تحول حديث الإصلاح السياسي في مصر إلى صراع يومي بين فرقاء الساحة السياسية منذ أن أعلن الرئيس مبارك تعديل المادة 76 من الدستور، والسماح لأكثر من مرشح بالتنافس على موقع رئيس الجمهورية، ثم قيام مجلس الشعب البرلمان بالموافقة على هذا التعديل متضمناً قيوداً تعجيزية قضت على أي أمل أمام المستقلين والقوى غير الحزبية للترشح في الانتخابات المقبلة في أيلول سبتمبر 2005. سمحت الحكومة المصرية لقادة الأحزاب السياسية التسعة عشر بتقديم مرشحين لانتخابات الرئاسة المقبلة من دون التقيد بالنسب التعجيزية التي وضعتها أمام المرشحين والتي تقضي بأن يحصل المرشح من خارج الأحزاب على تأييد 250 عضواً من أعضاء مجلسي الشعب والشورى البرلمان والمجالس المحلية، يكون من بينهم 65 عضواً في مجلس الشعب، و25 عضواً في مجلس الشورى، وعشرة أعضاء من كل مجلس محلي في 14 محافظة كحد أدنى، ويستكمل العشرون الآخرون من بين أعضاء المجالس الثلاثة. ويشكل هذا العدد نسبة تتجاوز خمسة في المئة من مجموع أعضاء المجالس المنتخبة البالغ عددهم 3850 عضواً، ويبلغ أضعاف ما يتطلبه النظام الانتخابي الفرنسي الذي ينص على ضرورة حصول المرشح لموقع الرئاسة على توقيع 500 عضو من مجموع أعضاء المجالس المنتخبة البالغ عددها 45 ألف عضو أي نسبة نحو 1 في المئة. وصاحب هذه القيود التعجيزية معيار بيروقراطي آخر حكمه منطق الدرجات الحكومية والأقدميات الوظيفية، واعتبر أن ليس من حق أي حزب سياسي أن يكون له مرشح في انتخابات الرئاسة إلا بعد أن يمر على تأسيسه خمس سنوات في قيد بيروقراطي من الصعب أن نجد له مثيلاً في أي نظام انتخابي في العالم. وبدت هذه الشروط التعجيزية وكأنها محاولة لبقاء الحال السياسية على ما هي عليه بأطرافها الثلاثة، وهي الدولة المصرية التي يعتمد الحزب الوطني الحاكم على أجهزتها الإدارية والأمنية لمصلحة بقائه في السلطة، والثانية هي جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، والثالثة هي بعض قطاعات من النخبة المدنية المنخرطة في حركة"كفاية"وقوى التغيير الجديدة إضافة إلى ما تبقى من أحزاب المعارضة الثلاثة الرئيسية أي التجمع والوفد والناصري. أما الجماهير فظلت خارج المعادلة السياسية تعاني من قهر الدولة أحياناً وتغوص في سلبية عميقة في أحيان أخرى، وتعبر عن إحباطها ببعض الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية المتفرقة أو بحالات من العنف العشوائي. وبدا المشهد السياسي المصري جامداً نتيجة لعجز الجميع عن مناطحة الدولة الراسخة على رغم كل أزماتها، إذ نجحت في فرض نمط ثقافي مهيمن على مسار المواطنين، ثم تداخل هذا النمط مع بعد سياسي عقب قيام ثورة تموز يوليو 1952، وصارت مؤسسات النظام كالاتحاد الاشتراكي في الستينات ثم حزب مصر العربي الاشتراكي والحزب الوطني في السبعينات تستفيد من هذا الإرث، ولم تحاول تقليصه، إنما عمقته لمصلحة بقائها ودعم مشروعيتها السياسية. وأدى اعتماد الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم بشكل كلي على مؤسسات الدولة العامة إلى انتقال الثقافة السياسية السائدة داخل أي مصلحة حكومية إلى بنيته الداخلية، وأصبحت الغالبية العظمى من أعضائه تتحرك بناء على أوامر إدارية، وصارت علاقاتهم بقادتهم الحزبيين مثل علاقة الموظفين برؤسائهم في المصالح الحكومية، والمطلوب منهم السمع والطاعة والتملق من أجل الحصول على استثناء أو خدمة. ونتيجة لذلك ضم الحزب الحاكم تشكيلة متنوعة من كل ألوان الطيف البيروقراطي، وأعداد هائلة من الأعضاء الراغبين في الإفادة من مؤسسات الدولة لحل بعض المشكلات الموجودة داخل دوائرهم الانتخابية أو مناطق نفوذهم، وأصبحت صورة الحزب الوطني طوال العقدين الماضيين أقرب إلى صورة"جهاز الدولة"الذي يضم تشكيلة