في روايته السابعة "مديح الهرب"، يعود خليل النعيمي ليمنح من المادة الخام الاثيرة لديه: سيرته الذاتية التي طالعتنا مراحل منها في "الشيء" و"الخلعاء" و"تفريغ الكائن" و"القطيعة". وهي سيرة تمتزج بالتخييل والكتابة المنفلتة من قيود الحبكة والتواتر الزمني. لذلك تبدو نصوصه اقرب الى التخييل الذاتي في اعتباره مزجاً بين المعيش المرتبط بالسيرة، واسقاط مواقف متخيلة على الذات، تجعلنا نتحرر من التطابق مع ما عاشه من احداث، وتسعى عبر الكتابة، الى ان تضع موضع تساؤل الهوية والذاكرة واحادية "الأنا". ويستوحي النعيمي في "مديح الهرب"، فترة تجنيده في الجبهة بصفته طبيباً متخرجاً حديثاً من الكلية. لكن النص لا يقتصر على تجربة الطبيب الضابط في الجبهة، بل يتسع ليستحضر مرحلة الطلابية في دمشق صحبة ثلاثة اصدقاء، ويمتد افقياً ليتسائل ويحاكم تجربة حزب البعث الذي استندت اليه الدولة عقوداً عدة افضت الى مصادرة الكائن، واستعباد الناس. يعتمد بناء النص، اذاً، على سردين متوازيين، دائماً عبر ضمير المتكلم: المستوى الاول المتصل بالحاضر في الرواية، يحكي عن تجربة السارد في الخيمة العسكرية في قرية "انخل" قرب حوران، حيث يستقبل المرضى من الجنود وساكني المنطقة، كما يحكي عن علاقته بالعقيد ريمون والمقدم يونس ومعاملتهما له من موقع سلطة الجيش المتحكم في كل الرقاب حتى ولو تعلق الامر بطبيب الجبهة. والمستوى الثاني من السرد، يأتي في شكل استطراد وتذكر للحظات من حياة السارد، منذ وصل الى دمشق آتياً من بلدته "الجزيرة"، ويستحضر علاقته مع اصدقائه الثلاثة: انور البعثي المتعصب، واسعد الذي انتحر احتجاجاً على القهر، ورشاد الدكتور المشرف على السرية الطبية بالجبهة، والذي اطعم رؤساءه العسكريين حماراً في وليمة دعاهم اليها، فقتله المقدم برصاصة من مسدسه. على هذا النحو، فان الخطين السرديين اللذين يبدآن متباعدين، يأخذان بالتقارب من خلال وجود رشاد هو الآخر في الجبهة، واستدعائه السارد لحضور الوليمة - الخدمة التي اراد الانتقام فيها من قادة الجبهة المتغطرسين. هذا ما يجعل السارد، باعتباره المركز الذي تنطلق منه خيوط السرد وتلتقي عنده، يعمد الى هدم الحواجز بين ماض وحاضر، والانتقال بعفوية من فترة زمنية الى اخرى. في المستوى الاول، اذاً، نرتاد فضاء قرية انخل والخيمة العسكرية الطبية المرسومة في الخلاء بتجهيزات شبه منعدمة ونلتقي زكي "حاجب" الطبيب السارد، وسائقه، ثم العقيد ريمون والمقدم يونس وسلوكاتهما الغريبة، والنساء اللاتي يتذرعن بالمرض لإرواء اجسادهن الظامئة على يد الدكتور المستعد دوماً لتقديم هذا النوع من "العلاج" وما يرافقه من تأوهات ! مشاهد تتكرر كل يوم، والجبهة هادئة على رغم مرور ثلاث سنوات على "الهزيمة التاريخية"، والعقيد والمقدم يمعنان في اذلال الطبيب السارد الذي لا يجد متنفساً سوى في المشي طويلاً عبر حقول الحنطة والشعير المحيطة بالقرية، و"معالجة" النساء. لكن السارد يحس انه مأخوذ لا يزال في شرك الافق المسدود والخضوع لواقع الاهانة والتحقير: "ومَن يجرؤ على ادعاء امتلاك حريته الشخصية في بلد لم يهيئ الحرية