أصدر الروائي إبراهيم عبد المجيد مجموعة قصصية جديدة في عنوان "سفن قديمة" فأقام توازناً دقيقاً في إيقاع الكتابة عنده بين الرواية والقصة القصيرة. وهو يحافظ على مستوى من التناوب المنتظم بين هذين الشكلين بما يشير إلى قدراته الإبداعية المتكافئة، خصوصاً عندما نجد رواياته ترفل في امتدادها الطولي الذي يبلغ أحياناً مئات الصفحات من دون ترهل. كما نجد قصصه تتقطر في صفحات عدة مكثفة من دون أن تكون مجهضة أو مبتورة. لنقل إن حجم العمل الفني لديه ينبثق من بنية متماسكة مشروطة بطبيعته وجمالياته وقوانينه الداخلية. وإذا كانت الرواية تتسع أحياناً لتكون عقداً مؤلفاً من حلقات متتالية، تتشكل تكويناتها بأنماط كثيرة مفتوحة لا حصر لإمكاناتها المحتملة، فإن القصة القصيرة يصعب أن تتسع للهذر أو المطّ والاستطراد. ما زال التكثيف والاقتصاد والايحاء عصب شعريتها، كما أن فرصتها في الاكتمال - على صغرها - محدودة، لا تتوافر إلا في المستويات الإبداعية الناضجة. غير أن هذا القِصَر وحده لا يكفي لتكوين ملامح القصة. كما أن الطول لا يسعف في الرواية. فهناك وحدة المنظور في الأولى وإمكانات تركيبه وتعدده في الثانية، وهناك حدة الإيقاع في القصة وتنوعه وتفاوته في الرواية، فضلاً عن تشكلات البنى القصصية واختلافها عن نظائرها الروائية، بما يترتب على ذلك من تفاوت الدلالات. ومع أننا لسنا في صدد الحديث النظري عما بين النوعين من فوارق شعرية وتقنية فإن ما تعنينا الإشارة إليه هو ما يتصل بكاتبنا الذي برهن - مثل كبار المبدعين من نجيب محفوظ إلى جمال الغيطاني وبهاء طاهر وابراهيم أصلان وغيرهم - على امتلاكه اللحساسية اللازمة لخرط أعماله الفنية على مقاسات وشروط متفاوتة، من دون الإخلال بطابع الاكتمال الضروري لكل منها، حيث يشعر القارئ بلون من الإشباع الجمالي عقب الانتهاء من قراءتها. الأمر الذي يدعونا بعد ذلك لتأمل عناصر هذا الإشباع ومبرراته. وربما كانت هذه المجموعة بتنويعاتها المتعددة داخل إطار القصة القصيرة شاهداً آخر على نجاح التخالف الكمي في إبداع إبراهيم عبدالمجيد. فهي تضم إحدى عشرة قصة، يربو بعضها على عشرين صفحة، بينما لا يكاد يتجاوز بعضها الآخر صفحتين فحسب، لكن كلاً منها يحقق شرط الاكتفاء الذاتي، لا بمعنى الانغلاق المحكم، وإنما بمعنى الاستقلال عما عداها. وهي تتراوح في علاقتها بالزمن. فالقصص الطويلة الأولى غير مؤرخة والأخيرة التي يغلب عليها القِصر تدور في التسعينات، كما أن معظمها يقع في فضاء أثير عند الكاتب هو الاسكندرية. فالراوي إما أن يكون مقيماً بها أو عائداً إليها أو متذكراً لها من القاهرة. فسنوات التكوين الأولى للكاتب تصنع مخيّلته، وتؤطر وعيه بالحياة، حيث يصبح وعياً بحرياً إن صحت العبارة. لكن هناك خاصية لافتة تتعلق بعوالم هذه المجموعة وطبيعة رؤيتها هي غلبة طابع اللامعقول عليها، لكنه نوع جديد من اللامعقول، لا يتطابق مع الموجات السابقة في الآداب العربية والعالمية" إنه وليد هذه الفترة الغريبة التي نعيشها بمذاقها الخاص وشروطها المحددة. والكاتب يحثنا على أن نفكر في