مرة أخرى تعود حكايات"ألف ليلة وليلة"إلى الواجهة في باريس. فقد أصدرت دار"غاليمار"في سلسلتها الشهيرة"لابلياد"الترجمة الفرنسية الجديدة لحكايات"ألف ليلة وليلة"، وكان عمل عليها ولسنوات طويلة كل من الكاتب والأستاذ الجامعي الجزائري جمال الدين بن شيخ والمستعرب الفرنسي أندريه ميكال. والجزء الأول الذي صدر من"الحكايات"والذي سيليه جزءان آخران، يحتوي على ثلاثمئة وسبع وعشرين ليلة، وهو يتصدر اليوم واجهات المخطوطات والصور المستوحاة من"الحكايات"وأغلفة الكتب القديمة، وقد جمعتها وعلقت عليها الباحثة الفرنسية مارغريت سلوفان. يقدم أندريه ميكال الكتاب من خلال مراجعة شاملة، تضع الحكايات في إطارها التاريخي والجغرافي. فيعود إلى ولادة هذه المجموعة من"الحكايات"وهي ولادة محفوفة بالأسرار. فالشهادة الأولى التي وردت عنها تطالعنا في القرن العاشر مع المسعودي الذي يأتي على ذكر كتاب بعنوان"ألف خرافة"، والمعروف عند عامة الناس تحت اسم"ألف ليلة وليلة". ولا ينسى ميكال أن يتحدث عن الأماكن التي لعبت دوراً في صوغ هذا النسيج المتشابك من بغداد والقاهرة ودمشق وإيران والهند. ومع ذلك ستشهد الحكايات ما يشبه الخسوف لمئات السنين حتى لو كان بعضها يروى على لسان الرواة هنا وهناك في العالم العربي... وهنا لا بد من الإشارة الى أن الترجمة الجديدة تختصر جهداً كبيراً استغرق من ميكال وبن شيخ عقوداً من الزمن. وهما، من موقعهما كباحثين أيضاً عملا على تقديم دراسات معمقة حول"الحكايات"نشر بعضها في كتب عن دار"غاليمار"قبل أن تصدر الترجمة الحالية. وصدرت منذ سنوات ثلاثة أجزاء من الترجمة ضمن سلسلة كتب"الجيب"قبل أن تصدر في حلّتها الجديدة الراقية. وهي المرة الأولى يصدر فيها كتاب عن دار"غاليمار"في سلسلة كتب"الجيب"قبل أن يصدر في سلسلة أخرى يبدأ معها عادة إطلاق أي كتاب جديد في الدار. فكيف إذا كانت هذه السلسلة هي"لابلياد"المتميّزة بأناقتها وخصوصيتها وتشكل علامة مضيئة في النشر الفرنسي؟ الترجمة الجديدة إذاً تمثّل محطة بارزة في سياق الترجمات التي عرفتها فرنسا منذ القرن الثامن عشر حين عمل المستشرق الفرنسي أنطوان غالان على تقديم الترجمة الفرنسية التي كانت منطلقاً للترجمات الأخرى التي جاءت بعدها ليس فقط في فرنسا بل في الدول الأوروبية كلها. بل يمكن مقارنتها مع الترجمات الأخرى التي صدرت في أوروبا في القرنين الماضيين. في مطلع القرن الثامن عشر اكتشف غالان حكاية السندباد البحري، وكانت بداية تعرّفه الى تلك الحكايات التي سحرته، فراح يستعلم حولها ويبحث عن مصادرها، ثم أدرك أنها تنتمي إلى مجموعة أوسع بكثير، فطفق يبحث عنها بشغف ومثابرة إلى أن وجد في سورية مخطوطاً يرجع تاريخه إلى القرن الخامس عشر وبدأ في ترجمته منذ العام 1704. ولم يكتف غالان بالمخطوط بل استند أيضاً إلى مرويات محكية أضافها إلى الكتاب. ولم يكن غالان يدرك أن هذه الترجمة، ستلاقي وبسرعة كبيرة، النجاح الذي لاقته في فرنسا وأنها ستكون الأساس الذي سيعتمد عليه المترجمون الأوروبيون كما ذكرنا. وإذا كانت اللغة التي اعتمد عليها أنطوان غالان في نقل الحكايات تأخذ في الاعتبار بلاغية القرن الذي جاء فيه واعتباراته