سجلت العملة الأوروبية الموحدة اليورو منذ بداية السنة الجارية، تقدماً بنسبة 14 في المئة مقابل الدولار الأميركي. وفي أيلول سبتمبر الماضي وحده زاد الفائض التجاري لمنطقة اليورو نحو 5.8 بليون يورو، ما بدأ يُقلق بشكل جدي الشركات الأوروبية التي تحاول جاهدة التخفيف من اندفاعة اليورو القوي. وإذا كان سعر اليورو يهدد عودة الانتعاش الاقتصادي في أوروبا، فما هي إذن انعكاسات استمراره في مستوياته الحالية المرتفعة على اقتصادات الدول المغاربية، الموقعة على اتفاقات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، المصدر والمورد الأول لها؟ يُجمع المحللون الاقتصاديون في دول المغرب العربي على أن السلطات النقدية المحلية نجحت حتى الآن، ولو بشكل منقوص نسبياً، في تأمين استقرار أسعار صرف عملاتها تجاه اليورو الذي يفوق وزنه في سلتها من النقد الأجنبي أكثر من 75 في المئة. ويؤكد عدد من ممثلي شركات الوساطة المالية العاملة في بورصات الدول المغاربية بعضها أوروبي أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر الى ما لا نهاية، خصوصاً في حال زادت الضغوطات على الدولار، وتجاوز اليورو عتبة ال 1.25 دولار. وتختلف طبيعة تأثيرات ارتفاع العملة الأوروبية الموحدة بين بلد مغاربي وآخر بشكل ملفت من دون ان يتمكن المحللون من اعطاء تفسيرات مقنعة لهذا الواقع. ما عدا ليبيا، التي لم توقع حتى الآن اتفاق الشراكة اليورو متوسطية، ولا تزال تحرر غالبية عقودها التجارية بالدولار. وتحسباً للمفاجآت غير السارة، شكل كل من المغرب وتونس لجاناً مختصة بهدف المتابعة اليومية لتطور سعر صرف اليورو وعملات أخرى، لإعداد سياسات نقدية ذات طابع وقائي من مهامها تحديد الآليات الملائمة لاحتواء ما يطلق عليه الخبراء الماليون "لعبة اليويو"، في تفسير للارتفاع والانخفاض الحادين والمفاجئين في أسعار صرف كل من العملتين الرئيسيتين في المدى القصير. وتفيد المعلومات، بأن السلطات النقدية أعطت توجيهاتها للتشدد بمراقبة التحويلات بالعملات الاجنبية، كذلك التدقيق الاضافي بالمبالغ المسموح باخراجها من قبل الأفراد، خصوصاً بعد اكتشاف تهريب كميات كبيرة في الشهرين الماضيين قامت بها شبكات مسيطرة على السوق السوداء. ويرى المسؤولون الماليون في هذه الدول المغاربية التي باتت اقتصاداتها مرتبطة أكثر من أي وقت مضى بمنطقة اليورو، ان مواجهة أية انعكاسات سلبية نتيجة التذبذب الحاد في أسعار صرف هذه العملة لا يمكن أن تتم إلا من خلال تكوين احتياطات منها بشكل كاف ما يعزز قدرة الاستيراد مع ضمان عدم هبوب الأسعار من ناحية. ومن ناحية أخرى، تأمين تدخل المصارف المركزية لحماية العملات الوطنية من الضغوطات الخارجية عليها، والحد من الأضرار التي يمكن أن تصل الى حد الإقرار بخفض قيمتها، وهو ما تحاول جميع السلطات النقدية في الدول المغاربية تجنبه بأي ثمن. مقاومة مغربية مرحلية يمكن القول ان الدرهم المغربي لم يتأثر كثيراً بالارهاصات المتعددة التي شهدها اليورو على مدار السنة الجارية. وانتقل سعر صرفه في الشهور العشرة الماضية من 63.10 لليورو الواحد الى 87.10. وفي بداية عام 2002 كان هذا السعر يوازي 22.10، وتعود أسباب "مقاومة" الدرهم للعملة الأوروبية الموحدة في جانب كبير الى وتيرة النمو الايجابي للاقتصاد المغربي نتيجة جودة الموسم الزراعي وزيادة الاستهلاك الداخلي، خصوصاً في المناطق الريفية. وترى "ادارة السياسة الاقتصادية العامة" انه من المتوقع في المستقبل القريب، ان يكون لتعزيز الخط التصاعدي لقيمة اليورو انعكاس مباشر على التدفقات الاستيرادية المنتظر أن تتباطأ بمعدل 7.1 نقطة في 