ذلك ونتأمله. فهو يسمي قصته الأولى "تحت المظلة 2000" كي يدفع ذاكرتنا لاستحضار مجموعة نجيب محفوظ الشهيرة "تحت المظلة"، لكنها كانت عندئذ في نهاية الستينات، عقب النكسة التي نسفت خطوط العقل العربي وكشفت عبثية مشروعه القومي. فالظرف التاريخي الصاعق هو الذي حفز محفوظ على تخليق عالم فني تضطرب قوانينه بمقدار ما اهتزت قوانين العالم الخارجي واختلّت موازينه. ويأتي إبراهيم عبدالمجيد اليوم ليقول لنا إننا نعيش خللاً آخر فادحاً وموجعاً لا نستطيع أن نرد أسبابه إلى مفاجأة مدمرة للروح كما كان في وسعنا أن نفعل في الستينات. إنه يوشك أن يكون خللاً عضوياً في طريقة تفكيرنا وسلوكنا ومسيرة الحياة حولنا .... وعندما تتفاقم أمام عينيه هذه المشاهد التي يشارك فيها يثوب لحظة لصوابه، معتقداً أن كل ما رآه ليس سوى ظنون ورؤى" وأنه ليعرف منذ فترة أنه قريب من الجنون، خصوصاً أن مجاذيب الشوارع دائما يتركون طريقهم وينحرفون إليه يصافحونه من دون سبب مفهوم، "لعله كان معهم قبل أن يولدوا جميعاً، ولعله عاش معهم حياة أبدية وسيعود ليعيش معهم حياة أبدية أخرى". لكن أبرز مشهد يتكرر في هذه الوقائع - الكوابيس يفضي به دائماً الى البحر الذي يبتلع كل شيء. ولا تعنى القصة - ولا غيرها - بأن تقدم لنا أي تفسير لهذا العالم الغريب، بعد أن تتلاشى على حدوده جميع الاحتمالات التي تخضع لقوانين السببية والعقل، ويتعين حينئذ على القارئ أن يبحث بنفسه عن معنى الرمز الذي يتشكل أمامه. وفي وسعه أن يتوقف عند أية حادثة عارضة ليجعلها بؤرة المعنى ومحوره، ابتداء من نقد الحياة الوظيفية الروتينية التي تظفر بإشارات كثيرة في القصة، إلى هجاء علاقات الجنسين وما ينتابها دائماً من قلق وتوتر وعدم إشباع، إلى الإلماح إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية ومشكلات الإنسان المتخبط الذي فقد توازنه. لكن تظل القصة بعد هذه الدلالات المحتملة صورة رمزية حية تبتكر معناها كلما أعدنا فيه النظر، متضافرة مع قصص أخرى في المجموعة تشير إلى تصدع عالم الإنسان العادي وانهياره مثل قصة "مشكلات الجلوس" التي يصف فيها الراوي شخصاً يجذبه مقهى جديد أنيق، لكنه يكتشف "بعد أن يشرب قهوته ويتوه وقتاً مع الخيالات السحرية على الحوائط والأعمدة، يرى فجأة الأعمدة اللامعة وقد بدأ السيراميك يتخلع عنها ويتساقط وتظهر هي تحته جهمة من الاسمنت الاسود والزلط، ثم تروح بدورها تشرخ وتتهدم على مهل، وعلى الفور تلحق بها الجدران التي تتهاوى وتتناثر حجارتها، وقبل أن يلحق السقف بالجميع يرفع هو عينيه إليه فيجده في مكانه"، وعبثاً يحاول الهروب من تلك الرؤيا التي تطارده. فسرعان ما تتهاوى أمامه كل الحوائط المقابلة، ولا يبقى له سوى أن يخرج مسرعاً من أي مكان يدخله بعد أن يسمع صوت السقوط المدوي فوق رأسه ويطلق ساقيه للريح. إنها كناية عن الخراب الباطني لهذا العالم الذي نظنه مشيداً ومنظماً ومعقولاً، لكنها كناية مفعمة بالمرارة والشعرية في آن . بوسعنا أن نقول إن عصر الصورة الذي نحياه اليوم قد دمغ الأدب المكتوب بطابعه، فلم تعد اللغة تقدم