نتذكر الضجة التي رافقت صدور رواية «برهان العسل» لسلوى النعيمي، قبل سنوات،لأنها جرؤت على أن «تُمسرح» مشاهد وأقوالاً مأثورة من التراث العربي، لها صلة بالإروسية وشهوات الجسد، وأعادت صياغتها من خلال مواقف ومحكيات تجمع بين التخييل والمرجعية التراثية. وإذا اعتبرنا أن ما حظيت به هذه الرواية من إقبال او ترجمات إلى لغات أجنبية تضعها ضمن خانة «الأكثر مبيعاً»، فإن آراء النقاد انقسمت حيالها لأن بعضهم اعتبرها تدخل في نطاق الإثارة، وتسلية القراء غير الجادين، في حين رأى آخرون أنها تكشف عن جوانب «حيوية» من تراثنا تُظهر أن الجنس عنصر فاعل ومؤثر في تكوين الشخصية، ولا يجوز إخفاؤه والتستّر عليه باسم التّطهّرية العائقة لتحرر الجسد وبلورة العلائق الحياتية الصريحة. وهذا ما يفسر أن الرقابة، في بعض البلدان العربية، عمدت إلى منع الرواية... وتأتي الرواية الجديدة «شبه الجزيرة العربية» (رياض الريس، 2012) لتنقلنا إلى أجواء وتيمات مختلفة عن تلك التي تضمنتها «برهان العسل»، وإن كانت الكاتبة احتفظت بالجرأة ورشاقة اللغة ونداوة الأسلوب. تواجهنا في هذا النص، صعوبة تصنيفه لأن أكثر من عنصر يُدرجه ضمن السيرة الذاتية، إذ تلتقي الكاتبة مع الساردة في سمات مشتركة، مثل الانتماء إلى سورية والانتساب إلى أم مسيحية وأب مسلم، والعمل في مجال الصحافة والثقافة، والنزوح إلى فرنسا... لكن شكل النص يأخذ منحى المحكيات المنتقاة والكتابة الشذرية، تتَخلّلُهما تأملات في العلاقة بالوطن والأسرة والجسد، ما يجعل النص بعيداً عن البناء السير ذاتي-الروائي. في هذه الحالة، يمكن تصنيف النص ضمن التخييل الذاتي المتحرر من الحبكة والمعتمد على بنية مفتوحة، والذي يسمح بالانطلاق من الذات وتجاربها، سواء كانت معيشة أو متخيلة وهو ما يتيح للكاتبة أن تبتدع حكاياتها من دون تقيُّدٍ بواقع أو معيش: «ربما اكتفيتُ بالفرجة وزوّرتُ الحكايات. ما الفرق بين الحكاية الحقيقية والحكاية المُزورة؟» ص 83. وتأكيداً لهذا الاتجاه الذي يعطي الأسبقية للمتخيل ولنسيج الحكاية على صدقية الوقائع. تقول الساردة-الكاتبة :»كل ما عشتُ صار الحكاية التي حكيتها أنا. صارت هي المرجع. ما عشتُ لم يتحول إلى كلمات إلا في حكايتي أنا. الكلمات المكتوبة تحكي حكاية تخيلتها أنا وصدّقتُها أنا». ص 159. يتضح من هذه الإشارات وغيرها، أن الكتابة في هذا النص تختار أن تتموقع على التخوم، بين الواقعي والتخييلي، بين الجِدّي واللعبي، لأن الكاتبة لا تنذر نفسها لتغيير العالم، وهي توزع اهتمامها على كل ما يصلح لأن يضيف خيوطاً إلى حكاياتها، بما في ذلك ما تسميه «سفاسف الأمور»! على هذا النحو، يمكن أن نتوقف عند بعض الأحداث والمشاهد على أنها محكيات محتملة قد تكون لها علاقة بحياة الكاتبة، وقد تكون مجرد استيهامات وتوليفات، لكنها تفصح عن تصورات وردود فعل متصلة بالسياق والمسار اللذيْن رسمتهما الساردة لحياتها في دمشق ثم في مهجرها الفرنسي. من هذه الزاوية، نكون أمام ذاتٍ تتكلم بجرأة، مُعتزة ب «فرديتها»، مُصرّة على تشريح علائقها بالأسرة والوطن والشهوة والموت والحب المستحيل...هي تحكي وقائع وذكريات في شكل شذرات متناثرة، لكن صوت الذات المتكلمة سرعان ما ينبري ليطمس تلك المحكيات ويتركنا أمام صوت الساردة التي تتحدى كل الآخرين، بعد أن قررت أن تخرج عن صمتها وتجهر بما اضطرت أن تكتمه قبل أن تهاجر إلى فضاء الحرية. وأحياناً تؤوّل هي تحرّرها من قيود المجتمع بكونها تنتمي إلى عائلة من دون جذور: «الآفاق مفتوحة أمامي. لا ضغط ولا مقاومة لهذا الضغط. لا قمع ولا مقاومة لهذا القمع. درستُ وسافرت وعملتُ وأحببت وتزوجتُ وعشقت وكتبت دون أن أستشير أحداً في صغيرة أو كبيرة. ربما كانت هذه هي منافع أن تولد في عائلة من دون جذور. من دون طقوس. من دون تقاليد. في عائلة كبيرة عدداً، شرط أن تكون من الآخِرين لا الأولين». ص 97. مضى