ان انتزاع اسرائيل زمام المبادرة واحتفاظها بها هو اخطر ما يمكن ان يحدث للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي. وقد سبق لاسرائيل ان فعلت ذلك عندما استدرجت الجانب الفلسطيني الى اتفاق اوسلو وأحبطت تحويل الانتفاضة الاولى الى منجزات سياسية قاطعة. واليوم فإن هدف الحملات العسكرية والسياسية والاعلامية التي تشنها اسرائيل على الشعب الفلسطيني ومؤسساته وقياداته، هو استنزافها ودفعها مرة اخرى الى حالة وقف الصراع من جانب واحد في حين تستمر اسرائيل بمخططاتها الاستيطانية وبتكريس نظام الابارتهايد العنصري. تسعى اسرائيل في هذه المرحلة الى الخلط بين الدعوات الى السلام وبين الضغوط لفرض الاستسلام على الجانب الفلسطيني. ولا يمكن صدّ محاولات اسرائيل لانتزاع زمام المبادرة - بالاستفادة من الوضع الدولي الناشئ بعد احداث 11 ايلول - والضعف العربي والتفوق في ميزان القوى العسكري، إلا باستراتيجية فلسطينية واضحة للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وترجمة تضحيات الانتفاضة الباهظة بمنجزات ملموسة في تحقيق هدف الاستقلال الوطني. ولعل الذهن الفلسطيني قد انشغل بحكم الظروف والاوضاع وموازين القوى بما يريده الآخرون منا وبالضغوط التي يمارسونها علينا وبالمخططات التي يعدونها لنا، وآن الآوان كي نحدد بوضوح ما الذي نريده نحن لأنفسنا وكيف نستطيع نحن ان نشق الطريق للوصول اليه. وذلك يعني ان ننتقل بفكرنا وعملنا من دائرة ردود الفعل الى مستوى الفعل المبادر. تنطلق الرؤية المقترحة هنا من ان بناء الدولة الفلسطينية المستقلة هي عملية كفاحية متواصلة وليست مجرد اعلان او نتيجة لاتفاق سياسي يمكن الوصول له. وقد بدأت عملية بناء الدولة المستقلة منذ عهد بعيد، وتحديداً منذ قرر الشعب الفلسطيني أخذ زمام المبادرة بيده وانطلق صانعاً الثورة الفلسطينية ومقاومة الشعب للاحتلال، وعندما شكل بالتدريج هياكل منظمة التحرير الفلسطينية وحركة تحرره الوطني الفلسطيني وبنى بابداع خلاق وروح تنموية مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في الحقول كافة، وأنشأ مؤسساته الوطنية آملاً بأن تكون نواة لبنيان الدولة المستقلة. ويرتكز نجاح استراتيجية بناء الدولة المستقلة على مبدأين أساسيين: 1 - صون استقلالية القرار الوطني الفلسطيني والتمسك باخلاص بالمشروع الوطني لإنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال على كامل الاراضي المحتلة عام 1967 وضمان حقوق اللاجئين الفلسطينيين. والقرار الوطني المستقل لا يعني فقط استقلالية مركز القرار، وتغليبه للمصالح العليا للشعب الفلسطيني الذي يمثله، بل يعني ايضاً القدرة على التأثير الواعي المنظم المنهجي والمستقل في الاحداث والمواقف وبمقدار عال من المبادرة والاقدام، من دون السماح بالبقاء في دائرة ردود الافعال على ما يقوم به الآخرون. 2 - المشاركة الشعبية الواسعة في عملية النضال والبناء. وذلك يتطلب تعميق الشعور لدى المواطن العادي ولدى قطاعات الشعب المختلفة بملكية المشروع الوطني "مشروع اقامة الدولة الفلسطينية الديموقراطية المستقلة". كما يتطلب استنباط اشكال الكفاح والبناء التي تساعد على انخراط اوسع الفئات الشعبية فيها وازالة اي قيود بيروقراطية تهمش هذه المشاركة، وتجنب حصر النضال بأشكال تعجز غالبية الجماهير الشعبية عن المشاركة فيها. ويعتمد نجاح قيام الدولة المستقلة على عناصر عديدة منها: 1 - بلورة استراتيجية وطنية مشتركة تمثل قاعدة للمشروع الوطني المشترك، وتشكل بمقدار حاسم الوعي الوطني الجماعي والمتفق عليه، بما في ذلك الأهداف والوسائل وآليات