تنطلق بعد غد الأحد المرحلة الثانية من الانتخابات في لبنان، وهي ستكون في محافظة جنوبلبنان الذي لا يبدو انه سيشهد منافسة حامية. لكن لهذه الانتخابات اهمية اخرى تتمثل في سعي"حزب الله"الى تحويلها الى استفتاء حول سلاحه. التحالف التقليدي بين الحزب وحركة"امل"تجدد في هذه الانتخابات، وثمة دعوات مسيحية الى مقاطعتها احتجاجاً على قانون الانتخابات. وبين هذين الحدين ثمة مرشحون آخرون ينتظرون مفاجآت او حظوظ. هنا تحقيق عما يشهده الجنوب في الفترة التي تسبق الأنتخابات. الرجال المسنون الذين كانوا امام منزل عند مدخل بلدة الخيام اللبنانيةالجنوبية عصر اول من امس سينتخبون على الأرجح لائحة تحالف"امل"-"حزب الله"كاملة. لم يقولوا ذلك طبعاً، لا بل ابدوا امتعاضاً شديداً من رتابة الانتخابات في الجنوباللبناني التي تأتي نتائجها متطابقة منذ اكثر من 12 عاماً. لكن هؤلاء الرجال ممسوسون باللائحة، اذ عندما تواجههم بأن احتجاجاتهم على الحال التي اوصلتهم اليها اللائحة التي انتخبوها في الدورة السابقة، لن تترجم في صناديق الاقتراع، وان"محدلة"الجنوب الانتخابية مطمئنة هذه السنة الى كسل الجنوبيين، يصمتون ثم يعاودون احتجاجهم، ويصعدونه بأن يقول احدهم انه لن يشارك في الانتخابات. فالخيارات امام الناخب الجنوب شبه مقفلة وتكرار نجاح محدلة تحالف الحركة والحزب على مدى ثلاث دورات انتخابية نيابية ونظيرها بلدية دفع الناخب الجنوبي الى الاعتقاد بأن هذه القوى لا يثمر في ازاحتها اصوات افراد متفرقين، والانتخابات في الجنوباللبناني فعل جماعي الأفراد فيها ضعفاء. ثم ان التغيير الكبير الذي شهده لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان تأثيره ضعيفاً في الجنوب وهو لم يؤد حتى الآن الى استيقاظ ما قد يشعر الناس بتحررهم من نفوذ القوى السائدة، ثم ان"حزب الله"نجح الى حد كبير في بث الشكوك في هذا التغيير في اوساط كثير من السكان. علماً ان زائر الجنوب يلمس حاجة هذه المنطقة الى احداث تعديل جوهري في تمثيلها السياسي. المتجول في بلدة الخيام وهي من القصبات الكبيرة في قضاء مرجعيون اكثر من 10 آلاف ناخب، قد لا يتمكن من رصد تبديل واحد في ظروف حياة اهلها منذ الانسحاب الاسرائيلي منها عام 2000، باستثناء اللافتات الانتخابية المتقابلة وغير المتنافسة. في ساحة البلدة رجال مسنون ومتاجر بائسة وفي الطرف الثاني من الشارع جرافة تعمل على توسيع الطريق المؤدي الى معتقل الخيام، فيما يومىء رجل مسن الى الجرافة قائلاً"لا نرى اعمالاً في البلدة الا في الفترة التي تسبق الانتخابات، حيث يعمد النواب الى رشوتنا بقليل من الأسفلت". لكن التبديل الذي نتحدث عنه لا يقتصر على تحسين الخدمات، انه شيء آخر يتعلق بروح البلدة او بجهازها العصبي، فالبطء المتفشي في انحائها مرتبط الى حد كبير بما احدثته القوى السائدة فيها. عدد سكان البلدة مثلاً تناقص منذ الانسحاب منها، والنشاط الاجتماعي للسكان هبط، ومسيحيو البلدة لم يعودوا، و"المقاومة"هي عنصر الحياة الوحيد. الرجال المسنون، اولئك الذين كانوا جالسين امام احد المنازل عصر اول من امس تحدثوا عن اشهر كلمة يتداولها الجنوبيون في موسم انتخاباتهم