كان غياب المارونية السياسية احدى نتائج الحروب التي تعاقبت على لبنان منذ سنة 1975، وذلك بعد سقوط رموزها الابرز مثل كميل شمعون وحزب الكتائب برئاسة بيار الجميل ونجليه بشير وأمين. والحضور السياسي المسيحي بعامة والماروني بخاصة منذ اتفاق الطائف 1989 لم يكن ليعكس الدور الذي لعبته المارونية السياسية سلباً وايجاباً في قيام لبنان وتأسيسه واستقلاله وصولاً الى انهياره وإلحاقه بالوكالة والاصالة بالسياسة السورية. واذا كان العقد الذي سبق اتفاق الطائف قد تكثفت فيه الصراعات المارونية - المارونية في مرحلتين: الاولى فرض قيادة بشير الجميل على مجمل المشهد السياسي الماروني، والثانية توالي الانقسامات داخل القوات اللبنانية نفسها التي شكلها بشير ورفعته الى سدة الرئاسة في ظل الاحتلال الاسرائيلي للبنان في 1982، كان اغتياله ووصول شقيقه أمين? للرئاسة بداية تصدعات في صفوف القوات تتابعت حتى سعت الى إلغاء بعضها البعض. وجاءت ذروة انحسار المارونية السياسية بعد تعذر انتخاب رئيس جديد عندما انتهت ولاية أمين الجميل الذي شكل في اللحظة الاخيرة حكومة عسكرية قاطعها المسلمون برئاسة قائد الجيش آنذاك ميشال عون وخاض عون حربين متزامنتين، واحدة عرفت بحرب الالغاء لأنها كانت تستهدف إلغاء القوى السياسية المارونية الأخرى، وواحدة عرفت باسم حرب التحرير التي كانت تستهدف تصفية حكومة بيروت تحت شعار اخراج السوريين من لبنان. وجاءت تداعيات غزو النظام العراقي السابق للكويت فتخلت الادارة الاميركية عن تحفظها بانهاء ما عرف بتمرد عون على اتفاق الطائف وعلى السلطة اللبنانية المنبثقة منها. ومع اخراج عون من قصر بعبدا أواخر 1991، كانت المارونية السياسية تشهد آخر تجلياتها ليدخل الموارنة بخاصة والمسيحيون بعامة في حالة من التهميش شارك فيها، الى جانب النظام في سورية، معظم الانظمة العربية والمجتمع الدولي ولاقت ترحيب معظم القوى السياسية اللبنانية الأخرى. وانعكس ذلك على ثلاث انتخابات برلمانية أجريت في اعوام 1992 وپ1996 وپ2000 الذي شهد أيضاً الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب وانهيار الوجود التابع له في منطقة الشريط الحدودي. لكنه شهد، في المقابل، بداية تحرك لعودة المارونية السياسية متمثلاً بالنداء الذي وجهه مجلس المطارنة الموارنة في ايلول سبتمبر من العام نفسه والذي كان يطالب بخروج القوات السورية من لبنان. وعلى رغم ان مثل هذه المطالبة بدت خجولة فإنها ازدادت وضوحاً بعد احداث 11 ايلول سبتمبر 2001 وما اعقبها من تطورات في السياسات الدولية وانعكاساتها المحلية. ويذكر في هذا المجال ان نبيه بري رئيس البرلمان اطلق مبادرة استجابة لبيان المطارنة، لكن مبادرته تعرضت لهجوم قيل انه تم بتحريض من الزعامة الجنبلاطية التي قادت بنفسها في مرحلة لاحقة التوجه نفسه. الخطوة الثانية للمارونية السياسية تمثلت في قيام قرنة شهوان كتجمع سياسي ماروني تغطيه عباءة البطريركية ويشرف على أعماله احد المطارنة، وكان اوضح مطالبه خروج القوات السورية واقامة علاقات متوازنة بين دولتي سورية ولبنان بما فيه تبادل التمثيل الديبلوماسي. وترافق ذلك مع نشاط لبناني اغترابي ماروني عموماً تتوج بلقاءات في الولاياتالمتحدة وتزامن مع صدور قانون محاسبة سورية وإعادة السيادة الى لبنان. لكن قبيل التمديد للرئيس لحود انتقلت المواجهة حول لبنان بين واشنطن ودمشق الى مجلس الامن الذي اصدر اول قراراته في