2003 و2.2 نقطة في 2004. وعلى العكس من ذلك، تشير التوقعات الى أن تدفق الصادرات سيشهد بدوره تحسناً متدرجاً من 4.0 نقطة في 2003، لكنه سيخفض بشكل طفيف الى 1.0 نقطة في 2004. ويتعلق هذا التراجع بالمواد الغذائية، والمعادن والذهب، اضافة الى الملبوسات الجاهزة والنسيج المصنع من القطن. ويؤكد خبراء هذه الدائرة بأن القدرة التنافسية للشركات المغربية يمكن أن تضعف بسبب زيادة تكاليف الانتاج، نظراً لكون 60 في المئة من واردات المركبات الصناعية تأتي من دول الاتحاد الأوروبي. توقعاً لكون كل الأشياء متساوية من حيث الظاهر، سيساهم انخفاض سعر صرف الدولار مقابل الدرهم بدوره في خفض عجز الفاتورة النفطية، المحررة عقودها بالعملة الأميركية. ومنذ بداية السنة، تحسن سعر صرف الدرهم، مسجلاً ارتفاعاً بنسبة 86.7 في المئة في موازاة الدولار، وانتقل من 13.10 الى 37.9، بينما كان سعر تداوله في السوق المغربية يراوح في حدود 37.11 درهم عام 2002. من ناحيتها، شهدت تحويلات المغاربة القاطنين في الخارج، التي تشكل المصدر الثاني لعائدات البلاد، التي تُحدث التوازن الجزئي المطلوب لانعكاسات ارتفاع سعر صرف اليورو، تحسناً ملموساً. وزادت هذه التحويلات في نهاية تموز يوليو وحده نحواً من 433 مليون درهم. أما في ما يختص بالحسابات العامة المرتبطة بمؤشرات الاقتصاد الكلي، فإن الارتفاع الحاد للعملة الأوروبية الموحدة لا بد أن يؤثر بطبيعته في زيادة كلفة ادارة الدين الخارجي، خصوصاً العقود المحررة باليورو. لذا، يتوجب على الحكومة المغربية عندئذ تعزيز وتنشيط دورها في هذا المجال. بناء عليه، فإن استمرار بقاء هذه العملة على قوتها بشكل دائم نتيجة العوامل الانكماشية التي تمنع حتى الآن عودة الانتعاش الاقتصادي لسابق عهده داخل دول الاتحاد الأوروبي، بات يفرض على المغرب تسريع البرامج الخاصة بترويج منتجاته، وبالتالي صادراته. لذلك، أصبح من الضروري وضع استراتيجيات جديدة تتمحور حول تنويع الأسواق المستوردة للصادرات المغربية، التي لا يمكن أن تتم سوى عبر الانفتاح على المبادلات الدولية. في هذا السياق، تجدر الاشارة الى أن المغاربة يعلقون أهمية قصوى على توقيع الاتفاق الخاص بتأسيس منطقة للتبادل التجاري الحر مع الولاياتالمتحدة الاميركية قبل نهاية السنة، ما سيسمح لهذه الصادرات بالتقليل من حدة تبعيتها لمنطقة اليورو وزيادة حجمها، اضافة لما يوفره الاتفاق من اختراقات لأسواق كبرى أخرى شريكة، سواء في القارة الأميركية وبعض أجزاء من آسيا. كما يتوجب، حسب رأي الخبراء الاقتصاديين، ان تعمل المملكة المغربية على تحفيز الاستثمار الخارجي المباشر عبر وضع الفرص الانتاجية المحلية في الواجهة. ويتلخص الهدف هنا بجذب الفوائد على المدى القصير من الحركة المحتملة لنقل الوحدات الصناعية الأوروبية جراء الارتفاع المستمر لليورو. وعلى الحكومة والصناعيين ورجال الأعمال المغاربة السعي في هذه المرحلة لتعزيز هذه الجاذبية، ومتابعة سياسة الاستقرار والتوازن في مؤشرات الاقتصاد الكلي، والأهم، اعادة هيكلة النظام المالي والذهاب بعملية تحريره حتى النهاية. لكن ذلك لا يمكن أن يتم بمعزل عن سياسة صناعية حقيقية ومتكاملة، تأخذ في الاعتبار رفع العراقيل التي لا تزال تلقي بثقلها على عناصر الانتاج ووسائل التمويل. ... ومقاربة جزائرية محيرة خلافاً لكل التوقعات، لم يكن ارتفاع سعر صرف اليورو شيئاً ايجابياً بالنسبة للدينار الجزائري فحسب، بل ان تدهور الدولار كان كذلك. مفارقة غريبة عجيبة عجز المحللون الماليون عن اعطاء التشخيص الفعلي والعلمي لهذه الظاهرة الجزائرية الفريدة، الشاذة عن كل القواعد النقدية