اتخاذ القرار الجماعي. وتنبثق من هذه الاستراتيجية استراتيجيات فرعية لمقاومة الاستيطان وعملية التهويد التي تقوم بها الحكومات الاسرائيلية، واخرى لإدارة الصراع وكسب المجتمع الدولي لصالح الشعب الفلسطيني، وثالثة لتطوير دعائم الصمود الوطني الداخلي في وجه الضغوط الاسرائيلية وعملية التدمير المنهجي للاقتصاد والبنى التحتية والتعليم والصحة والحصار والاغلاق، ورابعة لمواجهة الامر الواقع الذي يخلقه الاحتلال بالامر الواقع الفلسطيني مثلما حدث في التجارب الناجحة للسبعينات والثمانينات. ولا يمكن لاستراتيجية وطنية أن تتحقق من دون نشوء قيادة وطنية موحدة ومسؤولة، قيادة تقدم لشعبها الحقائق كاملة وتوفر له قيادة واضحة تشرف على اعداد كل ما يلزم لإجراء انتخابات حرة وديموقراطية وتجند طاقات ابناء الشعب الفلسطيني اينما كانوا لخدمة قضيتهم الوطنية. 2 - في مواجهة العمليات الاربع التي تقوم بها اسرائيل، بإعادة الاحتلال لكامل الضفة الغربية واكثر من نصف القطاع، وبتوسيع النشاط الاستيطاني وإلحاق 42 في المئة من اراضي الضفة بالمستوطنات، وبناء جدار برلين الاسرائيلي الجديد الذي التهم حتى الآن 10 في المئة من اراضي الضفة الغربية، وعملية الاغلاق والحصار والخنق واخيراً انشاء أسوأ نظام اضطهاد عنصري ابارتهايد في تاريخ البشرية، بمنع شعب بكامله من استعمال الشوارع والطرق لاكثر من عام ونصف، ووضع اكثر من ثلثيه تحت نظام منع التجول لما يزيد عن نصف عام حتى الآن... في مواجهة هذه العمليات لا بد من نهج استراتيجي يعتمد على الوصول للحرية والسلام العادل من خلال: أ - تعزيز الصمود الداخلي والكفاح الوطني، ب - بناء أوسع حركة تضامن دولي مع الشعب الفلسطيني، ج - التأثير في المجتمع الاسرائيلي نفسه لدفعه نحو قبول السلام الحقيقي والعادل، د - التأثير في المجتمعات العربية لاستنهاض الدعم للشعب الفلسطيني. ومع استمرار بناء نظام تمييز واضطهاد عنصري ضد الشعب الفلسطيني فلا بد من القول ان النضال الفلسطيني يتماهى بمقادير متزايدة مع النضال الذي خاضه شعب جنوب افريقيا، ويصبح عزل نهج التمييز العنصري على الصعيد الدولي الاسلوب الاكثر فاعلية لإجبار قوى التطرف والعنصرية على التراجع والتسليم بمبدأ اقرار الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني ولا بد في هذا الاطار من الحرص المتواصل على تقديم قضية الشعب الفلسطيني على حقيقتها باعتبارها ليست مجرد نزاع على اراضٍ وحدود وخلاف بين طرفين يتطلب تدخلاً في حدود الوساطة فقط، بل يجب العمل على تقديم قضيتنا باعتبارها قضية تحرر وطني واجتماعي ومسعى شعب لنيل الحق الذي نالته الغالبية الساحقة من شعوب الارض في تقرير المصير، ولتحقيق العدل لشعب حرم من الحياة الكريمة والامن والامان والاسقرار والسلام لأكثر من نصف قرن. وفي هذا الاطار فإن الامن والسلام والاستقرار التي تستحقها كل الشعوب في المنطقة، لا تخص طرفاً واحداً، بل هي حق للجميع خصوصاً الطرف الاضعف والمضطهد وهو الشعب الفلسطيني. تؤكد التجربة التاريخية للمنطقة ثلاثة أمور أساسية: 1 - ان العنف والصراع هما مجرد أعراض للمرض الاساسي وهو الاحتلال الذي تحول مع الوقت الى سرطان يلتهم حياة الناس من الجانبين ويدمر مستقبلهم. وبالتالي فإن إزالة الأعراض تتطلب إزالة مسببها وهو الاحتلال والظلم الذي يلحق بالشعب الفلسطيني نتيجة لذلك. 2 - ان السلام الحقيقي والدائم لا يصنع إلا على اساس ديموقراطي وبين الديموقراطيات كما أثبتت التجربة الاوروبية، وبالتالي فإن اي اتفاق لن تكتب له الحياة اذا كان مفروضاً من طرف على آخر ولا يحظى بموافقة الشعوب وتأييدها، مما يعني انه يجب ان يستند الى قيم العدالة والتكافؤ والديموقراطية. أي انه لا يمكن فرض أي حل غير متكافئ ومتوازن ومقبول على الشعب الفلسطيني. 