متنوعة من كل ألوان الطيف السياسي وغير السياسي الذين اكتشفوا بين ليلة وضحاها أنهم انتقلوا من وظيفتهم الإدارية إلى"وظيفتهم الحزبية". ولعل من نتائج تداخل الحزب الوطني مع جهاز الدولة أنه أصيب بحال من الترهل نتيجة غياب طريقة سياسية في إدارة حركته الحزبية والتنظيمية، وصار مزدحماً بالمتكالبين على إيجاد مواقع لهم في قوائمه الانتخابية وسُلَّمه القيادي، ليس بسبب عبقرية قيادته، ولا بسبب خطه السياسي المقنع، إنما ببساطة لكونه"حزب الدولة"القادر على تقديم خدمات لأعضائه في ظل غياب أي فرص حقيقية لتداول السلطة مع أحزاب أخرى. وحاول الحزب الوطني أن يقدم صورة سياسية عن نفسه، فردد أنه يعبر عن تيار الوسط، وفي الحقيقة فإن تعريف هذا التيار عادة ما يأتي مصحوباً بالحديث اما عن يمين الوسط أو يسار الوسط، ولكن الحزب الحاكم حرص على إبراز"وسطيته"بصورة بدت وكأنها محاولة للابتعاد عن التصنيف السياسي بل وأحياناً كانسحاب من السياسة نفسها. وعليه فإن الخطوة الحقيقية والفاعلة لإجراء إصلاحات حقيقية داخل الحزب الحاكم، ستبدأ حين يتحول الحزب من مؤسسة حكومية إلى حزب سياسي، وهو لن يتحقق إلا بانقسامه إلى حزبين، أحدهما يعبر عن يسار الوسط والآخر عن يمين الوسط وبخاصة أنه يضم بعض الأعضاء من ذوي الاهتمامات السياسية، ومنهم من هو أكثر تقدمية في آرائه الاجتماعية من البعض الآخر، كما أن هناك من لا ينظر إجمالاً بعين الراحة إلى الولاياتالمتحدة ولا يزال يأمل في بناء تضامن عربي لمواجهة التحديات الخارجية، كما يضم الحزب أيضاً ليبراليين وقريبين من الرؤية الأميركية على يمين التيار الأول. والحقيقة أن الحزب الوطني يحتاج لأن يصبح أولاً حزباً وليس مؤسسة حكومية، كما أن فكرة وجود تيارين بداخله أحدهما شاب يدّعي لفظاً إنه إصلاحي، والآخر تقليدي يمثله الحرس القديم لم يكن في أي يوم ملهماً للشارع المصري، ولم يسهم حتى في تطوير الحزب الوطني نفسه لأنه عكس الجمود القائم، ولم تحاول فتح بدائل جديدة للإصلاح من خارج أجنحة الحزب، ومن داخل النظام وعباءة الدولة. ولعل انقسام الحزب الوطني إلى حزبين كبيرين لكل منهما منظومته الفكرية المتكاملة قد يؤدي إلى نوع من الفرز السياسي الطبيعي والأولي يساعد على وضع معايير سياسية لضم الأعضاء الجدد تحل مكان حزب الخدمات أو حزب الدولة الذي يتكالب عليه الأعضاء الجدد لأسباب ليس لها علاقة بالخيار السياسي. إن وضع قواعد للمنافسة داخل الحزب الوطني بخلق تيارين للتوافق الوطني العام، أحدهما محافظ والآخر ذو وجه تقدمي من دون أي مساس ببغية ألوان الطيف الحزبي والسياسي، سيعني دخول الحزب الحاكم إلى عالم السياسة بمعناها الحزبي والمؤسسي عبر امتلاكه خطاباً متماسكاً لديه قواسم فكرية مترابطة بدلاً من الخطاب العام الذي يحاول أن يرضي به كل الأطراف، كما سيتم فرز أعضائه من خلال أبعاد فكرية وسياسية وعبر اختبار لقدرتهم على تعلم تقاليد العمل الجماعي والمؤسسي، وسيسهم أخيراً في تجاوز أزمة ثقافية وسياسية تحيط بأحزاب المعارضة التي ينظر إليها في كثير من الأحيان وكأنها خارجة على الشرعية. ستحتاج مصر إلى خطاب جديد يتجاوز حال الاحتقان الصفري حول مسألة الإصلاح السياسي بين جهاز دولة راسخ على ترهله، وبين قوى معارضة خارج الأحزاب التقليدية وجماهير محبطة ما زالت تراقب المشهد، وصار من المهم ألا تترك إلى لحظة غضب تحركها إحباطات الواقع الاجتماعي لا عقلانية الخيار السياسي والحزبي، وهذا لن يتم إلا إذا بدأت الدولة في العودة إلى البديهيات، أي أن تكون هناك أولاً سياسية وسياسيون ثم أحزاب وحزبيون، ولعل البداية ستكون بإصلاح الحزب الوطني بتحوله إلى حزبين ينهيان فكرة حزب الدولة أو حزب الحكومة البيروقراطي، ويفتحان أفقاً جديداً للحياة السياسية المصرية? كاتب مصري.