الأخلاقية، فإن لغة جمال الدين بن شيخ وأندريه ميكال هي لغة القرن الذي نعيش فيه، وهي مشبعة بوعي نقدي لوظيفة اللغة ودورها، وهي تأخذ في الاعتبار العلاقة المتشابكة بين المحكي والمكتوب في"الحكايات". نشير إلى أن المترجمين لم يستندا في عملهما إلى مرجع واحد وإنما اعتمدا عدداً كبيراً من المخطوطات القديمة لا سيما الموجودة في المكتبة الوطنية في باريس. أما بالنسبة إلى اللغة فيعتبر بن الشيخ أن ما أعطاها زخماً في هذه الترجمة ليس فقط المقدرة اللغوية التي تتماشى مع الحكايات وبأسلوب حديث، بل أيضاً معرفة التراث العربي وثقافته والعقلية التي جاء منها. في هذا السياق ترجم إلى الفرنسية الكثير من نصوص الشعر العربي القديم والجديد، اضافة إلى ترجمته للحلاج وابن خلدون وكل هذه الترجمات ساعدته في مشروع ترجمة"ألف ليلة ولية"، فضلاً عن تخصيصه كتاباً نقدياً عن"الشعرية العربية"ويشكل مرجعاً مهماً حول الموضوع. ولا ينظر بن شيخ إلى هذا المشروع على أنه مجرد مشروع أدبي ولغوي بل كذلك على أنه مشروع حضاري يكشف عن الطاقات المبدعة لدى العرب القدامى. وإذا كان يشير إلى بعض مضامين حكايات"الليالي"فذلك لكي يظهر هواجس الذين كتبوها أو رووها، وهم يختصرون الضمير الجماعي لمجتمعاتهم. ومن أبرز تلك الهواجس الحرية والعدالة الاجتماعية والحب والنوازع الحسية. والترجمة الجديدة ل"ألف ليلة وليلة"لا تغفل أبداً هذا الجانب الحسي، كما وردت في المخطوطات الأصلية، ولا تحجب عن القراء الأبيات الشعرية الواردة في الحكايات، وهذا ما لم يجرؤ عليه المترجم الأول للكتاب إلى الفرنسية ألا وهو أنطوان غالان الذي عمل في ترجمته على مراعاة التقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة أذاك. أما الترجمة التي قام بها رينيه خوام للأشعار من ضمن ترجماته لپ"ألف ليلة وليلة"فكانت ترجمة حرفية أكثر مما هي ترجمة فنية. ويعتبر أندريه ميكال في مقدمة الترجمة أن مشروع ترجمة"ألف ليلة وليلة"اليوم إلى الفرنسية يبيّن الثراء المذهل للثقافة العربية والإسلامية في مرحلة تاريخية معينة وتنوّع تلك الثقافة وقدرتها على استيعاب الثقافات الأخرى والتفاعل معها. إنّها في الواقع رد فعل على لحظة الظلام التي يعيشها العالم العربي اليوم، وهي كذلك رد فعل على الأفكار المسبقة التي يحملها الغرب حيال الشرق. وهنا يمكن أن نفهم أحد المحرضات الأساسية على العمل المثابر والطويل على هذا الكتاب. وهذا ما أوضحه المترجمان في كتبهما النقدية التي سبقت صدور هذه الترجمة النفيسة، وهذا ما أودعه جمال الدين بن شيخ كتابه القيّم"ألف ليلة وليلة أو الكلمة المسجونة"، وفيه يبرز الدور الذي يمكن أن تلعبه الكلمة ليس بصفتها جسراً للقتل والموت بل جسراً للزهو والحياة. وهذا ما يعيدنا إلى بداية"الحكايات"التي تروي قصّة شهرزاد التي استطاعت بلغتها وقصصها وسعة معرفتها واطلاعها أن تغوي الملك شهريار وتجعله ينحرف عن مشروعه الجهنمي الذي كان يقضي بأن يتزوج كل ليلة من امرأة ويقتلها عند الصباح وذلك انتقاماً من زوجته الملكة التي خانته. إنها بالفعل "الكلمة المسجونة" التي استطاعت أن تتحرّر من العقاب القاتل وتحرّر بنات جنسها في آن واحد.