3 - لا يوجد خلاف اليوم على ان قيام دولة فلسطين الديموقراطية المستقلة هو اساس - مبدئي وهدف مباشر للسلام، غير ان المطلوب ضمان ان تكون الدولة الفلسطينية دولة حقيقية وليس مجرد اسم على ورق لكيان مقطع الاوصال، ومحكوم بالاملاءات ويذكر بنظام البانتوستان. وذلك يعني دولة ذات سيادة حقيقية على ارضها وحدودها واجوائها ومصادرها الطبيعية، قادرة على الحياة وذات تواصل جغرافي كامل وديموقراطية في تكوينها. أي دولة على كامل اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدسالشرقية. دولة تقوم على اساس احترام القانون وسيادة القانون، تحترم الشرعية الدولية وتنال كل ما هو حق للدول المستقلة في القانون الدولي. ان الخط الفاصل بين ان تكون الدولة الفلسطينية دولة حقيقية او ان تكون مجرد حكم ذاتي هزيل يرتبط بأمرين: أولاً ازالة الاستيطان الذي يمثل توسعاً عنصرياً مخالفاً للقانون والشرعية الدولية، وثانياً ضمان سيادة الكيان الفلسطيني على حدوده وأرضه وموارده الطبيعية. وهناك تخوف مشروع وقناعة واسعة لدى الشعب الفلسطيني بأن يتحول طرح دولة موقتة وضمن حدود غير واضحة المعالم الى وسيلة لتمرير حكم ذاتي كبديل لدولة مستقلة ذات سيادة. وفي تجربة اتفاق اوسلو ورفض اسرائيل تطبيقه، كل الأدلة اللازمة على ان الاتفاقات الجزئية والانتقالية لم تكن بالنسبة الى اسرائيل الا وسيلة لتمرير فرضها للأمر الواقع بالتدريج وتعطيلها لبناء سلام حقيقي ودائم يضمن اقرار الحقوق الشرعية الفلسطينية وممارستها على ارض الواقع. وليس هناك فرق في هذا المجال بين نتانياهو وشارون سوى ان نتانياهو يقول صراحة ان هدفه حكم ذاتي هزيل، في حين يريد شارون بهدف تضليل العالم تسمية هذا الحكم الذاتي "دولة". 3 - ان بناء الدولة الديموقراطية المستقلة عملية كفاحية متواصلة، وكذلك الامر المتعلق ببناء مؤسساتها. وذلك يشمل كل عناصر بناء الدولة الديموقراطية العصرية ومكوناتها. وفي هذا الاطار فإن اجراء انتخابات حرة ونزيهة لمؤسسات الدولة المستقلة هو في حد ذاته عملية كفاحية يجب خوضها بروح تحدي اجراءات الاحتلال ولمنعه من التدخل فيها. ان الأمر الطبيعي هو ان تجري الانتخابات بهدف انتخاب برلمان تأسيسي لدولة فلسطين المستقلة، خارج اطار القيود التي حكمت انتخاب المجلس التشريعي، برلمان كامل السيادة يشكل المرجعية النهائية للتشريع وبناء نظام دستوري في فلسطين. وفي ظل عملية التدمير التي ألحقتها القوات الاسرائيلية بمؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية والمجتمع المدني فإن بناء مؤسسات الدولة المستقبلية يصبح عملية مزدوجة الهدف لدعم الصمود الوطني في وجه الاحتلال من جانب، ولبناء اسس الاستقلال من جانب آخر. ومن هنا تستمد مفاهيم التنمية والبناء المقاوم مضمونها فبناء كل مؤسسة فلسطينية او مركز صحي او ناد شبابي او مدرسة يصبح عنصراً من عناصر تعزيز الصمود ومقاومة التدمير ولبنة في بناء دولة فلسطين المستقلة. 4 - احباط عملية التفتيت والشرذمة التي تتعرض لها الاراضي الفلسطينية والمؤسسات الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني، بالاستيطان والحصار والاغلاق، وافشالها من خلال بناء هياكل واطر تجميع وتوحيد الطاقات الفلسطينية، وتمثل هيئة تنسيق المجتمع المدني جهداً ملموساً في هذا الاتجاه. ولا يمكن التقليل من اهمية الجهد اللازم للحفاظ على البنى الوطنية للمؤسسات الفلسطينية الرسمية والاهلية، فبدونها لن يمكن بناء دولة فلسطينية قادرة على الحياة. وهي اساسية في بلورة رؤى ومفاهيم فلسطينيةأصيلة في التعبير عن احتياجات وهموم الشعب الفلسطيني. 