لطالما كان أدونيس منذ تبرعماته الأولى الصوفانية الأفلوطينية المحدثة بمعناها المعمق صورةً ديناميكةً متحركةً باستمرار لصورة الشاعر الرؤيوي النفّاذ المندمج في عالمه والمفارق له في آنٍ واحدٍ. ولقد سكن دوماً في الفجوة المضطربة بين الملائكية العميقة المفارقة التي تستوطن غوره، بمعنى أن الملائكية تشير إلى عالمٍ أسمى من عالم البشر المحسوس وبين معاناته"الاندماجية"لمشكلات هذا العالم الذي يعيش في محيطه. ونجد هذه الفجوة في كل فاعلية أدونيس الإبداعية. ترتد هذه الفجوة في عمقها الميتافيزيقي"الحي"إلى الفجوة في كل تاريخ الإنسان ما بين الشعرية والنثرية، ما بين صورة الزمان السعيد الملحمية الأولى حين كان الإنسان هو الكون والكون هو الإنسان في وحدةٍ كليةٍ وبين صورة الزمان المشروخ الذي ضيع فيه الإنسان وحدته وپ"صفاءه"الكوني الأول. وليست هذه الفجوة سوى فجوة"المحيط الأسود"الذي يجد فيه الشاعر من طراز أدونيس صورته مرميةً فيها. في هذا المعنى يشكل عنوان"المحيط الأسود"دار الساقي، 2005 مفتاحاً دلالياً سيميائياً يذهب بنصوص الرأي والتعليقات والانغماسات المختلفة التي يحتوي عليها من حدود ما يمكن تسميته بجنس"المقالة"أو"الرأي"الذي تستوعبه الصحافة وتستدعيه ضمن وظيفتها كفضاءٍ لأصوات الرأي، إلى حدود الأسئلة الكيانية المعمقة المشبعة بالسؤال عن الوجود. إنها أمشاج صورة الشاعر الرؤيوية النبوية العارفة وقد انبطحت في عالم النثر وحاولت أن تبطحه في آنٍ واحدٍ. تختلف في هذا السياق نصوص"المحيط الأسود"عن غيرها مما يشبهها في الظاهر، في أنها لا تمثل الصورة الكهانية المغلقة للرائي البعيد بقدر ما تمثل صورةً أدونيسيةً لتلك الفجوة، ولهذا يأتي كل شيءٍ في نصوص"المحيط الأسود"مختلطاً بلغة الشعر كما يعيشها أدونيس كيانياً. وآية ذلك أن أدونيس - إذا ما فهمناه من داخله، ومهما وضعنا نظرية الشعر- الرؤيا التي تجوهرت فاعليته الإبداعية المركبة حولها في حدودها في مقابل اتجاهٍ مضادٍ يكشف حدودها، ويبدو الآن في الاتجاه العام لغوص الشعر في تفاصيل الحياة اليومية وملحميتها من نوع ما نعرفه عن الماغوط وأبي شقرا وجوزيف عيساوي وعباس بيضون وسعدي يوسف... إلخ - يتميز بأنه من أكثر الشعراء الذين ألحوا على فهم الشعر كجنسٍ معرفيٍ وليس كمجرد جنسٍ كتابيٍ. الشعر لدى أدونيس طريقة عليا للمعرفة وليس مجرد فائضٍ يضم تنضيده في إطارٍ كتابيٍ تستكشفه نظرية الأجناس والأنواع الأدبية. وهذا شيء لا يزال حتى الآن مرتبطاً في بروزه بأدونيس، الذي نظر إلى الشعر كفاعلية أصليةٍ في العالم ترتد إليها سائر الأصول الأخرى. ويبدو أدونيس في ذلك نوعاً من إبيستمولوجيٍ شعريٍ بالمعنى المعق يجمعه شيء مع الإبيستمولوجيا الحديثة الناهضة في حركة العلوم، والمشتقة للعقل النظري من العقل العلمي بينما يفارقه شيء آخر عنها، هو بكلمةٍ واحدةٍ: الشعر كطريقة وجود ومعرفة وليس