في الأشهر القليلة الماضية انصرفتُ إلى التأمل في الحال العراقية الراهنة مدفوعاً بين الشك واليقين إلى محاولة استجلاء كُنه مظاهر التجربة الحالية التي تراءى لي أنها تتراوح بين المعجزة التي تحققت بزوال نظام الطغيان والقهر الصدامي وبين المحنة التي يعيشها العراق وطناً وشعباً والتي تدفع به رويداً رويداً نحو اكثر التوقعات سوء وربما كارثية. بدا لي أن من الأفضل أن أعود إلى تجربتي الشخصية إذ يعرف من تابع كتاباتي على هذه الصفحة بالذات في"الحياة"أنني رأيت، قبل أعوام طويلة، أن نظام صدام حسين سائر لا محالة إلى الموقع الذي يستحقه في سلة مهملات التاريخ، لكنني توجست دائماً من أن الأنقاض التي ستنهال على نظامه المنهار ستكون اكثر من قدرة أولئك المتصدين على إعادة بناء عراق جديد يقوم مقامه. والآن، بعد اكثر من عامين على انهيار النظام أجد نفسي، ربما مثل غالبية العراقيين، وفي ضوء التدهور الحاصل، في دوامة السؤال عما إذا كانت فاعلية التغيير الكبير الذي تحقق بين ليلة وضحاها قد زالت أم أنه لا تزال هناك فرصة حقيقية للنجاح. حقيقة، لا أدري. وأعتقد أن ليس بوسع أحد في الوقت الحاضر أن يجيب عن السؤال الذي يجب أن يطرح بشجاعة ووضوح ومن دون مواربة: إلى أين يمضي العراق، هل إلى الحرب الأهلية والانهيار والتقسيم أم إلى إعادة البناء على أسس جديدة من الاستقلال والحرية والعدالة والوحدة والنمو؟ لكنني اعتقد أنه آن الأوان لإجراء مراجعة حقيقية وجدية لكل مظاهر التجربة وبخاصة تلك المغفلة في الحوار الدائر، بل أن تطرح الأسئلة الكبرى التي تعتمل في الصدور ويخشى حتى من التفكير بها حتى يمكن إلقاء نظرة فاحصة على مسيرة التغير وتقييمها التقييم الصحيح. هذا هو بالضبط مأزق العراق اليوم، وهو مأزق لأن التغيير الحاصل من فرط تشبثه بالماضي اصبح اعجز من أن ينتج هوية وطنية جديدة، وانحدر بدلاً من ذلك إلى القاع الذي مثلته عوامل القمع والإخضاع والاحتكار والإقصاء التي قام التغير على إزالتها. ولعل السؤال الأساسي الذي يرد هو هل كان التغيير ضرورياً، وما يستتبع ذلك وهل كان التغيير يعني إزالة نظام البعث الصدامي بكل مخلفاته فقط أم هو إعادة صياغة كلية للدولة والمجتمع في العراق وتشكيلهما من جديد على أسس حديثة تتجاوز الموروث المر؟ اليوم ينقسم العراقيون حول الإجابة عن هذا السؤال الجوهري بين ثلاثة معسكرات مذهبية وعرقية. أحدها يتمثل بالسُنة العرب، ويتشبث هؤلاء بأحلام السلطة والثروة التي أمسكوا بها طوال ثمانية عقود هي عمر الدولة وبالتالي فهم لا يرفضون التغيير فقط بل يقاومونه بقوة. والثاني معسكر يتمثل بالشيعة، ويرى في التغيير فرصة تاريخية لا تعوض لتعديل المسار وإعادة بناء الدولة على أسس اكثر واقعية وتمثيلاً وبالتالي اكثر إنصافاً في توزيع السلطة والثروة. أما المعسكر الثالث فهم الأكراد الذين يأتي التغيير كمحطة فاصلة في نضالهم القومي تحتم عليهم الخيار بين الاندماج الحر والطوعي أو الاستمرار في مراكمة الإنجازات في الطريق نحو الكيان المستقل. هذا هو صراع لا يمكن مداراته بأي توريات أو أنصاف حقائق من تلك التي نسمعها على لسان المتصارعين. ولكن السؤال هو هل عاد في الإمكان التوصل إلى تسويات تفاوضية من خلال مصالحة الادعاءات المتضاربة، أم أن كل الأطراف ستجد نفسها في مرحلة مقبلة أمام الخيارات الأصعب والأكثر إيلاماً، عبر سلوك طريق الحل الفاشي والحرب الأهلية الدموية أو المضي كل في طريقه سلمياً وتقسيم العراق إلى دول طائفية وعرقية وكفى العراقيين شر القتال؟ هل في الإمكان تفادي الكارثة التي يمثلها أي من الخيارين؟ من دون مواربة يبدو الأمر صعباً، ولعله يزداد صعوبة كل يوم يتسع فيه نهر الدم المراق في شوارع المدن العراقية وتتراكم فيه جثث العراقيين ويتجاوز فيه الصراع خطوطاً حمر وسقوفاً للتوقعات توضع خارج معادلة العرض والطلب المعروضة في السياق الجديد. لو ألقينا نظرة فاحصة على ما يجري لوجدنا أن العنف الأعمى هو السبب الأول لحال التدهور نحو الخيارات اليائسة بسبب السلسلة التي لا تنتهي من الأحقاد والضغائن والجروح المفتوحة التي يتركها في الجسد العراقي. لا يمكن لأي مراقب إلا أن يرى أن مصدر معظم عمليات العنف هي بعض المناطق السُنية العربية التي تشكل حاضنة للتنظيمات المسلحة والتي حين تضرب في الأماكن الأخرى وبخاصة في بغداد والمدن المختلطة فإن النسبة الأكبر لضحاياها هم من الشيعة الذين لا تخفي بعض التنظيمات المسلحة السنية استهدافهم، بعد أن مهّدت لذلك ببيانات تكفيرهم ونزع الانتماء الوطني عنهم معمقة المعاناة والأحقاد وروح العداء الناتجة من ممارسات النظام السابق والتي لا تزال معتملة في الصدور. هذا النوع من العنف المنفلت لا يمكن بأي حال من الأحوال تبريره بمقاومة الاحتلال، إذ على المرء أن يكون بليداً لكي يصدق أن قتل رجال الدين الشيعة أو استهداف مساجدهم أو تجمعات العمال الشيعة الخارجين للبحث عن مورد رزق هو مقاومة وطنية. إن تاريخ حركة التحرر الوطني العالمية المشرف لا يمكن إلا أن ينظر إلى مثل هذه الأعمال كونها لا دينية ولا وطنية ولا أخلاقية وهي لا تحمل إلا صفات الطائفية البغيضة المؤججة للنزاعات البدائية ولروح الانتقام والثأر. مهما كانت المعايير ففي التحليل الأخير لا يبدو مشروع العنف حاملاً لأي أفق سياسي فهو ليس إلا تكتيكا انتحاريا يحمل في طياته نوازع الشر الكامنة ولا يمكن أن ينتج إلا استراتيجية أكيدة للدمار الوطني. ومن الواضح أن أكثر من يقف وراء هذا المشروع هم البعثيون الذين اختطفوا القرار السني والذين يلجأون إلى عاداتهم القديمة نفسها وسياستهم المدمرة التي كانت أساساً وراء المأساة التي قادت العراق إلى هذا الشرخ الوطني. وهم يلجأون اليوم عبر شعارات ماكرة إلى منع بزوغ تجربة مشتركة لكل العراقيين. فالذين يقودون جماعات العنف مهما كانت تسمياتهم هم من أزلام نظام صدام الذين أخفقوا في حماية العراق والذود عن حدوده عندما كانوا في السلطة وهربوا من مواقعهم أمام الغزو الأجنبي وتركوا البلد يسقط في ذل الاحتلال وقهره، ثم عادوا يطرحون شعارات مضللة عن المقاومة والتحرير. ومن الواضح أيضاً أن ليس لدى هذه الجماعات من مشروع سياسي سوى خيار شمشون الذي وضعه صدام قبل هزيمته الشنيعة فمشروعهم الوحيد هو إما أن يحكموا العراق أو يهدونه على من فيه. ويبقى السؤال هل سينجح هؤلاء في جر السنة العرب إلى مستنقع الحرب الطائفية التي يخططون لها أم أن الوطنية العراقية هي التي ستنتصر في النهاية وسيجدون لهم مساحات التقاء مشتركة وحلول سلمية وتفاوضية مع الشيعة والأكراد. في المقابل يسجل للشيعة واقصد هنا الملايين من الناس العاديين أنهم أظهروا حتى الآن صبراً وضبطاً للنفس تجاه حملات دموية منظمة موجهة ضدهم، وامتنعوا عن الرد بالطريقة المنظمة ذاتها كما أظهروا التزاماً معلناً بمواصلة العملية السياسية التي تهدف إلى تحقيق المشاركة الفعلية لكل مكونات الشعب العراقي استناداً إلى النتائج التي تظهرها صناديق الاقتراع. ويعكس هذا الموقف وعياً والتزاماً وطنيين عاليين مثلما يعكس التمسك بما هو مشترك بين العراقيين ونبذ التشدد الذي يفرق بينهم. ففي الوقت الذي لا تكف التفجيرات وطلقات المدافع الرشاشة عن استهدافهم ولا تتوقف الإساءات إليهم سواء بكيل تهم التخوين أو إهانتهم بعبارات شوفينية بالية كمناداتهم ب"الروافض"و"الشعوبيين"أو عبارات هستيرية مستحدثة مثل"العلافة"، فإنهم حتى الآن لم يمنحوا أنفسهم إعفاء خاصاً أو يرفعوا درجة تضحياتهم إلى مرتبة تبريرات الانتقام المقدسة التي عادة ما يلجأ إليها الضحايا. غير أن هذا لا يعني أن القيادات الشيعية المتصدية لم ترتكب أنواعاً من الأخطاء من تلك التي عادة ما يمارسها من يتولون السلطة، حين يتصرفون كأنهم فوق مستوى البشر مما