يتابع الروائي والكاتب المصري جمال الغيطاني في عمله الأخير"نثار المحو"مشروعه الأدبي المميز الذي يسلط الكاتب من خلاله الضوء على مجريات حياته ومحطاتها المختلفة ووقائعها الحافلة بالأحداث. وإذا كان الغيطاني أدرج سلسلة كتبه الأخيرة ضمن عنوان فرعي هو"دفاتر التدوين"، فلأنه وجد ان هذا التعريف هو الأقرب الى طبيعة هذه السلسلة من المؤلفات التي تعتبر الحياة عمودها الفقري والتي لا يؤالف بينها سوى رغبة الكاتب في نقل هذه الحياة على الورق ومنعها من الاندثار والتلاشي الأبديين. لا يقع"نثار المحو"في إطار العمل الروائي بالطبع ولا في سياق أدب السيرة الذي يخضع لقواعد الزمان والمكان والتسلسل الطبيعي للأحداث، كما انه لا يشبه أدب المذكرات المعروف والسائد في العصور الأخيرة، ومع ذلك فإنه يأخذ من كل هذه الأنواع مقدار ما يحتاجه. فهناك مقدار لا بأس به من القص والإخبار والسرد، ومقدار موازٍ من السيرة الشخصية التي لا تنتظم في سياق محدد بل تتبعثر وقائعها على غير نسق ونظام. ثمة محاولة من المؤلف لمحاكاة مجرى الوعي الذي يمكن شاشته المضاءة باستمرار، حتى في الاحلام، أن تتنقل بين الأزمنة والأماكن وأن يخبط برقها الخاطف في كل ناحية واتجاه. وفي حين كان يمكنه أن يصنع من قصاصاته المدونة تلك سيرة ذاتية تشبه سائر السير والمذكرات، فقد آثر أن يترك ذلك الخليط الهائل من التجارب والاختبارات الحياتية على طزاجته الأولى وتشتته الزمني. يصعب على قارئ"نثار المحو"أن يشرع في قراءته من دون أن يكمله، وهو أمر نادر وغير مألوف مع هذا النوع من الكتابات. ذلك أن الرواية وحدها في هذه الأيام هي ما يمكن قراءته دفعة واحدة نظراً لترابطها وتسلسل أحداثها وما يرافق ذلك من إثارة وعقد تشويق ورغبة في التماهي مع الحيوات الموازية التي تساعدنا على خلع حيواتنا الأصلية ونسيانها ولو إلى حين. أما كتب المقالات والقصص القصيرة فغالباً ما تقرأ على دفعات وتحتمل التأجيل والإهمال في بعض الأحيان. اللافت في كتاب الغيطاني الأخير انه يحمل الى قارئه متنعة الرواية وعناصر تشويقها على رغم إدراك القارئ ان ما يقرأه ليس برواية بل هو لمحات متباعدة ومتناثرة من حياة المؤلف الغنية والحافلة. والقارئ الذي يستطيع أن يتوقف عند خاتمة كل"أقصوصة"أو طرفة أو حادثة يجد نفسه من دون قصد معنياً بمتابعة القراءة ومتلهفاً لمعرفة المزيد من حياة المؤلف ومكابداته الكثيرة. كأن خطة الغيطاني الذكية تقوم على استدراج قارئه الى ردهات حياته المغلقة أو الى شتاتها المتناثر تاركاً له أن يتولى بنفسه تأليف حياة الكاتب ولمّ شملها من جديد. يضم"نثار المحو"عشرات العناوين المتباينة الماهيات والأبعاد والدلالات. فقد يتصل العنوان بأسماء علم وبألقاب وكنيات، وقد يتصل بأهل وأصدقاء وجيران وحبيبات سابقات أو نساء مشتهيات لم يتح للكاتب بلوغهن، وقد يتصل بمنازل وأحياء وأسفار وأحلام ومكالمات هاتفية وقتلى وصور ومدن ومؤتمرات. لكن ما يلفت في كل ما يستحضره المؤلف ويستعيد صوره وترجيعاته هو ذلك القدر من الصدق الانساني المفعم بالرهافة والحساسية والألفة المرضية مع الأماكن والأشياء. فالغيطاني يؤكد في هذا الكتاب، كما في سائر مؤلفاته، ان مهارة الكاتب لا تتجلى في اللغة وحدها بل في قدرته الفائقة على التقاط الذبذبات المقبلة من جهة الأحياء كما من جهة الموتى، من جهة الأشجار والكائنات الأخرى كما من جهة البيوت التي نسكنها والمدن التي نزورها والمرثيات التي تمر بالقرب منها. وهو ما يتضح جلياً في الفقرة التي تتحدث عن الأعمدة:"تلاحقني أعمدة التلغراف. لا يلحظها أحد في المدن. لكن عند خروج القطار تظهر بمحاذاته. لا يمكن البصر أن يدركها إلا بعد فواتها... أتخيل ملامح آدمية لكل منها. فهذا عمود أنثى وآخر ذكوري المظهر، هذا كهل وذاك شاب، هذا فرح وذاك حزين، مبتسم، عابس. أحاول التعرف على واحد فقط، تعيين عمود لا غير، أتعرف عليه عند عودتي في الاتجاه المعاكس، لكن لم أقدر قط". وهذا النص عن الأعمدة يأتي مباشرة بعد نص آخر مغاير عن رجل نصف مشوه يدعى أحمد العضاض كان عرفه الكاتب قبل خمسين سنة ثم اندلعت صورته فجأة