هذا المجال وهو القرار الرقم 1559. المارونية السياسية التي التقت في قرنة شهوان ظلت ضعيفة الحضور والتأثير قبل ان يلقى بعض مطالبها تأييد زعيم الدروز الموحدين وليد جنبلاط، وقد امتد الحلف بعد اغتيال رفيق الحريري ليشمل الاطراف الثلاثة، وفي هذه الاثناء كانت قيادة مارونية في المنفى متمثلة بميشال عون تواصل معارضتها التي حاولت ان تتناغم مع تلك النامية في لبنان. هكذا فرزت تطورات الشهور القليلة الماضية مشروعين لعودة المارونية السياسية. الاول تمثله قرنة شهوان ومعظم عناصره سياسيون من دون ماضٍ ميليشياوي وحربي وابرز وجوهه نسيب لحود وفارس سعيد وبطرس حرب. والثاني يدور على محورين: محور القوات اللبنانية الساعية لاطلاق قائدها من السجن ومحور التيار الوطني الحر الساعي لعودة قائده من المنفى. وقد بدا واضحاً ان بوابة العراق في 1991 التي فُتحت لعلاقات اميركية - سورية وأدت الى اقفال قصر بعبدا مقر رئاسة الجمهورية في وجه عون هي نفسها التي أدت عام 2005 الى فتح قصور بيروت امام"تسونامي"عون العائد من باريس، على رغم ان عودته أثارت ارتباكاً بين الاصدقاء المفترضين كما بين الاعداء المفترضين ايضاً، وفي هذين المحورين تعود المارونية السياسية مع تاريخ ملتبس لكل منهما اضفى على مستقبل المشروع الذي يحمله كل منهما أسئلة بعضها واقعي والآخر مفتعل. واذا كان عون، بعد أن أعطته الانتخابات الأخيرة مركز الثقل المسيحي، يطمح لأن يكون منقذاً للبنان على طريقة شارل ديغول، فإن الواقع اللبناني يقف في وجه طموحاته ويفرض عليه مقاس زعامة طائفية. واللافت ان صديقه اللدود وليد جنبلاط يعاني من المشكلة نفسها فهو الذي يطمح ان يكون منقذاً للبنان على طريقة لينين تارة وياسر عرفات تارة اخرى، لكن الواقع اللبناني لا يتسع لطموحاته المشروعة. والمهم هنا ان ميشال عون بدأ يشعر ان جنبلاط بالذات هو العائق امامه وامام دوره التاريخي وذلك من خلال قطع كل محاولة تهدف للتحالف مع احدى الطائفتين الاسلاميتين الكبريين: السنة والشيعة. ولم يكن سهلاً على عون ان تكون اصوات الشيعة في بعبدا - عاليه هي المرجحة لقائمة خصومه من المسيحيين وسقوط حلفائه وبعضهم مثل طلال ارسلان يعتبر من حلفاء الخط السوري في لبنان الذي يفترض ان الشيعة متعاطفون معه. ومع مصاعب تشكيل الحكومة وملابساته، عاد عون وحيداً يغرد خارج سربه في وقت يحاول سمير جعجع أن يخرج من قفص أسره. المهم ان عودة المارونية السياسية الى دور قيادي في الساحة اللبنانية تواجهه، كما هو واضح، صعوبات كثيرة ليس اقلها ان بابي القوات والتيار الحر قد لا يكونان المدخلين المناسبين. فالطائفة التي لعبت الدور الابرز في تأسيس لبنان الكبير قد تكون، بسلوكها أحد المدخلين، تعلمت قليلاً من دروس الماضي وتعاني من سوء معرفة بالوضع العالمي الراهن وتطوراته. واذا كانت المارونية ضحية التهميش سابقاً من قوى اقليمية ودولية، فهل تكون هي الساعية الآن لتهميش نفسها او المساعد الابرز لمن يريدون لها ان تبقى مهمّشة؟ لا بد من القول ان التحرك الماروني الأخير أضفى حيوية على العملية الانتخابية وربما بشر بعودة الروح الى السياسة في لبنان. فإذا كانت المارونية مريضة فلبنان مريض ولن يشفى الا بشفائها، أما فرض المزيد من العزلة عليها فيعني إعاقة لعودة لبنان - ليس اللبناني فقط، كما يحب بعض الموارنة ان يقولوا، بل لبنان العربي والمسلم ايضاً، كما تقول لغة الواقع وتقرر احداث التاريخ.