يواجه وزراء مالية البلدان المغاربية - تحديداً كل من الجزائر والمغرب وتونس - وكذلك حكّام مصارفها المركزية منذ نحو ستة اشهر، تحديات اساسية وضغوطات على المستوى النقدي لا بد من أن تدفع بهم، عاجلاً ام آجلاً، مهما حاولوا استخدام عامل الوقت كأداة مرحلية لإبعاد شبح خفض سعر الصرف بالنسبة الى البعض وتحريره بالنسبة الى البعض الآخر، لاتخاذ قرارات حاسمة بهذا الاتجاه. في ما يختص بالشق الأول، الذي ينطبق اليوم على كل من المغرب والجزائر، يرى عدد من المحللين الماليين بأن خفض سعر صرف الدرهم المغربي والدينار الجزائري يمكن ان يشكل رافعة مهمة بالنسبة لاقتصادات البلدين الجارين، بغض النظر عن الاختلاف في تركيبة وبنيات كل منهما. ويرد هؤلاء المحللون على المعترضين على قيام هذه الخطوة بالتذكير بأن اسبانيا خفّضت بصورة منتظمة عملتها البيزيتا في حينه، على مدى عشرين عاماً. وتحولت بالتالي الى ثامن قوة اقتصادية في العالم. كذلك، ارتكز هؤلاء ايضاً على مثال الصين، التي تكسب بلايين الدولارات من الولاياتالمتحدة وسائر دول العالم، في الوقت الذي تترك فيه سعر صرف عملتها منخفضاً مقارنة بالقيمة الفعلية التي يجب ان تكون عليها. لذا، فعلى السلطات النقدية في كل من المغرب والجزائر، مع ومن دون عولمة، ان تعمدا الى الخفض التدريجي للعملة على مدى السنوات العشر المقبلة، لو ارادتا اخراج اقتصاداتها من عنق الزجاجة. ولا يكتفي هؤلاء المحللون بالدعوة العامة لهذا الخفض، لكنهم يقدمون، في المقابل، الأسباب الموجبة لذلك. وتأتي في طليعة المبررات، الإفادة من الحسنات التي تقدمها العولمة لناحية دفع الصناعات الغربية، الأوروبية منها بوجه خاص، على نقل جزء كبير من مراكز انتاجها الى دول شمال افريقيا، ما سيفيد حتماً بلداً كالمغرب الذي يحظى بموقع جغرافي ملائم واستقرار سياسي مقبول، كذلك يد عاملة متخصصة ذات مستوى تكنولوجي متقدم نسبياً. لذا، فبوجود سعر صرف منخفض للدرهم، يمكن جذب المستثمرين الأجانب ونقل بعض مصانعهم، وبالتالي اللجوء للسوق المالية المحلية للاستدانة بالدرهم. ويسحب هذا الواقع نفسه على الصادرات الوطنية التي ستتنفس جراء اعتماد هذا القرار النقدي، ما سيساعدها من جهة، على الوقوف بوجه المنافسة المفروضة عليها، ومن جهة اخرى، لجم الاستيراد كون الدرهم المنخفض سيؤدي بالصناعات لإنتاج المزيد من المواد الأولية والمنتجات بشكلها النهائي. يبقى الأهم من وراء خفض سعر صرف الدرهم المغربي والدينار الجزائري، هو وقف النزف الناجم عن تهريب العملات الأجنبية. هذا الموضوع الذي قلما يتحدث عنه المسؤولون في كلا البلدين. علماً بأن هذه المسألة تتعلق بعملية النمو الاقتصادي. ولا يخفى على المطلعين على هذا الجانب بأن السوق السوداء ناشطة عندهما، حيث ترسل الأموال الناتجة منها الى حسابات في المصارف السويسرية والإسبانية. ولا يمكن مواجهة هذه الآفة، والحال هذه، سوى بخفض مدروس لسعر الصرف. لأنه عند ذلك يجد الذين يهربون الدرهم او الدينار للخارج، بأن المردود سيقل كثيراً عما كان الوضع عليه عندما كانت هاتان العملتان قويتين. في هذا