5 - بناء المؤسسات الديموقراطية للدولة الفلسطينية مقدمة ضرورية وشرط لإنجاز الهدف الوطني في الاستقلال. وذلك يشمل بناء القضاء المستقل وتكريس سيادة القانون، وفصل السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، وحرية التعبير والصحافة والتنظيم السياسي والاجتماعي، وتكريس قواعد المكاشفة والشفافية ومكافحة المحسوبية والفساد وسوء الادارة، وتعزيز المساءلة في النظام السياسي ومأسسة عملية صنع القرار والعمل . ان الكثير من البنى القائمة تستوجب الاصلاح الداخلي من منطلق المصلحة الفلسطينية وبرؤية فلسطينية، غير ان قدراً اكبر من هذه البنى لم ينشأ بعد ولا يزال بحاجة للبناء. والعنصر الحاسم هنا هو القبول بمبدأ دور المؤسسة، وتطويرها على الصعيد المركزي وعلى مستوى السلطات المحلية والمجتمع وبوسائل ديموقراطية صحيحة. 6 - من الأهمية بمكان تعزيز دور المؤسسات الوطنية والاهلية الفلسطينية في دعم احتياجات الطوارىء والصمود والتنمية. ويمثل تشجيع تطور المؤسسات الوطنية والمدنية عنصراً مهماً في تحقيق الاستقلال الوطني. ومن ناحية اخرى فإن توسع ظاهرة احلال مؤسسات تنموية دولية او منظمات اجنبية لتحل محل المؤسسات الفلسطينية بدل التعاون معها يمثل ظاهرة خطيرة تكرر ما جرى في بلدان اخرى ستكون نتيجته الحتمية اضعاف قدرة المؤسسات الاهلية الفلسطينية على الاستقلال والاعتماد على الذات. وفي ذات السياق تكتسب مشاركة المجتمع الفلسطيني ومؤسساته في تحديد اولويات المساعدات التنموية حسب الاحتياجات الوطنية الفلسطينية اهمية حاسمة في هذه الظروف. ان حل مشكلة الفقر والبطالة مثلاً لن يتم بتوسيع برامج دعم الغذاء او التموين الغذائي، بل من خلال مشاريع حقيقية لتشغيل العاطلين عن العمل التي تساهم بشكل حقيقي في عملية التنمية، وبحيث تساهم في انعاش الاقتصاد الوطني، وشرط ان تنفذ عبر مؤسسات فلسطينيةأصيلة، وتلتزم قواعد المساءلة والشفافية وخدمة مصالح الجمهور وبخاصة الفئات الفقيرة والمحرومة. ان استقلالية القرار الفلسطيني لا تمس فقط الجوانب السياسية بل ايضاً تحديد أولويات النشاط التنموي والاجتماعي. 7 - ان دعم التعليم وانشاء صندوق اقراض وطني للطلبة الجامعيين ودعم الصحة ونظام تأمين صحي شامل وهيكل فعال للتقاعد والضمان الاجتماعي تمثل عناصر لا غنى عنها لتحقيق الاستقلال الوطني. والامر ينطبق على تحرير المصادر الطبيعية كالمياه والطاقة من سيطرة الاحتلال الاسرائيلي. ويمثل دعم صمود الفئات الفقيرة والضعيفة والعاطلين عن العمل والمناطق المهمشة سبيلاً لتفعيل قدرتها على المساهمة في بناء دولة مستقلة. ان الصمود الوطني على الارض والكفاح ضد الاحتلال والظلم وبناء مؤسسات الدولة كأمر واقع وتعزيز اوسع تضامن دولي مع قضية الشعب الفلسطيني العادلة وتعزيز البنيان الداخلي بتطبيق سيادة القانون وقواعد الديموقراطية، وتحقيق اوسع اشراك لقطاعات الشعب الفلسطيني المختلفة في عملية بناء الدولة وضمان اوسع قاعدة للمشاركة الشعبية فيها من خلال الانتخابات الحرة، من شأنه ان يحقق للشعب الفلسطيني حلمه الذي طال انتظاره في إنهاء الاحتلال وبناء وطن مستقل، وفي ممارسة مواطنة حقيقية كاملة الحقوق والواجبات يشعر من خلالها الفلسطيني انه سيد نفسه، مستقل بإرادته، ويتمتع بكامل الحرية على ارضه وقادر على تطوير وبناء مستقبله في اطار من الامن والأمان وحرية الرأي وسيادة القانون والعدالة والعيش الكريم. * سكرتير المبادرة الوطنية الفلسطينية.