كطريقة تعبير. لا يمكن فهم تصنيف أدونيس لأبواب"المحيط الأسود"من دون استيعاب ذلك، ولهذا لم ينشر فيه أدونيس كل ما كتبه بين العامين 1984-1995 وربما بعدهما إلى العام 2004، بل نشر فيه على أرجح التقدير ما هو متصل بذلك"الباثوس"أو الروح المعمق الذي يوجه حركة المثقف الجوال في حقولٍ معرفيةٍ وسياسيةٍ وثقافيةٍ شتى تبدو في ظاهر القراءة المسطحة من دون علاقاتٍ وصلاتٍ. وليس المثقف الجوال في هذه الحركة كما يمكن أن نحددها بجولان أدونيس في المحيط الأسود سوى جولان الرائي المتغطرس الذي يحاول أن يعطي القضايا المثارة في الواقع الظاهر، والتي تستدرج الشاعر إليها بعداً كيانياً اعمق وأشمل هو بعد الأسئلة والغور في أبعاد عميقة تشد العالم النثري إلى أسئلة العالم الشعري المتمزق في أمشاج حين يحط في عالم النثر كما هو"قطرس"بودلير على السفينة في باب الفجوة ما بين المحيط والنهر. أدونيس في"المحيط الأسود"لاهوتي وإبيستمولوجي معمق، لكن ليس على طريقة الإبيستمولوجيين الذين يفهمون مع ذلك بعمق نوعية المعرفة الشعرية بالعالم، بل على طريقته، ومع ذلك يبدو وكأنه يقول لنا في ناتج القول إن طريقة الإبيستمولجي الحديث في معرفة العالم ليست في حقيقتها سوى طريقة الشاعر الذي يفهم الشعر ليس كفاعليةٍ تعبيريةٍ بل كفاعليةٍ كيانيةٍ يدرك فيها الإنسان دوماً نسبيته في عالمٍ يتخطاه. من السهل أن ترد هذه الفكرة أو تلك في"المحيط الأسود"إلى مرجعٍ معينٍ يتقاطع معها أو ينطلق منها، لكن من الصعب جداً أن يتطابق معها. فأدونيس يأتي إلى السؤال الإبيستمولوجي ليس من حركة الإبيستمولوجيا نفسها بل من حركة الشعر، وكأنه يريد أن يقول لنا إن الشعر هو فاعلية العالم، وأنه الأصل المؤسس للكون الذي ترتد إليه جملة الأصول. ربما تكمن هنا مشكلة أدونيس مع الدين المطبق، فهو غريب عن روحية الدين الكونية التي وجدها دوماً في الشعر. ويبدو في ذلك المؤمن الأعمق الذي ينقض حرفياً صورة الكاهن أو المسير أو الملقن. فالعلاقة مع البارئ توليدية للكائن وليست مسخاً وتحديداً له. ويحكم هذا الهاجس المعرفي كل مقارباته المتشظية لأسئلة العلاقة ما بين الغرب والشرق، والعلاقة مع المدن، فهناك دوماً بعد ميتافيزيقي يحاول أدونيس أن يتقصاه ويتساءل عنه في العالم، وكأنه يذكر العالم بأصله على طريقة فهمه للأصل الميتافيزيقي في الكون الدافع لديناميكية الإنسان، ولشعوره بأنه محيط أكبر. كأنه يقول لنا إن هذا المحيط الذي يجد الشاعر نفسه في خضمه قد غدا محيطاً تشاؤمياً أسود، وليس محيط استعادة الوحدة الكلية التي كانت للإنسان في"الأزمنة الشعرية الحديثة"في طفولته الأولى. يحول أدونيس أسئلةً يوميةً قد تكون شديدة النثرية إلى أسئلةٍ شعريةٍ، من نوع المدن وأميركا وسياسات الدول وحكاية ثنائيات الغرب والشرق والأصولية والعراق والصواريخ والموتى والضحايا اليوميين والسكاكين في عناق المثقفين. فهو