والمالية. وتشير جميع البيانات الصادرة عن مصرف الجزائر المركزي منذ أكثر من اسبوعين الى أن اليورو يساوي 86 ديناراً، وكل دولار يقابلة 74 ديناراً. علماً بأن سعر صرف العملة الأوروبية عشية هذه القفزة كان 92 ديناراً. فالرقصة بين العملتين الرئيسيتين اللتين تتحكمان بمسار الاقتصاد من جهة، نتيجة حجم المبادلات التجارية مع منطقة اليورو، ومن جهة أخرى، بسبب كون قسم كبير من صادرات الهيدروكربورات يذهب للولايات المتحدة، أفضت في هذه الفترة البسيطة الى تعزيز سعر صرف الدينار بنسبة 7 في المئة. هل يتعلق الأمر بمجرد نتيجة طبيعية ناجمة عن آليات الصرف التي اتجهت لايجاد توازن جديد للعملة الجزائرية؟ أم ان الأمر يعود لعملية سياسية تفتح الباب أمام مناورة تستهدف إرساء نفوذ يتعدى الوضع النقدي في البلاد، ام هو عملية مسيطر عليها بالكامل من أصحاب القرار بهدف تصحيح صورة الدينار وتغليفه بقيمة لا تقر بها السوق المالية في نهاية الأمر؟ هذه التساؤلات دفعت بعدد كبير من محللي المصارف الأوروبية الخاصة، المتعاملة مع الجزائر، للبحث في القيمة الفعلية للدينار، كذلك، هامش تذبذبها المسموح به من قبل السلطات النقدية المحلية. في عودة الى وراء، ينبغي التذكير انه منذ انطلاقة اليورو في كانون الثاني يناير من عام 2001، خسر الدينار الجزائري 25 في المئة من قيمته في أقل من سنتين. ولم يتدخل أحد، لا المصرف المركزي ولا أية جهة مسؤولة أخرى، بما فيها الشركات المتعاملة بكثافة مع منطقة اليورو لانتقاد ما يعتبرونه خفضاً مموهاً لقيمة الدينار. أما اليوم، فقد بدأ الاتجاه يأخذ مساراً عكسياً، كذلك الحال بالنسبة للنقاشات الدائرة على كل المستويات التي تظهر في غالبيتها تخوفاً من استمرار قوة العملة الأوروبية والمفاجآت التي يمكن أن تطرأ وتنعكس سلباً على مجمل مكونات الاقتصاد الجزائري. على أية حال، فإن الذين قلقوا بالأمس من الخفض المموه للدينار، يخافون اليوم من التأثير المعاكس. بمعنى آخر، الارتفاع المصطنع له والمروج له اعلامياً من وسائل الإعلام المقربة من السلطة. إلا إذا كان ما يحدث مجرد حالة ظرفية بالمفهوم الاقتصادي. وفي جميع الأحوال، وضعت هذه المعطيات الجديدة والمحيرة، حداً، ولو موقتاً، للانهيار الذي كان طال أمده في سعر صرف الدينار وانعكس بحدة على القوة الشرائية، نظراً لكون الاقتصاد الجزائري مرتبطاً بشكل وثيق بفاتورة الاستيراد المرهقة، خصوصاً من أوروبا. فالدينار القوي يعزز وضع الاقتصاد المحلي في مواجهة حجم هائل من الاستيراد، اضافة لكون هذا الوضع يسحب نفسه ايجاباً على خفض الكلفة والأعباء والرسوم الجمركية والضرائب الأخرى. فانخفاض سعر صرف اليورو مقابل الدينار، هذه الحال المعكوسة بالمقارنة مع دول المغرب الأخرى الموقعة على اتفاق الشراكة اليورو متوسطية مثل المغرب وتونس، لا بد وأن تنعكس ايجاباً ايضاً على الأسعار، لأن المنتجين والتجار لهم مصلحة بالتنافس وزيادة مبيعاتهم. وفي الوقت الذي تعلق فيه أوساط الأعمال الجزائرية الأمل على زيادة الاستهلاك، تخشى الأوساط المالية من غياب آليات احتواء مخاطر سعر الصرف المتمثلة بالقدرة على شراء النقد الأجنبي في أي زمان ومكان، ما يجنب المتعاملين في السوق من تجار ووسطاء بمواجهة عودة "لعبة اليويو" في أية لحظة. ولا يُخفي بعض المحللين خشيتهم من أن يكون الدينار القوي حالياً، ما هو مخالف لجميع القواعد والأسس المالية والاقتصادية، عبارة عن مناورة مشغولة جيداً من قبل السلطة والممسكين بخيوط النظام النقدي لأسباب انتخابية بحتة في هذه المرحلة، لن تلبث حقائقها أن تنكشف في الشهور القليلة المقبلة. * اقتصادي لبناني.