من كهوف الذاكرة السحيقة. يخلط نظام التداعي الذي يأخذ به جمال الغيطاني في كتابته بين المحسوس واللامحسوس وبين المرئي وغير المرئي ويقيم حواراً باتجاهين بين الأشياء التي نبصرها وبين مركز رؤيتها في الدماغ. ثمة هنا رابط خفي بين ما نراه أمامنا أو نتلمسه بالحواس وبين انعكاساته الكثيرة في الذاكرة أو المخيلة. وهو ما نرى نظيره في شكل أو آخر في الأدب الياباني وبخاصة في رواية"البحيرة"لياسوناري كاواباتا، حيث تحرك أنامل فتاة الغيشا ولمساتها الناعمة على جسد بطل الرواية بحيرة كاملة من الذكريات البعيدة التي كانت تقبع في النسيان. لكن ما يلاحظه الغيطاني في أحد المقاطع هو أن معظم الذكريات تندلع من مناطق الحياة القصية ومن الطفولة والصبا المبكر، في حين يتعذر عليه أن يستعيد شيئاً من وقائع حياته القريبة. لكننا نشعر، وفق المؤلف، أن ذلك الذي نستعيده من أحشاء الذاكرة ليس نحن بالذات بل يبدو وكأنه أحد سوانا أو هو شخص آخر بالكاد يمت لما نحن عليه الآن بصلة. هكذا تصبح هويتنا مركبة ومتداخلة ويصبح الأنا شكلاً من أشكال الآخر ووجهاً من وجوهه. يتضح من كتابات جمال الغيطاني بصورة عامة إحساس عميق ومأسوي بمرور الزمن وتقادم السنين وفوات الأوان. وربما كان ذلك النزوع هو مصدر اهتمامه الملحّ بالتاريخ والأمم الخالية والعصور التي انصرمت. ثمة شعور داهم لديه بقصر الفرصة المتاحة للانسان على الأرض وبتزاحم الأجيال وتدافعها بالمناكب. ومن هنا جاء مصدر حرصه الشديد على تدوين كل شاردةو وواردة في حياته الزاخرة بالرؤى والأسفار والفرح والمشقات. لكنه لا يأخذ في ما يكتب بطرف واحد من طرفي المعادلة ولا يريد أن يستسلم لنداءات الشقاء الأرضي وحدها. كأن حكمة العينين اللتين أعطيهما الانسان تقتضي بأن يرى باتزان كلي مصدري الغبطة والعذاب على الأرض، وكذلك الأمر بالنسبة الى حاسة السمع. لذلك فنحن نتعرف في الكتاب الى فرادة الرعشة الأولى التي أدركها الكاتب في لحظات بلوغه بقدر ما نتعرف الى تفاصيل الأزمة القلبية التي دهمته في مستهل سن الكهولة متحدثاً عن القلب الذي أخذ يترنح تحت وطأة الاسراف الشديد في استخدام الجسد والعقل:"أصغي الى دقاته ملتمساً السماح، إذ أثقلته بصباباتي وأشواقي ومكابداتي. بتداعيات كل ما عشته بالخيال متجاوزاً الواقع المحسوس. هفوي الى كل ما ليس في المتناول. لم يخذلني قط. تبعني وامتثلت له. لم يؤذني، أنا الذي ألحقت به الضرر بفائض حبوري وقسوة كدوراتي وثقل صمتي وشدة خشيتي وسهولة ميلي مع كل هبة نسيم ولمعة كل ضوء". إن مثل هذه التساؤلات تقع في مكانها تماماً بالنسبة الى الكتّاب والفنانين والشعراء الذين يصعب أن يمروا مرور الكرام على أي شيء يصادفونه أو أية علاقة تربطهم بحبيب أو صديق. وإذا كان على جمال الغيطاني في رواياته أن يستتر وراء أبطاله تاركاً مساحة من اللبس في نفوس القراء، فإن حقيقته في"نثار المحو"تظهر عارية تماماً ويتكشف لنا ذلك الفيض من المشاعر الجياشة التي تمور في أعماقه ازاء المنازل التي سكنها كما إزاء أحياء القاهرة القديمة والناس البسطاء الذين عرفهم وعايشهم عن كثب. على أن تعلقه بالبشر لا يقتصر على من خبرهم وتآلف معهم لفترة طويلة، بل يحدث له أحياناً أن يتعلق ببعض الوجوه التي يقابلها صدفة في أسفاره ثم يسدل النسيان عليها بعد ذلك ستاره الأبدي. وجوه يتبادل معها الكاتب نظرة وحيدة ويتيمة، لكن تلك النظرة لا تلبث ان تتخثر في داخله كنصب تذكاري دائم. وكما حدث لبطل عبدالرحمن منيف في روايته المميزة"قصة حب مجوسية"ولبطل الغيطاني في روايته المميزة الأخرى"رسالة في الصبابة والوجد"يحدث للغيطاني نفسه أن يتبادل نظرة اعجاب وتولُّه محيرة مع شابة جميلة تقود عربتها على طريق أحد المطارات ثم يضيع كل منهما في الزحام الى غير ما لقاء، حيث لا يظل للمؤلف سوى تساؤله الحائر:"من يدلني. من يتيح لي الفرصة للمثول أمامها مرة أخرى ولو للحيظات. من يرشدني الى هذه الشابة التي توقفت بعربتها عند تلك الاشارة في الطريق الذي لا أعرف اسمه في تمام الساعة الثامنة والربع من ذلك المساء النيويوركي، النوفمبري، عام تسعة وثمانين، من؟".