يجعل هذه الأخطاء قابلة للتضخيم وإساءة الفهم، ما يلحق ضرراً فادحاً بجوهر المعجزة التي تحققت وغايتها السامية التي هي إعادة بناء العراق الجديد على أسس من الحرية والمشاركة والتعددية. فمن البديهي أن تتحصن المرجعيات الشيعية بحق الغالبية سواء في تصحيح مسار الدولة العراقية أو في معالجة المظلومية التي عانى منها الشيعة خلال اكثر من ثمانين عاما أو لمواجهة الإحساس بالخوف وعدم الأمان الذي رسخه الإرهاب ضدهم، لكن هذه البديهية ستصبح خادعة وتنم عن أفكار مبسطة من دون طرح برنامج سياسي واضح المعالم يظهر للعراقيين أن عهدا جديدا من الحرية والعدالة واكتشاف الذات بانتظارهم. إن جوهر العملية الجارية هو إعادة صياغة هوية وطنية عراقية تقوم على المواطنة وتتحمل القيادات الشيعية في هذا الوقت بالذات مسؤولية كبرى في أن تجعل مثل هذه الهوية ممكنة وان تجعلها فاعلة بعيدا عن أنماط الثقافة الطائفية. إن الملايين من الشيعة الذين تحدوا الإرهاب وحملوا حيواتهم على أكفهم عندما ذهبوا ليدلوا بأصواتهم في الانتخابات فعلوا ذلك ليس فقط لتأكيد وجودهم في لحظة مصيرية بل لأنهم أيضا كانوا يستشعرون ضرورة المشاركة في عملية التحرر الشاملة من إرث الشمولية وأن تكون مشاركتهم جزءاً أساسياً من عملية إعادة البناء ولكي يتمكنوا من فتح القنوات التي أغلقت عليهم طيلة عقود. لذلك سيكون عملاً من أعمال التعسف والإفراط والشمولية لو أن مجموعات من التنظيمات الدينية فرضت هيمنتها على التيار العريض من الشيعة محاولة أن تتصرف بطريقة المنتصر حتى على طائفتها لاستغلال السلطة التي استولت عليها. ثم هناك حقيقة لا بد أن تدركها القيادات الشيعية الحالية وهي أن هناك"جيوبولتيك"شيعي بدأ يتكون في المنطقة جراء التغير في العراق، وأنها ستتحمل مسؤولية تاريخية في توجيه هذا الوضع"الجيوبولتيكي"نحو تجربة خلاقة للتعايش بين المذاهب الإسلامية في المنطقة بما يضمن تطورها وتحديثها بعيدا عن تيارات العنف والإرهاب المدمرة. يحتاج الموقف الكردي أيضاً إلى وقفة واضحة وجريئة مع النفس ومع بقية العراقيين بخصوص المستقبل، وقفة قائمة على حسابات موضوعية ودراسات جدوى سياسية واقتصادية معمقة في إطار الكيان العراقي وفي عالم متعولم لم يعد فيه للكيانات القومية الصغيرة ذلك السحر الذي يدغدغ المشاعر ويطرب القلوب. ليس بإمكان أحد أن يجادل في حق الأكراد الإنساني والسياسي في تقرير مصيرهم والانفصال في دولة مستقلة، لكن صيغة الارتباط الحر والطوعي التي اختاروها مع عراق موحد ديموقراطي تعددي فيدرالي تحتاج إلى ضمانات متوازية ومتساوية ومشتركة للسماح لكل العراقيين بالبدء من جديد. في هذه اللحظة التاريخية المهم هو بقاء العراق، إذ ما جدوى الفيدرالية إذا لم يكن هناك عراق موحد أصلا، وما قيمة الفيدرالية إذا لم يكن هذا العراق ديموقراطياً وتعددياً؟ ثم أن مستقبل العراق ينبغي أن يقرره شعبه، أي شيعته وسنته وعربه وأكراده وكل مكوناته الدينية والعرقية في وضع آمن ومستقر وليس عن طريق صفقات إقطاعية تعقد مع حفنة مغلقة على نفسها من السياسيين وفي ظروف يدمر فيها الإرهاب تجربة بناء نموذج العراق الجديد. أرى أن مهمة العراقيين الأساسية التي ينبغي أن تعطى الأولوية في الوقت الحالي على كل ما عداها هي مهمة ترسيخ ومن ثم إنجاز الهوية الوطنية الجامعة. إن جوهر مشروع التغير هو سيكولوجي قبل أن يكون سياسيا وأفضل تفسير له هو أن يحدث علاج داخلي للبنية النفسية للمجتمع العراقي، علاج يستهدف بالدرجة الأولى نزع الكثير من الأساطير والخيالات المكبوتة ويهيئ الأرضية لتنازلات مؤلمة تتخطى كل موروث الضغائن والأحقاد والغطرسة والتعالي. علاج يتوب فيه ويكفر عن ذنوبه البعض، وينظر الآخر إلى الأمام بتسامح وثقة، إذ من دون ذلك لا يمكن أن يكون هناك مستقبل للعراق مفعم بالحياة والحرية وربما لن يكون هناك عراق أساساً. * كاتب عراقي.