وهي"المحدلة". قال احدهم"ان جيراننا في بلدة شبعا احتجوا على المرشح الذي اختارته المحدلة من بلدتهم واعلنوا انهم سيقاطعون وكانت النتيجة ان فاز هذا المرشح بالتزكية ومن دون جميلهم، فماذا عسانا نفعل نحن؟". اومأ الرجل الى البلدة التي يقع منزله عند مدخلها وقال"سينتخب ابناء البلدة وسننتخب معهم، وسيأتي النواب نفسهم...". يُشعرك هؤلاء بأن الاقتراع الجنوبي هو نوع من جلد النفس، وانه طقس عاشورائي جماعي يختلط فيه الحزن بالأحتفال، ويتوج في كل مرة بالندم. لا تشعر اثناء تجوالك في المدن والقرى الجنوبية بأنك في مرحلة انتخابات نيابية. لائحة تحالف"امل"-"حزب الله"قررت على ما يبدو تقليص نفقاتها الأنتخابية الى حدها الأدنى. صور المرشحين على هذه اللائحة قليلة جداً وتكاد تكون منعدمة، والجولات الانتخابية للمرشحين مقتصرة على لقاءات محدودة ووعود موضعية. انه نوع من الترف الانتخابي في ظل انعدام المنافسة، وهذا الترف يقابله على الضفة الأخرى، كسل ويأس مصابة بهما ماكينات المرشحين المنافسين القلائل. وحقيقة تقليص النفقات الانتخابية من قبل لائحة"امل"?"حزب الله"اكدها ل"الحياة"ناشط في ماكينة الحزب قال"اننا نشعر بأن التعليمات لا تتضمن صرامة كانت مطلوبة في كل الانتخابات". واشار الى ان جهاز النقل الانتخابي لدى الحزب ليس مستنفراً على النحو الذي كان مستنفراً فيه في الدورات السابقة، وقال الناشط انه سيلتزم هو باللائحة لكنه ربما لن يبذل جهداً مع اهله مثلاً كي يلتزموا بكل اعضائها. ويبدو ان الضجر والرتابة الانتخابية اللتين تنتابان حماسة الناخب الجنوبي انتقل جزء منها الى ناشطي"حزب الله"، وربما اضيفت عوامل اخرى لتعزز منهما لديه. فالتحالفات الانتخابية المتطابقة منذ اكثر من 12 عاماً والخالية من اي ميل الى التجديد يمكن رصد آثارها في نفوس ناشطي الحزب. والأمر الثاني الذي يمكن رصده في هذا الاتجاه هو عدم تجانس الماكينتين الانتخابيتين للحزب والحركة. اما العنصر الثالث وهو الأهم فهو شعور عناصر الحزب بأن هذا التحالف لم يعد كافياً لتأمين حماية ل"المقاومة"وهو وان كان ضرورة في هذه المرحلة، لكنه يؤدي الى خسارة الحزب مواقع له عند قوى تجد في تحالفه مع حركة"امل"استهدافاً لها، مما قد يبعدها عن مواقف"حاضنة"للمقاومة. للحديث مع ناشطي الحزب في الجنوب هذه السنة طعم مختلف. فالحزب من جهة يريد من هذه الانتخابات في الجنوب ان تكون استفتاءً داعماً ل"سلاح المقاومة"، ولكنه يدرك من جهة اخرى ان الجنوب وحده لا يكفي لكي يقرر في مصير هذا السلاح. علماً ان الحزب عاجز على ما يبدو عن اعطاء"فواتير جنوبية"لقوى قد تساعده سياسياً لا انتخابياً خارج الجنوب، كما انه ملزم بدعم قوى لصيقة به ولكنها تفقده اهلية تمثيلية. فيمكنك ان تسمع احتجاجات من داخل الحزب على عدم ضم مرشح من الحزب الشيوعي الى لائحة التحالف، وفي المقابل ثمة ضيق في الأوساط نفسها من الاستمرار في ترشيح مرشح الحزب السوري القومي الأجتماعي اسعد حردان على اللائحة. لكن الثابت في احاديث عناصر الحزب هو الريبة الممتدة لتشمل كل القوى الحليفة منها وغير الحليفة. والريبة هنا ليست ريبة انتخابية وانما سياسية، وهي تطاول التوقعات من تحول