زمن الحكايات وهذا الانتشاء بالحرية يجعل الساردة تضفي على نفسها قدرات لا يمكن أن تتوافر لواحد من البشر: «مضى زمن الحكايات ويستبدّ بي فرح وحشي لأنني قادرة أن أرمي بعيداً كل ما يُكبلني كما أشوط بطرف حذائي حصاة في الطريق. شعور بالحرية لا يُضاهى. لا يمكن لأحد أن يأسرني، لا العائلة ولا الوطن ولا الحزب ولا الحب ولا الزوج ولا الولد ولا العمل...» ص 158. في الواقع، هذه المغالاة في التعبير عن طاقة الرفض عند الساردة، تعود إلى انبهارها وهي في مطلع الشباب، بمقولة «الفروق الفردية» التي اتخذت منها شعاراً ومثلاً أعلى، تحرص على التمسك به:»في العشرين أحببتُ رجلاً لأنه كتب بحثاً عن الفروق الفردية. سحرني التعبير. وجدتُ فيه مفتاحاً لفهم العالم. الفروق الفردية هي ما يميز الواحد منا عن الآخر. هي ما يجعلني أنا، ويجعلك أنت. أحببتُه وبحثت طويلاً عن فروقه الفردية. كان للبحث مفعول مُهيج وفكرته تثيرني جنسياً فأشتهي كاتبه وأبحث طويلاً عن فروقه الفردية، وأشخص حالتي منذ بدء التاريخ...» ص 153. يمكن، إذن، أن نعتبر التعلق بالفردية والافتتان بسماتها المميزة، البؤرة الموجِّهة لهذا التخييل الذاتي الباحث عن صوغ حكايات تُرمّم الذات الساردة، وتجمع مسالكها عند دلالة مركزية تضفي معنى على مسار هذه الحياة التي تصلنا منها نتف تتقاطع في بؤرة الرفض والتمرد على المؤسسات المعيقة لحرية الفرد: الوطن، الأسرة، الزواج. وهذا النزوع إلى إعلاء قيمة الفردية يشكل موضوعاً جوهرياً في الرواية العربية، وبخاصة في كتابة المرأة التي ترزح تحت ثقل المواضعات الاجتماعية الموروثة، المصادِرة لحريتها. وفي هذا الصدد، نتذكر على سبيل المثل «أنا أحيا» لليلى بعلبكي(1957)، التي كانت رواية لافتة في مجال إسماع صوت المرأة المتعطشة إلى ممارسة حريتها، ونبذ سلطة الأب، واستعادة حرية الجسد. وقد سلكتْ بعلبكي للتعبير عن الفردية وفروقها، شكل البناء الروائي المُجسد للعلائق والخطابات والقيم؛ بينما اختارت سلوى النعيمي نوعاً من التخييل الذاتي الذي ينطلق من «تأكيد» الساردة أنها نالتْ حريتها، وأن: «قيودي الاجتماعية خارجية أنفخُ عليها نفخة واحدة، عندما أريد، فتتطايَرُ كفقاعات الصابون» ص 158. فسحة التأويل يؤدي الخطاب المباشر، التأكيدي، إلى نوع من التجريد، بعكس الخطاب السردي الذي يترك للمتلقي فسحة التأويل. وهناك فقرات سردية في «شبه الجزيرة العربية» تحقق القصد المزدوج: متعة الحكي وَالإيحاء بالدلالة المتصلة بتحقيق الحرية الفردية الرافضة للوصاية على اللذة والجسد. ثمة فقرات سردية ممتعة نجدها متناثرة على امتداد النص الذي يستحضر، إلى جانب مسار الساردة نحو التحرر، علاقتها المعقدة بالوطن. إنها في المهجر لا تحس بأي حنين إلى العودة، بل إنها تكتب فصلاً ضد أوليس، وسندباد والابن الضّال، وكل الذين حلموا بالعودة إلى أوطانهم؛ هي تريد أن تدافع عن حق اللاعودة لأن الوطن ملأ نفسها مرارة لا تُحتمل :»لماذا عليّ أن أقبل القهر المجاني والذل اليومي والموت التاريخي فداء لحب الوطن؟ الوطن بحاجة إليّ قال جعفر؟ لو كان بحاجة لي لما أغلق أبوابه في وجهي. لو كان بحاجة لي لسمح لي أن أتنفس دون خوف. لو كان. لو كان. أريد تأسيس حق اللاعودة» ص 72. على ضوء هذه القراءة، يبدو أن سلوى النعيمي هي بصدد البحث عن شكل روائي يتيح لها تعميق الرؤية التي تصدر عنها في انتقاد التطهرية والنفاق الاجتماعي، وأخلاق القطيع التي تلغي قيمة الفردانية في مدلولها الإيجابي. وإذا كانت تجربة «برهان العسل» قد تكلّلت بتحقيق انتشار واسع، فإن ما بعدها يتطلب من الكاتبة جهداً أكبر في بلورة الشكل، وتعميق دلالات الخطاب الروائي الجامع بين المتعة والتحريض على التفكير. ولا شك في أن طاقة سلوى الشعرية وتجربتها الحياتية ستمُدّانها بأسباب النجاح في مضمار الكتابة التي توسع انتشار الرواية على أسس أكثر صلابة وتجديداً.