مثلما حدث في أزمات سابقة يطغى على الأداء الفلسطيني تجاه أزمة غزة أسلوب ردود الأفعال الانفعالي والبحث عن تسويات جزئية أو حلول موقتة تغطي الهروب من مواجهة التحديات الحقيقية وما تحمله من خيارات. وقبل الخوض في معالم هذه التحديات، لا بد من الإشارة إلى الرفض الشعبي العارم والإدانة الكاملة للاقتتال الداخلي ايا كانت دوافعه، فهو خط احمر لا يسمح بتجاوزه مثلما انه جريمة في حق الشعب الفلسطيني ومستقبله، خاصة حين يراهن شارون العالم على ان الفلسطينيين سيذبحون بعضهم بعضا حالما يعيد الانتشار من غزة. لكن حدة اللحظة يجب أن لا تعمينا عن جوهر التحديات الاستراتيجية التي تواجهنا. التحدي الأول: كيف يمكن الحصول على الحقوق الوطنية الفلسطينية في ظل اختلال حاد وهائل في توازن القوى لصالح إسرائيل على الأصعدة العسكرية والاقتصادية والدعائية والإقليمية؟ وهل دور السلطة محصور في إدارة شؤون الناس وضبطهم حيثما تسمح إسرائيل بذلك، وبانفصال عن قوى واليات وأهداف حركة التحرر الوطنية الفلسطينية؟ ليس من الممكن القبول بمنطق ان التضحية من اجل الوطن والتظاهر ضد جدار الفصل العنصري ومقاومة الاحتلال والاعتقال في السجون والدفاع عن الأسرى والمعاناة على الحواجز هي من واجب البعض اما إدارة المقدرات الاقتصادية وموازنة السلطة والإعلام والمفاوضات والتمثيل الديبلوماسي فإنه من صلاحيات بعض اخر، وبانفصال شبه تام. ولا تمكن إدارة كفاح ناجح ضد جدار الفصل العنصري والاحتلال وتهويد القدس في ظل انفصام صارخ في قوى ومقدرات الشعب الفلسطيني. كما لا تجوز إعادة تشكيل هذا الانفصام الذي يشبه انفصام الشخصية لدى مرضى الشيزوفرينيا بعد تجربة اوسلو البائسة. لقد كرس اوسلو انفصاما غير طبيعي ساد لسنوات، ثم ردمته أو أضعفته الانتفاضة الثانية، ثم عاد ليطل برأسه من جديد والمحصلة لكل ذلك كانت خسارة الشعب الفلسطيني للكثير خلال فترة اوسلو - ليس اقلها بناء أكثر من مئة مستوطنة جديدة وتكريس ضم وتهويد شامل للقدس، وتوسع غير مسبوق للاستيطان، وخسارة إضافية في فترة ما بعد اوسلو بإلغاء حتى مبدأ التفاوض بين طرفين متكافئين وتحويله إلى املاءات شارونية، واستبدال المرجعية والشرعية والقرارات الدولية بقاعدة"ما يوافق عليه او يرفضه شارون". والسؤال هو هل يمكن إدارة السلطة وأجهزتها بمعزل عن أننا جميعا السلطة والشعب والحركة الوطنية تحت الاحتلال؟ وهل يجوز ان تنهمك بعض الفصائل في صراع دموي على السلطة في ظل احتلال إسرائيل لمعظم الوطن وبعد أن أصبح الاحتكام لصناديق الاقتراع هو الأسلوب الحضاري الذي نتفاخر به. إن الاستنتاج المنطقي هنا ينبع من ثلاث حقائق: أولا، أن الحصول على الحقوق الوطنية لا يمكن أن يتم فقط بالحوار مع شارون، ومن دون نضال من اجلها. ثانيا، أن النضال الوطني واجب وحق للجميع، ومن المستحيل اتخاذ قرارات كفاحية بمعزل عن الحركة الديبلوماسية على الصعيد الدولي، أو عن الأثر الذي تحدثه