لكل رعاياه، ولم يتخلص من تواطؤه مع التاريخِ ص24. وما دام النص يتعلق بسيرة ذاتية مسبوكة في شكل روائي، فان كاتبه لا يريد ان يظل منحبساً داخل حياة المعسكر الرتيبة، ومع لقاءات النساء المتعطشات للجنس. من ثم يأخذ السرد في حفر اخاديد اخرى ليستحضر فترة الدراسة بكلية الطب، وحوارات الاصدقاء الاربعة، والمغامرات الجنسية والعاطفية، واحلام الثورة المجهضة... للزمن امتدادات، بطبيعة الحال، في الماضي البعيد والقريب، والكتابة عن مسار حياة تقتضي فهم اللحظات الزمنية المتباينة ومحاولة تأويلها انطلاقاً من الحاضر، كما يفعل النعيمي في "مديح الهرب". لأجل ذلك، فان المستوى الثاني من السرد لا يقتصر على استحضار احداث ومغامرات وحوارات، عاشها السارد مع اصدقائه الثلاثة ومع نساء عديدات في دمشق، بل يسعى الكاتب الى تبريز ذاته بقوة من خلال الافكار والتصورات والتأملات المرافقة لما عاشه منذ التحاقه بالكلية، والتي تسعفه على الانتقال من منفى الى آخر: "الاحساس التراجيدي" بالنفي الداخلي الذي لا خلاص منه الا "بنفي خارجي"، سيحصل في ما بعد" ص196. على امتداد الرواية، تطالعنا افكار وتأملات مصاغة في شكل "اطروحات" تأكيدية، استخلصها الكاتب من تجربته او من مقارناته، مثل: "كلنا كذلك. فليس التمرد ممكناً في شكل مجاني، ولا القطيعة. والعلاقة مع "الوطن" مثل العلاقة مع "الحبيب": خيانته لنا هي التي تحررنا منه ص 246. او: "وفجأة، تناهبتني الافكار" ادراك الواقع لا يمكن ان يبنى الا على ممارسته وليس للممارسة من حقيقة خارج قانون الرغبة ص138. تتسع فضاءات النص، اذاً، من خلال المستوى الثاني للسرد لتشمل فضاء البادية في الحسكة ونهر الخابور، ودمشق بمساءاتها ونسائها الجميلات، ولقاءات الاصدقاء في المقاهي لمناقشة كابوس الحزب الجامد الذي لا يتماشى مع سيولة الحياة اليومية، وغرف المواعيد السرية مع نساء متلهفات على الجنس، وسارد يأسره شبقه فيحس نفسه ضعيفاً امام فتنة الانثى... على رغم ان اكثر من مؤشر يشير الى طابع السيرة الذاتية في "مديح الهرب"، فان تجنيس هذا النص قد يقترب من الدقة اذا ادرجناه ضمن التخيل الذاتي، من منظور ان الكاتب يمزج السيرة بالتخييل، فلا يقتصر على سرد الاحداث والوقائع، وانما يضع الذات الساردة في مواقف ومشاهد تبتعثها وتعيد صنعها الكلمات، وتؤطرها حوارات متأججة بين الاصدقاء الاربعة، وتجعل صوت الكاتب اكثر حسماً في تأويل السيرة الذاتية ? الجماعية، من خلال "اطروحات" فكرية تنحو صوب التفلسف. ولعل ذلك ما جعل الكاتب يستدرك قائلاً: "وعلي ان اعترف بأني لم اخبركم بكل شيء، وليس ذلك ذنبي وحدي. انها مسؤولية الكتابة، ايضاً، فمشكلة الكتابة الاساسية هي التداخل او التيليسكوباج اللفظي او الحدثي عندما نكتب" ص296. هذا "التداخل" اللفظي والحدثي، هو ما يخلّص "مديح الهرب" من قيود السيرة الذاتية ليشرع امامها مغامرة اللغة، ويعفيها من التزام لغة محايدة "موضوعية". ان سمة التخييل الذاتي تتوافر في معظم روايات خليل النعيمي، وبخاصة في روايته "القطيعة" 1992 التي يفتتحها على هذا النحو: "أنا خليل النعيمي، من البوادي