميكيل، أدركت بُعداً آخر من أبعاد الحياة الثقافية والنضالية لجمال الدين بن شيخ. لم يفاجئني النص في شيء، ولكنني جعلت منه بياناً حضارياً سياسياً لزمن مقبل صعب. ولم يتأخر هذا الزمن الصعب عن المجيء. لكننا نسيْنا نص جمال الدين بن شيخ. بل أكاد اجزم بأن لم يكن له أي صدى آنذاك في العالم العربي. ونسيانه، اليوم، يدل على عدم معرفتنا. من يطلع على أعمال جمال الدين بن شيخ يفهم معنى هذا النص، الذي يدلنا، هو الآخر، على طريقة مختلفة في فهم أعماله. لقد جاء جمال الدين بن شيخ إلى الجامعة الفرنسية من باب الدراسات الاستشراقية، في الحقل الأدبي. ويمثل عمله عن الشعرية العربية مشروع قراءة نقدية للاستشراق الغربي عامة، والفرنسي خاصة. نقد لم يوله العرب ما يستحق من العناية. إن جمال الدين بن شيخ اشتغل في مجال لا ترى عن قرب خطورته، رغم أنه تناول الشعر، الذي هو أكبر خطاب أنتجه العرب. فهو لم يشتغل على الخطاب الفكري، كما هو حال محمد أركون، ولا على الخطاب الاستشراقي الموسع، كما هو حال إدوارد سعيد. لذلك لم ينتبه العرب لأهمية هذا العمل. كنت تعرفت على هذا الكتاب سنة 1974، عندما قصدت جامعة السوربون لتهييء عملي الأكاديمي عن الشعر المغربي المعاصر. لم يكن الكتاب صدر آنذاك عن دار أنتربوس. كنت اطلعت عليه وهو لا يزال مرقوناً. وقد توقفت كثيراً فيه عند وعي نقدي لا يتساهل في التفاصيل، التي لا يوليها الدرس الأكاديمي العربي الاعتبار. لكن ما كان أثارني هو الحوار النقدي مع الاستشراق الغربي، والفرنسي منه على الخصوص. فلأول مرة أطلع على عمل عربي مكتوب بالفرنسية ذي نزعة نقدية للاستشراق. وهو، في هذا، بعيد من مؤلفات عربية جعلت من الاهتداء بالاستشراق طريقها نحو الكلام باسم الثقافة العربية. مرت فترة وعيني على ترجمة هذا العمل، حتى يطلع العرب على باحث أسدى للثقافة العربية ما لا يخطر لهم على بال، من حيث المعرفة ومن حيث الجرأة النقدية. وأنا سعيد بأن أكون حرصت على أن يترجم الكتاب وينشر في المغرب، تحية رمزية لجمال الدين بن شيخ، ابن مَرْسْ السلطان بالدار البيضاء. كتاب الشعرية العربية عمل كبير، ولا يمكن للثقافة العربية أو الغربية أن تستغني عنه لفترة طويلة. على أن هناك ثلاثة أعمال أخرى من أكبر ما أنجز بن شيخ. هناك جمعه وترجمته لكتاب الإسراء والمعراج تحت عنوانه الأصلي الحلم الوهّاج والحديث الهيّاج بمعجزة الإسراء وقصة المعراج، الصادر في طبعة فاخرة عن منشورات المطبعة الوطنية سنة 1988. وهو يضيء الرؤية التي يعتمدها بن شيخ في التعامل الخَشوع مع الثقافة الإسلامية. ثم ألف ليلة وليلة، الصادر هذه السنة ضمن سلسة لابلياد، التي هي رمز للأعمال الإنسانية الكبرى. وما كان يهدف إليه بين شيخ هو تحرير هذا العمل من الرؤية الاستشراقية الاختزالية، ويحرره أيضاً من المحاصرة في الثقافة العربية، على السواء. ولكن هناك عمل آخر، سيصدر في السنة القادمة عن دار غاليمار نفسها وضمن السلسلة نفسها لابلياد. إنه مجنون إلزا للويس أراغون. بهذا العمل يثبت جمال الدين بن شيخ ما صرح به في نصه البيان. معرفة بالثقافة والأدب العربيين لا تقل عن معرفة بالثقافة والأدب الفرنسيين. واشتغال جمال الدين بن شيخ على عمل أراغون مجنون إلزا يكمل الرسالة الكبرى التي وهب حياته من أجلها، رسالة الصداقة. فلديوان مجنون إلزا وضع خاص في أعمال أراغون وفي الثقافة الغربية عموماً. إنه الوجه المشرق لقراءة مبدعة للثقافة العربية ولتاريخ الأندلس وللعلاقة بين الشرق العربي والعالم الغربي الأوروبي. ولربما كنا لا نعثر، اليوم، على