لنا كلمات نكررها مثلما نمتص قطعة الحلوى كما كنا نفعل من قبل. أصبحت معنية قبل أي شيء برسم صور بارقة متحركة للعالم، أصبح الجمال البصري المتجسد هو الذي يتغلب على حواسنا. كتابة ابراهيم عبدالمجيد من هذا النوع البارع في تخليق الصور حتى ليكاد يشرك القارئ معه في هذه اللعبة الشيقة. إنها كتابة التخييل النشط الذي يزكي روح المغامرة في قلب الإنسان. في قصته التالية "رؤى البحر" يعرض الراوي مجموعة من الصور التي تتلاعب بمخيّلة القارئ حتى تصنع شبكتها المتماسكة بحيوية شديدة، وينفتح المشهد على حركة الماء المنحسر على الرمال في شاطئ الاسكندرية. فضاؤه المعشوق، وأوضاع الشماسي والأولاد والبنات، لوحة متنامية متواثبة، يمثل الخيط الأول منها تلك "الشابة الجميلة التي ترتدي الفستان الليموني الخفيف الفضفاض، الكثير الدانتلا عند الذيل وحول الصدر الواسع، والتي تسرع حافية يسبقها ويحيط بها الأطفال، قد ابتعدت الآن مع امتداد الشاطئ ناحية اليسار". ونعرف من حوار الراوي مع زوجته أن المرأة تبحث عن طفلها الضائع. فضياع الأطفال لمسة تنذر بالفجيعة في كل تجمع مصري مزدحم سواء كان على الشاطئ أم في الموالد والأسواق، لم تخلُ منها مثلاً أوبريت صلاح جاهين "الليلة الكبيرة". وسوف تعود هذه المرأة لتمر أمامنا مرة أخرى ناحية اليمين حتى ينتهى بها الى أن تجلس وحدها على اللسان الممتد في البحر شاردة تناجي طيف طفلها الضائع بين الأمواج. ولا نكاد نطوي هذه الصورة حتى يكون الراوي قد نسج عشرات الصور الاخرى لما يمضّه طوال الليل والنهار. فقد نزل من شقته عقب "حفلة" التنظيف السنوية التي هدّت كيانه مع زوجته ليبحث في جوف الليل عن الفرن الافرنجي القريب. يسمع "ضحكة صافية تأتي من إحدى الشقق العالية بصوت نسائي بديع، وسمع صرخة تمر من حوله، ثم سمع هدير أقدام تجري، رآه خارجاً من زقاق ضيق ومظلم وخلفه الآخر يحمل سكيناً طويلاً يلمع في يده، ثم سمع صرخة مكتومة ولاحظ أن الشارع الكبير لا تضيء كل مصابيحه". لن تفارق مخيّلته هذه الصورة، سيظل يبحث والقارئ معه عن أخبار الجرائم في الصحف، لكنه بعد قليل سيشرع في معالجتها باحتمالات أخرى. فالثاني لم يمت، بل انتفض من كبوته وانتزع السكين من الشخص الاول وقتله. وقد لا تنتهي القصة حتى يكون قد برز احتمال ثالث مريح، "الآن يدرك بوضوح أن شخصاً ثالثاً ظهر خارجاً من زقاق مظلم وقتل الاثنين معاً ثم عاد ليختفي في الزقاق". هنا نجدنا حيال أمر يشبه الواقع الافتراضي في أجهزة "الكومبيوتر". فعملية تخليق الصور والأحداث تتم على مشهد من القارئ وبمشاركة منه. ومعنى ذلك أن القراءة تلعب دوراً فاعلاً في تنشيط المخيال. فها نحن نجد الراوي وهو يتوغل سابحاً في الماء يتذكر "القبيلة" التي قصدت بلاد المغرب، "فمشى أهلها في الصحراء حتى تعبوا، فرأوا مدينة خضراء فدخلوا وأكلوا وشربوا وناموا ليلتهم، فلما أصبحوا لم يجدوا المدينة بل وجدوا أنفسهم في الصحراء من جديد، فمشوا في حزن شديد حتى رأوا مدينة أخرى أجمل من الأولى فدخلوا وأكلوا وشربوا وناموا وأصبحوا في الصحراء، فمشوا في حزن أشد حتى