والسراح". بعبارة ثانية، فان اهم عناصر بناء "مديح الهرب" تطالعنا في نصوصه الاخرى، وبخاصة ما يتصل بافكاره الاطروحية التي تتخذ من الكائن وحريته، ومن الجنس والايروسية، ومن ضرورة التمرد على السلطة مقولات اساسية في استكشاف ازمة الانسان العربي، عبر استبار مسار حياته، هو. لكن المسألة التي تستحق المناقشة في "مديح الهرب"، هي طريقة الصوغ الفني للعلاقة بين المعيش والمفكر فيه، أي تلك المزاوجة التي يعمد اليها الكاتب بين السرد وشذرات الافكار التأملية. لقد احسست في بعض الاحيان، ان التأملات الفكرية تحد من رحابة المحكيات، وربما تختزل دلالاتها اذ تسجنها داخل فكرة او استنتاج فلسفي يبدد الايحاءات الغنية للسرد والتخييل، على نحو ما نجد في الفصول 30 الى 33، حيث يحكي الكاتب عن علاقته بفتاة سمراء صادفها في حقول المنطقة المحيطة بالمعسكر، واخذت تتردد عليه ليمارسا الجنس ويتبادلا الحديث. ولم ينتبه هو الى ان تلك الفتاة تتعلق به، لانه يذكرها بأخيها العسكري الصغير الذي قتل في الجبهة. هي تصدر عن مخزون عاطفي انثوي عميق، وهو مزنوق في خوفه وحذره من المرأة الانسانة: "فأنا، في الحقيقة، كائن هش، وصمدت وليس للمرأة. وبعد مجادلة بينهما، فوجئ بحساسيتها وادراكها لتعقيدات نفسيته، وجرأتها على مواجهته. عندئذ يعود هو الى "تأويل" يكسر التباس السرد الموحي. يجعلنا هذا التأويل لسلوكه، نحس ان الصوغ المفهومي قد نزع فتيل السرد الانتهاكي، الفاضح لنزعة تشييء المرأة عند الرجل. وهناك امثلة اخرى لا يتسع المقام لذكرها، جعلتني استشعر نوعاً من التعارض بين المنحى الانتقادي لهذه السيرة الذاتية التي تعري مساوئ الاستبداد والقيم الموروثة من خلال السرد التخييلي، وبين بعض التأويلات الفكرية لسلوك السارد التي تكتسي احياناً، طابع الرأي السائد الدوكسا، وتكاد تلتقي مع مقولات ثقافة حقوق الانسان المنتشرة اكثر فاكثر والتي تدافع عن حرية الكائن وضرورة احترام اختياراته. بعيداً من هذه الملاحظة، تبدو "مديح الهرب" نصاً يتعدى اطار السيرة الذاتية بمعناها التقليدي، لينفتح على نوع من التأريخ الوجداني عبر مسار الكاتب الذي، على رغم تحدره من بيئة فقيرة، فانه استطاع ان يقاوم التسلط الحزبي، والمحسوبية والاخصاء الجماعي، وان يتشبث بقيمة الحرية ليحقق ذاته بعيداً من "المنفى الداخلي", بينما كان مصير صديقيه اسعد ورشاد، الموت، فيما ارتاد انور الحزبي العتيد متاهة الجنون. بعبارة ثانية، امام مجتمع محكوم بالحديد والنار، لم يجد صاحب السيرة من وسيلة للنجاة سوى اتقاء سطوة الحزب، وتحرير الجسد بالجنس، في انتظار الهرب الى مجتمع آخر يتيح حياة متوازنة، ويحترم حرية الفرد ويحسسه بمسؤولياته تجاه الآخر. كأن الطبيب السارد هو تاج، باق على قيد الحياة، بعد هلاك اصدقائه، ويعود الى تلك الفترة المعتمة من حياة جيله ليضعها على المحك وليدعو الى تغييرها لانها لا تزال مستمرة بعد مرور ثلاثين سنة على مغادرته البلاد. عندما يستحيل العيش والكرامة في الوطن، ويصادر فكر الكائن، فان الهرب يبدو ? عند السارد ? هو الافق الممكن لمقاومة القتل والطغيان وفضح اعداء الحياة.