مواقف هذه القوى في حال طرح موضوع سلاح"حزب الله"على النقاش بشكل فعلي، فالتحولات التي اصابت مواقف القوى المؤيدة لسورية ما ان انسحبت هذه الأخيرة من لبنان جعلت من الحزب وعناصره في انتظار تبدلات مشابهة في مواقف القوى حتى الأكثر قرباً من الحزب. هذه المخاوف لن يبددها اي نوع من الاقتراع واي نتائج للانتخابات في الجنوب، وهي تضاعف حال الاحباط الداخلي في صفوف الحزب، وقد تؤدي الى انخفاض في معدلات الاقتراع الشيعي في الجنوب، علماً ان نسب الأقتراع الشيعي في لبنان شكلت منذ العام 1992 اعلى المعدلات. الماكينة الانتخابية لحركة"امل"في واد آخر على رغم ما يفترضه التحالف بين الحركة والحزب من تقارب في الهموم. فعناصر"امل"ومؤيدوها منشغلون كما كل انتخابات في تعداد الطرق التي كان الرئيس نبيه بري وراء تعبيدها والموظفين الذين ادخلهم الى الوزارات والادارات العامة. ويقول حسن وهو من قرية في قضاء بنت جبيل"نحن ملتزمون بالتحالف مع الحزب ما دام هذا الأخير ملتزم به، وسنراقب نهار الأنتخابات، علماً ان الألتزام باللائحة هذه السنة هو لمصلحة الطرفين. لمصلحة الحزب الذي يريد ان يحصن مقاومته ولمصلحة الحركة التي يتعرض رئيسها لهجوم يستهدف موقع رئاسة المجلس النيابي". قد يكون اعتبار التشطيب المعنوي الذي لا يؤدي الى اختراق اللائحة الأساسية في الجنوب، وانما الى رفع ارقام مرشحين من اللائحة، قد يكون هذا الاعتبار عنصر الجذب الوحيد في قواعد"امل"و"حزب الله". هذا ما عبر عنه مناصرو"امل"الذين لطالما عانوا كما يقولون من هذه المعزوفة التي يؤديها الحزب كل مرة في الساعات الأخيرة من نهار الأنتخابات، بعد ان يكون قد اطمأن الى النتائج. المشهد الانتخابي البارد في الجنوباللبناني جعل من الجنوب استثناءً في المشهد اللبناني العام، كما هو استثناء في الكثير من جوانب الحياة اللبنانية. الجنوب كان اقل تأثراً في تلقيه لمتغيرات ما بعد 14 شباط فبراير. القرى الشيعية التي من المفترض ان تشهد معدلات تصويت تعوض المقاطعة المسيحية والبرودة السنية مصابة بشيء من هذه المقاطعة او من هذه البرودة. الأسعديون مثلاً محبطون بفعل التنافس بين زعيمهم الرئيس كامل الأسعد وبين نجله احمد الذي قرر الترشح على على المقعد نفسه الذي كان من المفترض ان يترشح عليه والده قبل ان ينسحب. اما الشيوعيون وعلى رغم ظهورهم وتحركهم هذه المرة من دون التعرض لاضطهادات القوى السائدة، وعلى رغم الاجماع على استقامة مرشحيهم فهم لم يتمكنوا من ضخ بعض الحرارة الى المشهد الانتخابي الجنوبي. قد تشبع لائحة التحالف بين"امل"و"حزب الله"التطلب المعلن لمتوسط الناخب الجنوبي المتمثل ب"خدمات الإعالة"و ب"المقاومة". السياسة في الجنوب هي هذه الثنائية، فلا احد يراقب ارتباط هذين المؤشرين بتقدم انواع العيش والعلاقات وبتبدل مستويات المعرفة. ان نبني مدرسة ضخمة في بلدة صغيرة، هو امر حصل كثيراً في السنوات الأخيرة في الجنوب، ولكنه لم يترافق مع بحث في الحاجات التربوية الفعلية التي من المفترض ان توازي عملاً من هذا النوع. القوى السائدة ترفض ان تربط بين برامجها السياسية والأمنية وبين انخفاض عدد سكان المناطق المحررة عما كان عليه ايام