دوماً ومنذ نضج تبرعماته يبحث عما وراءها. نستطيع القول إن لازمة أدونيس واحدة في كل ما يكتبه. إنها لازمة الشعر كفاعليةٍ إبداعيةٍ لا نهائيةٍ للكائن في شتى ظلمات محيطه، وكأصلٍ مؤسسٍ للعالم ترتد إليه سائر الأصول. لكأني به وأنا الذي جهدت كي أحرر الشعرية العربية من رؤياه ونظرياته ومن كثيرٍ من أفكاره عن الشعر بهدف جعل الشعر تجاوزاً دائماً وليس بهدف تقويض أدونيس"نفسه"كنزتنا الذهبية"بالمعنى الكوني، وأن أردها إلى عالم البشر الأليف والمفاجئ الذي يكتشف"الباثوس"الكوني في"أبسط التفاصيل"وربما أشدها"ابتذالاً"، في ما سميناه بتعابير قلقة بالقصيدة الشفوية التي تقترب بالشعر من عالم الكلام اليومي وتفاصيله وسلوكاته المباشرة، أو بقصيدة الحياة اليومية وقصيدة التفاصيل، ومقاربة جماليات نثر الحياة، أجد أن أدونيس كان ما هو منذ تبرعماته لكن في شكلٍ ديناميكيٍ مدهشِ، تتغير صوره لكن لا يتغير جوهره. هل ذلك مديح أم ذم باللغة السائدة؟ ليس كل ذلك بل كيف نقرأ الحال من داخلها حتى وإن تناقضت مع ما نطرحه كلياً، فأدونيس يعتقد أن الشعر هو الأصل المؤسس له ولمَ لا؟ ألا يعتقد مليارات البشر بأصولٍ مؤسسةٍ لهم، بل ويمارسونها في طقوسٍ وحروبٍ مبنيةٍ على كمال هداية الأصل المؤسس؟ قد يعني ذلك على مستوى ما يضمه"المحيط الأسود"من نصوص رأيٍ وتفاعلاتٍ وتواصلاتٍ وفوائض شعرية أو ربما شاعرية، أن أدونيس ينتسب إلى طائفةٍ ليست بطائفةٍ، وهي طائفة شعراء يعتقدون أن الشعر أصل العالم، ولكنه أصل ديناميكي يلتقي مع عظمة إنجاز الإنسان بقدر ما يراه في محيطٍ أسود أسود، كي يكون للأسود دلالة الخلق وتكوينه. إن أكبر"كذبات"أدونيس في"المحيط الأسود"أنه يعاني مشاكل العالم مثل أبنائه الأحياء، حتى ولو غاص في الصواريخ والمدن وپ"السياسيات"، لكن ما يبدو في طريقة معرفته للعالم، هو أن العالم هو الذي يشوش عليه، ولهذا يرتقي بالأسئلة إلى مستوى الأسئلة الكيانية الكبرى: أسئلة الشعر. وكأن أدونيس يقول للجميع إن كل"المحيط الأسود"ليس سوى فجوة الكائن عن أصله المؤسس الذي هو الشعر الذي يرتد في المحصلة إلى البارئ. هذا متصل بفاعلية أدونيس في القصيدة الميتافيزيقية التي تمثل أحد أروع الفصول في شعرنا العربي الحديث، ولم يعد يواصلها اليوم سوى ذلك الذي يشبه المسيح، لكن في اللوحات التشكيلية، وهو نزيه أبو عفش المتعدد والمتمرد لكنه في بعض تمرد ميتافيزيقي عظيم. ليست لأدونيس سلالة، سوى ما تتبجح به كتب النقد، وليست لديه ميليشيات سوى ما تثيره المساجلات الأشهى في الحياة الثقافية الموّارة بالأسئلة، وليست له مدرسة خارج تصنيفات المدارس، لكنّ لديه شيئاً أخطر من ذلك وليس بالضرورة أعظم منه، وهو أن مملكة الشاعر مفارقة بطبيعتها للعالم، غير أنها أصله التوليدي المستمر الذي يجعل من كل كائنٍ خلاقاً مكوناً في ملحمة الوجود الذي يتخطى لعبة الخطأ والصواب في العالم.