لا يخفى على من يتابع الحركة الفنية في تونس، التراجع الذي شهدته مهرجاناتها العريقة: تراجع ملحوظ على مستوى العروض المقدمة ونوعيتها، فضلاً عن غلبة طابع الارتجال، والميل إلى الحفلات التجارية واكتساح مطربات"الإثارة"صرح مدرجات قرطاج وبنزرت والحمامات وغيرها. فقدت تلك المهرجانات لمعانها، فابتعد عنها جمهور كرّسه في سنوات سابقة فنانون كثر، وأعطى لتونس مكانة مرموقة عند كل مطرب ودّ تسجيل علامة ذهبية في سجله الفني. باتت عروض السنوات الماضية شبه خالية من الحضور، وصعدت إلى المسرح أسماء لم تكن تحلم بمخاطبة جمهور تونس، فوقعت المهرجانات في إفلاس ثقافي ومادي مخيف. هذه السنة، انفرجت أسارير الكثيرين من المتابعين لفاعليات مهرجان قرطاج، بعد أن وعدت إدارة المهرجان بإعادة تكريس الفن الجاد ورفع لواء الأصالة التي تميز بها المهرجان في السنوات الأربعين الماضية، وذلك عبر عودة أسماء كبيرة"يحترمها"الجمهور، وأخرى تونسية ترفع لواء التراث وتسلط الضوء على الفنون المحلية. وقدم المهرجان لشركة"روتانا"ست حفلات فقط، في محاولة للمحافظة على بعض العروض الجماهيرية التي تستطيع الشركة المنتجة توفيرها عبر فنانيها"الضاربين"... عادت إلى قرطاج هذه السنة أصوات لافتة مثل لطفي بوشناق، نبيهة كراولي، أمينة فاخت، زياد غرسة... حفلة الافتتاح كانت تحية إلى فرقة الرشيدية، قدم فيها الفاضل الجزيري مقطوعات من المألوف التونسي وشارك فيها كل من لطفي بوشناق ولطيفة ونوال الغشام. كما كرّم المهرجان، نخبة من رواد الموسيقى التونسية مثل علي الرياحي والهادي الجويني. فضلاً عن ذلك، سجل برنامج المهرجان مشاركة نجمات عالميات مثل باتريسيا كاس الفرنسية، وميريام ماكيبا الجنوب الأفريقية، وإيزابيل بوليه الكندية. أما بالنسبة إلى"روتانا"، فالمسألة أيضاً اختلفت هذه السنة، وانتقت الشركة عدداً من الأصوات الجملية التي ترفع راية الأصالة مثل أنغام وأصالة ونبيل شعيل وفلّة وغيرهم... وسط عمليات المدّ والجزر التي يشهدها المهرجان، ووسط الأخبار التي تتناقلها الصحف يومياً عن تفاوت نسب حضور الحفلات، وتسجيل بعضها نسباً أقل من المتوقع، وانتقاد صحف محلية لديكور بعض الأمسيات وأسعارها، تخوض الرهان فنانات من أبرز مطربات الساحة الغنائية اليوم. عادت لطيفة إلى قرطاج بعد غياب دام أربع سنوات، وقدمت في ليلة الافتتاح أغنيات تراثية، قبل أن تعتلي خشبة المسرح مرة ثانية يوم 14 الجاري، لتقدم سهرة خاصة، حرصت فيها على مشاركة بعض الفنانين التونسيين الغناء معها، مثل أحمد حمزة وسُلاف، وصفوة وعدنان الشواشي. كما قدمت أغنية وطنية جديدة، بمشاركة الحضرة التونسية... لكن وسائل الإعلام تحدثت أيضاً عن حضور أقل من المتوقع. في الجهة المقابلة، حجب الإعلام الضوء عن مشاركة المطربة المغربية سميرة سعيد، في حين اعتبر الكثيرون أن مشاركتها في قرطاج ستكون مميزة، نظراً للمكانة التي تحتلها عند التونسيين، فضلاً عن صوتها الثري بالآهات الموسيقية وحرصها على شد المتلقي أينما كان، مع أغان حاكت الموجة الشبابية بأسلوب شرقي أصيل. بقيت على حلبة المنافسة، حفلتان لفنانات الصف الأول، أولها مع أصالة التي تغني مساء غد، برفقة الملحن والمطرب اللبناني مروان خوري. تطل أصالة على جمهور قرطاج بأغاني ألبومها الجديد"عادي"، ويعوّل القيّمون كثيراً على الحفلة، خصوصاً أن صوت أصالة محبب لدى الجمهور التونسي الذوّاق الذي يقدر مشوار صاحبة الحنجرة الذهب وأسلوبها الملتزم بتقديم الأعمال الجيدة فقط. فضلاً عن أصالة، تعود أنغام إلى قرطاج، صاحبة الصوت الدافئ. حينما غنت المطربة المصرية قبل سنتين في قرطاج، حققت النجاح عندما أطلقت أغنيات ألبومها الجديد آنذاك"ليه سيبتها". نشأة أنغام في عائلة فنية وعلاقتها بوالدها محمد علي سليمان تجعلان التونسيين يضعونها دوماً في مصاف نجوم الغناء الكبار. رهان قرطاج مستمر والعروض العالمية لن تنته قبل منتصف الشهر المقبل... تحديات كبيرة يعيشها القيّمون، وأسئلة كثيرة يطرحها المتابعون حول ملل الجمهور من المهرجانات ومسيرتها. ولكن وهج قرطاج يبقى مختلفاً، فهل تنجح أنغام في تكريس نمطها الكلاسيكي مرة جديدة هناك، وتكون لعودة أصالة إطلالة خاصة؟