الاحتلال بسبب انعدام فرص العمل الناجم عن حقيقة ان للمنطقة هذه وظيفة واحدة تتمثل في احتضان المقاومة. السياسة هي امر آخر تماماً في الاعتبارات الجنوبية، وربما كان الاحباط المتسلل الى الأوساط الشيعية علامة ضعيفة على بدء نضوج طموحات مختلفة. الاحباط مضاعف في القرى المسيحية في الجنوب، وعناصره اغنى من ذلك الاحباط الشيعي الغائر والدفين. مدينة جزين عاصمة المسيحيين في الجنوب ترسل هذه الأيام احباطها الى القرى والقصبات البعيدة الجنوبية المسيحية طالبة مجاراتها في مقاطعة الانتخابات. فقانون الانتخابات الذي حرم جزين من امكان ان تختار نوابها ومكن لائحة"امل"وحزب الله"من فرض خياراتها في المدينة، احبط الاندفاعة المسيحية في الجنوب والتي انطلقت في 14 آذار مارس الفائت. فنائب رئيس بلدية جديدة مرجعيون جمال ابو مراد قال انه لا يتوقع ان يشارك في الانتخابات هذه السنة من ابناء البلدة نصف عدد الذين شاركوا في انتخابات العام 2000، علماً ان البلدة تعاني من نزف حاد ومستمر في عدد سكانها، وهم الآن لا يتجاوزون العشرة في المئة من اعدادهم الفعلية. علماً ان مرجعيون الأرثوذوكسية هي اليوم مركز التنافس الذي يكاد يكون وحيداً في دائرة الجنوب الثانية، اذ ان مقعدها هو احد نقاط ضعف لائحة التحالف التي رشحت لهذا المقعد الوزير اسعد حردان، في حين ترشح في مواجهته النقابي الياس ابو رزق. بلدة القليعة المارونية المجاورة ليست احسن حالاً، والمقاطعة المارونية ملحة اكثر هنا. لكن اللافت في القليعة كما في غيرها من القرى المسيحية في الجنوب هو ان حضور المرشحين الشيعة وغيرهم، كما صورهم وماكيناتهم، اكبر منه في القرى الشيعية، والسبب كما يقول احد سكان القليعة هو شعور هؤلاء المرشحين بأنهم في حاجة الى التحرك لكي يكسبوا اصواتاً، خلافاً للقرى الشيعية التي اطمأن مرشحو لائحة التحالف الى التصويت لصالحهم فيها، فيما لا يعلق المرشحون الآخرون آمالاً كبيرة على كسب الناخبين فيها. صيدا عاصمة الجنوب لن تشهد اقبالاً كثيفاً على الانتخاب خصوصاً ان نائبيها بهية الحريري واسامة سعد نجحا بالتزكية، والأمر نفسه بالنسبة لمنطقة العرقوب التي نجح نائبها قاسم هاشم بالتزكية بعدما اعلن عدد من المرشحين في هذه المنطقة مقاطعتهم الترشح احتجاجاً على قانون الأنتخاب. وبهذا يكون عقد التمثيل وانعدام الحماسة السنية لانتخابات الجنوب قد اكتمل. الرهانات الانتخابية مختلفة في الجنوب عنها في بقية المناطق اللبنانية، فالناخب الجنوبي لم يختبر مرة واحدة منذ العام 1992 طعماً مختلفاً للاقتراع. الاخفاقات كانت كبيرة وكذلك الظلم الذي لحق بفئات اخرى، ولكن الجنوب بقي ممسوكاً ومتمثلاً بطاقم سياسي ثابت. اليوم ثمة متغيران وثابت واحد. الثابت هو قانون الانتخابات، اما المتغيران فهما اولاً انقلاب الحياة السياسية اللبنانية على الصيغة التي كانت حاضنة لنفوذ ثنائية امل وحزب الله، وثانياً استحقاق سلاح المقاومة. الانتخابات في الجنوب ستدور على هذه المتغيرات. انخفاض معدل التصويت سيكون مؤشراً، وارتفاعه ايضاً مؤشر، اما النتائج فلا يبدو انها ستحمل جديداً، وهي كما اكد الناشط في"حزب الله"ليست كافية لتثبيت الحال الراهنة.