كتاب أعمق من هذا الكتاب في نشر رؤية عاشقة للثقافة العربية وللحضارة الإسلامية الأندلسية. عندما أخبرتني كلودين بهذا النبأ انتبهت إلى أن بن شيخ أنجز في حياته اكبر ما كانت نفسه تحرص عليه وما كانت تهفو إليه. الشعرية العربية. الإسراء والمعراج. ألف ليلة وليلة. مجنون إلزا. جميعها ستبقى علامات على قامة شامخة في الثقافة العربية الحديثة. هذه الصورة عن بن شيخ هي التي كنت منشدّاً إليها منذ البدايات، عندما تعرفت الى عمله الجامعي وعندما التقيته أول مرة. ما زلت أتذكر. كان عبدالكبير الخطيبي، وهو الذي كان أشرف على رسالتي الجامعية الأولى عن الشعر المغربي المعاصر، طلب مني أن أسلم نسخة من الرسالة لجمال الدين بن شيخ قصد المراجعة، قبل الموافقة على مناقشتها. كنتُ آنذاك متوجها إلى بيروت، من طريق باريس، لحضور مؤتمر اتحاد الكتاب اللبنانيين. كان استقباله لي مفاجئاً. فوجئت بأن بن شيخ يستقبلني في بيته وأنه يعرفني معرفة جيدة. كان يقرأ ما كنت أنشر من قصائد أو دواوين. يتابع مجلة الثقافة الجديدة. وبترحيب قبل مراجعة الدراسة. عند العودة من بيروت، كان وضع ملاحظاته. وهنا أخبرني بما لم أكن أعرفه. ذكر لي أن اجتهادي في التعامل مع البنيوية التكوينية قريب مما أقدمت عليه باحثة إنكليزية. كان يعلم أنني لا اعرف تلك الباحثة ولا عملها. وهو كان يريد أن يشجعني على المضي في العمل بالحماسة نفسها التي لاحظها في الدراسة وبالصرامة نفسها المنهجية التي كنت أعثر على نفسي فيها. تلك الجلسة الأولى، بين ذهاب وإياب، كانت لي درساً لا يتوقف صداه حتى الآن عن إثارة المشاعر القوية تجاه جمال الدين بن شيخ. ولم أتردد، وأنا أقبل على تسجيل أطروحتي الجامعية الثانية عن الشعر العربي الحديث، من طلب إشرافه عليها. قبوله كان من لحظات السعادة. ما كان يهمني هو أن أتعلم منه كيف أتعامل مع ثقافة شعرية تنتمي لثقافتين عربية وغربية، في زمن بروز العلامات الأولى من الاضطرابات النظرية والمنهجية في حقل الدراسة الشعرية، على الخصوص. كان اختياراً مُضنياً. لكنني معه كنت كل مرة أتعرف الى ما لم أكنْ أعرف أو كنت أستفيد من سؤال أو تحليل أو موقف نظري. جلساتُنا العلمية كانت تطول لساعات، وأنا فيها كنتُ مغتبطاً بالتعلم. كذلك كنت وكذلك أبقَى. مغتبطاً بالتعلم. هناك في باريس، في بيته، كانت الجلسات العلمية تمتزج بقراءات شعرية وبحوار يمس القضية الفلسطينية أو الحرب اللبنانية أو الوضعية المصرية أو الحياة الجزائرية أو المغربية. نتناول الرواية مثلما نتناول السينما أو المسرح أو الموسيقى. نتحادث في الأمر الفرنسي مثلما نتعامل مع الأمر العربي. في جلسات كانت مفتوحة على حرية الاختيار النظري وعلى الثقة المتبادلة. أربعون يوماً على وفاة جمال الدين بن شيخ. وذلك الصمت الذي لازمني يبقى في داخلي متكلماً. في داخل داخلي. هناك ما لا أستطيع خيانته. الصداقة والتعلم. وهما من أنبل ما كان لي مع جمال الدين بن شيخ في زمن عاصف. وفي مكان عاصف أيضاً. باريس. كلما تذكرت عدت لأصمت. لا أصدق أن قسطاً من حياتي، بل حياتي العلمية، كانت على الدوام ترافق جمال الدين في المعرفة والسؤال. في الحرية والصرامة. في الاجتهاد والنشوة. أراه يضحك. ونحن معاً نردد الضحكات. بكلماتنا التي اعتدنا أن نتبادلها، بين باريس والمحمدية والدار البيضاءوالرباط. هناك. كل مرة. صورة إنسان أحب ثقافته العربية ودافع عنها بالمعرفة والإنتاج مثلما انطلق نحو ثقافة فرنسية غربية ينتزع منها ما لا تريد هي أن يكون حقّاً لمغاربي، مهاجر، هو اسمُ كلّ واحد منا.