عندما كانت القوات الأميركية تنسحب من العراق في 2010، بدا جهد اميركا لفرض الاستقرار على البلاد كمهمة رجل مرهق، انتهى لتوه من دفع صخرة ضخمة صعوداً الى تلة. بُني الزخم بصعوبة اثناء الاقتراب من القمة. هل كان موفقاً التوقف عن الدفع على امل ان يوصل الزخم الصخرة الى أعلى التلة؟ ام ان الصخرة كانت ستتوقف ثم تتدحرج ببطء نحونا مثيرة الرعب؟ العراق في هذه الأيام قضية لا أمل منها، لم تظهر أي من مشكلاته فجأة. وفي الطفرة الأخيرة من سفك الدماء الطائفي والعرقي، هزت تفجيرات القنابل المنسقة المناطق الشيعية من بغداد وشمال العراق لتقتل أكثر من 30 شخصاً. وأعقب اندلاع العنف بين الجيش العراقي والمحتجين السنّة الشهر الماضي، حيث فقدت الحكومة الاتحادية السيطرة موقتاً على بعض المدن والأنحاء في كركوك ونينوى وديالى. تتراكم المؤشرات السلبية: أعيد إحياء الميليشيات المدنية المسلحة، وتستهدف التفجيرات المتبادلة مساجد السنة والشيعة وتتفكك بعض قوات الجيش العراقي الى مكوناتها العرقية والطائفية او تعاني التغيب المزمن لكثيرين من عناصرها. وتبدي شرائح من الجسم السياسي العراقي- من الأكراد والعرب السنّة والشيعة- استياء شديداً من عجز الحكومة عن التعامل مع التفاوت السياسي والاقتصادي، وتتحدث حديثاً جدياً عن التقسيم. سعت الحكومة العراقية الى إلقاء اللوم في اخفاقها على الانتفاضة السورية، متذرّعة بأنها عانت تسرّب العنف من الجوار. بيد أن العذر هذا بلا وزن- لقد انتهى التحسن الأمني قبل بداية الأزمة السورية في ربيع 2011. والمحرك الحقيقي للعنف في العراق قد يكون في السلطة شديدة المركزية في بغداد، والتي حلّت قبل أوانها بكثير وتداخلت مع المخاوف الطائفية. كانت اميركا تعي الخطر هذا. وكانت فكرة مشاركة الجميع في السلطة، أو المحاصصة، حجر الزاوية في السياسة التي قادتها الولاياتالمتحدة في العراق حتى 2008، وهي عملت ايضاً لتضمين الدستور مبدأ اللامركزية الادارية. عكست السياسة هذه حقيقة راسخة ان العراق في مرحلة ما بعد صدّام غير جاهز لقبول نظام سياسي منقسم بين منتصرين انتصاراً مطلقاً وخاسرين خسارة مطلقة. لذلك، لا تكمن جذور العنف في العراق في الكراهية القديمة بين السنّة والشيعة او بين الاكراد والعرب، بل بين دعاة المركزية وأنصار اللامركزية- وبين أولئك العازمين على وضع ماضي العراق وراء ظهورهم وبين المصرّين على الاستمرار في خوض صراعاته. لا يمكن ان تكون المطالب التي تصر عليها المعارضة الكردية والعربية السنّية المناهضة للمالكي أوضحْ مما هي عليه. تريد المعارضة، أولاً، نقل السلطة المالية الى حكومة اقليم كردستان والمناطق، من خلال قانون للمشاركة في العائدات يصوغ الحصة من الموازنة المخصصة لحكومة اقليم كردستان والمناطق. ثانياً، تطالب المعارضة بتطبيق نظام التحقق والتوازن مع الجناح التنفيذي، خصوصاً تفعيل البرلمان ومنحه سلطات أوسع وضمان استقلال القضاء. وتدعو، ثالثاً، الى مصالحة واسعة تؤمّن العدالة لمن تضرر من نظام صدام لكنها تحول دون انزال عقاب جماعي بالسنّة. ولكن يبدو ان العنف في العراق سيزداد سوءاً، ما دامت المطالب بإضفاء اللامركزية على السلطة مدفوعة الى حدودها القصوى. يحتاج الأكراد والسنّة الى سبب شديد الإقناع للبقاء داخل هذا الإطار المفكّك الذي يشكّله العراق اليوم. وتقدم الانتخابات الوطنية في 2014 امكان بداية جديدة لعملية بناء الدولة، لكن استبدال المالكي لا يمكن أن يكون شرطاً لتنفيذ الاستراتيجية الجديدة الرامية الى انقاذ العراق. ويمكن رئيس الوزراء الفوز بسهولة: فهو يملك العديد من نقاط القوة قبل التوجه الى صناديق الاقتراع، منها سيطرته على أكثر الوزارات وأجهزة الاستخبارات والأمن والمحاكم الاتحادية. وإذا اختارت واشنطن دعم أنصار اللامركزية في العراق، لن تكون وحدها. ولأسباب مختلفة، سيرحب جميع اللاعبين في العراق اليوم، من المعارضة الى الأتراك وصولاً الى الايرانيين، بحكومة أضيق سلطة في بغداد. بكلمات ثانية، يحوز الجهد هذا على حظ من النجاح. ولم تسفر تجربة إحلال رجل قوي جديد في بغداد عن عراق أكثر استقراراً. وينطوي ترك الأعنة التي تجمع العراق الى بعضه على مجازفة، لكن الخطر الأكبر هو في الامساك بها بقسوة مفرطة. * كاتب، عن «فورين بوليسي» الاميركية، 15/5/2013، إعداد حسام عيتاني