قابلهم راعٍ فقير قصوا عليه نبأهم، فقال إن ما جرى يحدث كثيراً، وسألهم عن وجهتهم فقالوا المغرب، فقال إن عليهم الاستمرار في المشي حتى تقابلهم مدينة ثالثة هى أولى بلاد المغرب، فمشوا ورأوا مدينة لكنهم لم يدخلوها أبداً إذ ظلت تمشي أمامهم ولا يدركونها حتى انقطع خبرهم". يخشى الراوي السابح في الماء أن يسرقه خط الأفق في متابعة رؤى البحر فيعود أدراجه الى الشاطئ وقد غذت مخيلته هذه الحكايا المستقرة في أعماق الوعي والوجدان، وهنا تتم صناعة الصور المستقاة من الذاكرة الجماعية ممتزجة بحركة الوجود الفعلي وموجهة لمساره. لكن من أطرف هذه الصور الأليفة ما يسري في حنايا السرد كله من أشكال الشعور والأحاسيس الرقيقة التي تربط بين الراوي وزوجته وهي تقوم بدور "المروي له" أو القارئ. فهي تصاحبه في رؤاه، وتسخر بحنان بالغ من بعض استيهاماته. فهما مثلاً تعاهدا سوياً على أن يتفرغ كل منهما للآخر هذا الصيف على وجه التحديد، حتى إنها عزمت على عدم الانشغال بتطريز لوحات "الكان÷اه" وهي معه على الشاطئ، لكنها فور وصولها الاسكندرية تطلب منه أن يصحبها الى سوق المنشية لتشتري اللوحات والخيوط والابر، وتدخل معه في لعبة التخييل عندما تتذكره وهو يقول لها "كلما رأيتك ترسمين بالخيط فلاحة تحمل جرّةً أو دلواً أكسر الجرة وأترك الماء ينزل على رأس الفلاحة، وحين ترسمين نسراً يصعد الى السماء أتمنى لو حملني معه وتركني فوق جبل أو بركان". للمرة الأولى تضحك وتقول له "أنت مجنون". لكن صور الشاطئ تتتابع بحركته الخارجية وزحف المياه على المصطافين وتحول الصف الاول مما يلي البحر الى الوراء، كما تتراءى صور الحياة في الشوارع الخلفية للبحر. ولا تلبث الزوجة أن تقول له "هذه القطعة فيها مشهد رائع" بحر وعرائس بحر يلعبن في الماء، هل تريد أن تسبح بينهن." فندرك بدورنا أن تجسيد الصورة في هذا اللون من الكتابة يعني إطلاق العنان للخيال ليمارس أقصى طاقاته في المرح المبدع اللعوب. على أن هناك خيطاً من الذكاء الوصفي لحالات الانسان الباطنية والخارجية لا يخطئه القارئ في كتابات ابراهيم عبدالمجيد. فهو ليس من الادباء الذين يدورون دائماً حول سيرهم الذاتية مثل إدوار الخراط، وليس من المتزمتين الذين يستبعدون وقائع حياتهم ومشاعرهم الشخصية ويكتبون دائماً قصة الآخرين مثل نجيب محفوظ، بل يمزج بينهما برهافة شديدة واقتصاد لغوي جميل ومقدرة فائقة على التشويق الجذاب. وليست السفن القديمة التي يشير اليها عنوان هذه المجموعة سوى ذكريات الصبا عند الراوي للفتاة التي كان يعشقها من الشرفة، ثم يعود ليراها وهي تحدث طليقها وتأخذ ابنهما منه. تبتسم له فيقول "لا أنسى طعم البهجة التي كانت تشيع في صدري، هي البهجة نفسها التي تسللت اليّ الآن بعد الابتسامة الواهية من الشفتين المتعبتين، لكنها ليست بالاتساع نفسه ولا العمق. أجل قلّت حلاوة الاشياء ولم تعد كما هي ولم يبق على حاله سوى الضجر". هذا هو الايقاع الباطن الأخير للأحداث المجنونة والصور، وهو على شجنه وعذابه مفعم بالشعرية الرائقة والجمال البحري العذب. * ناقد واكاديمي مصري.