السياق يؤكد احد الوسطاء الماليين الأوروبيين في جنيف وزوريخ بأن الرساميل المهربة من كل من المغرب والجزائر والمودعة في المصارف السويسرية تساوي كل منها قيمة الدين الخارجي المترتب على البلد. في المقابل، تختلف الرؤى لدى حكام المصارف المركزية المغاربية عن تلك التي يستند إليها بعض المحللين لناحية سعر صرف العملات الوطنية. في هذا السياق، وعلى سبيل المثال، طلب عبداللطيف الجواهري، والي بنك المغربي حاكم المصرف المركزي من رئيس الوزراء، ادريس جطو، تعليل الأسباب العملية كافة وليس النظرية التي ترجح اتخاذ قرار الخفض. كذلك، احتساب تداعياته الممكنة في حين يتسابق المستوردون والمضاربون في السوق المالية المغربية لاستباق الحدث بجمع العملات الأجنبية ومراكمتها. فالاتجاه كما هو واضح بالنسبة للمتتبعين لتجاذبات السوق، يظهر ان خوض سعر الصرف مستبعد على الأقل في المرحلة الحالية، على رغم التضخيم الذي تعتمده بعض الصحف المحلية المحسوبة على قوى اقتصادية، صناعية ومالية. لكن تعديل القيمة بشكل مدروس ودقيق يبقى ممكناً. الحالة نفسها تقريباً تنطبق على سوق النقد الجزائرية، حيث تعتبر الأكثرية المعنية بصناعة القرار المالي في البلاد، بأن العجوزات الظاهرة في الموازين، خصوصاً التجارية منها، لا يعود بالدرجة الأولى لقوة الدينار. ففي الوقت الذي تستمر ضغوطات سعر الصرف، تتابع المصارف المركزية لعب دورها في ضبط الأمور من خلال مراقبة نوع السيولة وكيفية تدفقها للمصارف المحلية. كذلك، عبر امتصاص الفوائض الموجودة. فهذا التوجه الفاعل يجبر هذه الأخيرة على"فوترة"كلفة تغطيتها للزبائن وفق معدلات فائدة مرتفعة. كما تجبرها ايضاً على رفض التغطيات في غياب مؤونة كافية لتمويلها بالدرهم او بالدينار. وفي نهاية المطاف، تجد هذه المصارف نفسها مضطرة للتخلي عن مواقعها على مستوى الصرف القائم على المضاربة الذي راكمته بهدف الإفادة من الخفض. لكن، على رغم احتواء الهجمة والتخفيف من هذه الضغوطات خلال الأسبوع المنصرم والحالي، إلا انه من المتوقع ان تعود هذه الأخيرة للتزايد خصوصاً مع حلول فصل الصيف وتزايد الطلب على العملات الأجنبية بقصد السفر. اما في ما يتعلق بتحرير سعر الصرف، يمكن القول بأن الدينار التونسي هو الذي يتعرض اليوم اكثر من غيره من عملات دول المغرب العربي للضغوطات من كل جانب. وتجدر الإشارة في هذا الإطار الى ان ندوات عدة بهذا الشأن قد نُظمت من جانب المصرف المركزي التونسي وبعض مراكز الدراسات، شارك فيها باحثون ومصرفيون من دول اوروبية. فقد نصح جميعهم السلطات النقدية التونسية بضرورة النظر جدياً في هذه المسألة وانعكاساتها الإيجابية على الاقتصاد الوطني. لكن، حتى الساعة، لا ترى الحكومة ضرورة ملحة في تحرير الدينار، وتفيد بعض المصادر المقربة من دوائر صنع القرار بأن الدولة تتخوف من ان تؤدي هذه الخطوة، إذا ما جاءت متسرعة، الى احداث اختلالات في السوق المالية. وإلى هجمة على شراء العملات الأجنبية من التجار والصناعيين. لذا، تفضل السلطات النقدية التروي بإعطاء الضوء الأخضر في هذا العام على الأقل. خبير اقتصادي.