على الصعيد الدولي والمحلي. ثالثا، أن كل المقدرات الفلسطينية شعبية كانت أم رسمية يجب أن تجند لصالح أهداف النضال الوطني الفلسطينية وما يخدم طموحاته. وذلك كله لا يمكن تحقيقه من دون آلية مشتركة للعمل الموحد ودون مصارحة صادقة مع الشعب حول ما يمكن استخدامه وما لا يمكن استخدامه من أشكال النضال حسب ظروف ومقتضيات كل مرحلة، ودون ضوابط وطنية واضحة للقرارات والمواقف التفاوضية والسياسية. وفي المحصلة، لا يمكن لأي طرف اتخاذ قرارات من دون أن يكون مساءلا عن نتائجها أمام الشعب". وبالمنطق نفسه لا يمكن لطرف واحد مهما علا شأنه أن يعطي لنفسه حرية اخذ القانون باليد او الانفراد بخرق الإجماع الوطني من دون تشاور أو حوار مع الأطراف الاخرى، سواء كان موضوع الإجماع التهدئة العسكرية أو حقوق اللاجئين الفلسطينيين، أو حدود الدولة الفلسطينية المنشودة. ان معاناتنا اليوم، مثل معاناتنا بالأمس، ترتبط مباشرة بغياب استراتيجية وطنية عامة متفق عليها في ادارة الصراع من اجل الحرية والاستقلال وبناء دولة حقيقية عصرية وديموقراطية ذات سيادة حقيقية. وهي معاناة تتغذى بالشرذمة الجغرافية والسياسية والعشائرية والفصائلية التي يحاول شارون تعميقها من خلال فصل غزة عن الضفة الغربيةوالقدس عن سائر الأراضي المحتلة. التحدي الثاني: يكمن هذا التحدي في إيجاد آلية تحول دون انسياق أي طرف نحو التفرد في صنع القرار سياسيا كان أم كفاحيا. وإذا كانت التهدئة العسكرية قرارا استراتيجيا اتفقت عليه الفصائل في القاهرة انطلاقا من أن ذلك في مصلحة الشعب الفلسطيني ومع علمها المسبق بان إسرائيل لم تلتزم لا بالهدنة ولا بوقف مماثل لهذه الأعمال، فلا بد من إيجاد آلية معتمدة لاتخاذ القرارات في مواجهة الخروقات الإسرائيلية أو لردع وفضح ممارسات إسرائيل للاغتيالات وأعمال القمع والتنكيل العسكرية. إن وقف الأعمال العسكرية -وهو قرار صحيح انطلق من مصلحة الشعب الفلسطيني وتقويم لعناصر الصراع - لا يعني وقف كل أشكال الكفاح الشعبية الجماهيرية والسلمية بل يتطلب تقويتها وتوسيعها؟ وإذا كان الكفاح الشعبي ضد الجدار مشروعا فان السلطة مطالبة بدعمه بشكل كامل ماديا ومعنويا. ليس بمعنى المشاركة الرمزية، بل بإخضاع قراراتها السياسية والاقتصادية لاعتبارات هذا الكفاح. التحدي الثالث: يدور حول فكرة"وحدانية السلطة"في ظل الإقرار بأن الشرعية الفلسطينية تستمد من نتائج الانتخابات الديموقراطية والتمثيل الصادق والأمين لمصالح الشعب الفلسطيني، والسؤال هنا هو كيف يمكن الحديث عن وحدانية السلطة مع استمرار. أ - تأجيل وتسويف الانتخابات التشريعية والتأجيل غير المنطقي للانتخابات البلدية، والسماح بالعبث بقواعد وأسس وآليات العملية الانتخابية واستمرار غياب قانون للأحزاب السياسية وتمويلها. ب - انعدام وجود آليات مشتركة لصنع القرارت السياسية، مع ضعف مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وتحول اللجنة التنفيذية إلى هيئة هامشية في عملية صنع القرارات، وفي ظل العجز عن توسيع قدرتها التمثيلية ببقاء قوى فاعلة وأساسية خارج أطرها. ت - والاهم استمرار التسييس الفئوي للأجهزة الأمنية وعدم إحداث الإصلاحات الجذرية المطلوبة في صفوفها، بإخضاعها لسيادة القانون وإلغاء تسييسها حتى يشعر الجميع أنها في خدمة كل الشعب الفلسطيني وقوانينه من دون تمييز فئوي أو سياسي. ث - استمرار الشكوى من سياسة الواسطة والمحسوبية في البعثات والتعيينات والترفيعات والكثير من القرارات في مجتمع أصبح بالغ الحساسية للمحسوبية الفئوية. ولعل مواجهة هذه التحديات الثلاثة، وكذلك مواجهة التحدي الصارخ خلال وبعد إعادة الانتشار في قطاع غزة، بما في ذلك التحريض الإسرائيلي بأن الفلسطينيين عاجزون عن توفير إدارة عصرية لبقعة صغيرة مثل قطاع غزة، فكم بالحري إدارة دولة بكاملها، تكمن في اتخاذ إجراءات فورية وجريئة تشمل: 1 - تكوين قيادة وطنية موحدة بصيغة موقتة لتشكل مرجعية وطنية مشتركة تشمل كل المناطق المحتلة من دون استثناء بما يحبط مخاطر الشرذمة التي قد تنجم عن تشكيلات سياسية في قطاع غزة مختلفة عن الضفة الغربية، وتكون مسؤولة بشكل جماعي عن القرارات السياسية والكفاحية، بما في ذلك الموقف من التهدئة، وتنهي مرض التفرد باتخاذ القرارات من دون الاستعداد لتحمل نتائجها، ولتعد فوراً للانتخابات التشريعية وما لم يتم من الانتخابات البلدية والمحلية، ومع تعهد الأطراف كافة باحترام نتائج هذه الانتخابات أيا كانت. 2 - تحديد موعد فوري ونهائي لإجراء الانتخابات التشريعية، على أن يمتنع المجلس التشريعي الحالي عن إقرار تشريعات استراتيجية إضافية، بسبب فقدانه لأهليته، وبعد أن تحول إلى"بطة عرجاء"بمصطلحات الصحافة السياسية. 3 - إحداث تعديل في تركيبة لجنة الانتخابات المركزية بتمثيل كافة القوى التي تنوي المشاركة في الانتخابات فيها أو السماح لها بحضور اجتماعاتها التي يجب أن تكون علنية ومفتوحة. 4 - حل لجنة الانتخابات المحلية وتحويل كافة صلاحياتها للجنة الانتخابات المركزية، بعد أن تم إلغاء السجل المدني، وانعدم مبرر تجزئة المسؤولية عن الانتخابات والإسراع بإقرار مبدأ التمثيل النسبي في الانتخابات البلدية. 5 - اتخاذ الإجراءات الفورية لتكوين جهاز قضاء مستقل وفصله عن السلطة التنفيذية، ليصبح مرجعية حاسمة لحل الخلافات تحت مظلة القانون. ولا بد من التذكير هنا أننا لا نعاني من نقص في القضاة أو المحامين النزيهين أو الآليات الفنية، بل من غياب الإرادة السياسية لدى السلطة بتفعيل جهاز قضاء مستقل. ولعلنا جميعاً نجد الحكمة والإخلاص والوعي المطلوب للالتزام بأن المرجع الأخير في لحظات الأزمات العاصفة هو مصلحة الشعب وإرادته. أما مصلحته فتكمن في الحفاظ على وحدتنا الوطنية وأما إرادته فلن تعبر عنها إلا الانتخابات الديموقراطية الحرة. الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية.