اذا كان"اليوروستات"مكتب الاحصاء الأوروبي أكد أن تباطؤ النمو في دول الاتحاد لم يعد حالة ظرفية نتيجة الوتيرة المتصاعدة لسعر صرف العملة الموحدة تجاه الدولار الاميركي، يجزم جميع المؤشرات والمعطيات المتعلقة بالاقتصادات المغاربية، المرتبطة بنسبة كبيرة باليورو، ان من شأن انعكاسات هذه القفزات المتتالية والمنتظمة اضعاف اداءاتها وتدهور القوة الشرائية، كذلك، اعادة النظر بعدد من الخطط والمشاريع المعتمدة نتيجة تسجيله رقماً قياسياً عشية عطلة نهاية الاسبوع الماضي لامس حاجز ال1.338 دولار، فرض اليورو حالة قلق عامة لدى مسؤولي المصارف المركزية الأوروبية، ما لبثت ان انتقلت وبسرعة الى دوائر القرار الاقتصادي في الدول المغاربية الثلاث الأكثر ارتباطاً بمنطقة العملة الموحدة، أي المغرب والجزائروتونس. وبدت حالة الإرباك واضحة في جميع القطاعات، المصدرة والمستوردة على السواء، في حين تهرب معظم المسؤولين من الاجابة على التساؤلات المطروحة في شأن التوقعات في حال ثبات صعود اليورو في الأسابيع المقبلة وعبوره حاجز 1.50 دولار أو امكان اضطرار المصارف المركزية للتدخل وتغطية الفوارق والمخاطر، حتى لو تطلب الأمر اتخاذ قرارات تقضي بخفض قيمة عملاتها الوطنية؟ أو الرد فيما اذا كانت السلطات النقدية وضعت آليات محددة للتعامل مع تأثيرات هذا الارتفاع الذي لا يبدو بأنه سيتوقف قريباً طالما ان الادارة الاميركية تُصر يومياً على الإشارة الى دعمها"سياسة الدولار القوي"في الوقت الذي توافق فيه ضمناً على انهياره. وتفيد التقارير التي اعدها خبراء المصارف المغاربية، بالتعاون مع الوزارات المختصة، أن نسبة الفوارق بين الواردات والصادرات لمصلحة الأولى، ستؤثر سلباً في معدلات النمو لسنة 2005، كونه من غير الممكن العودة لاعتماد سياسة حمائية، خصوصاً بعد توقيع اتفاقات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ودخول منظمة التجارة الدولية والاستمرار بتحرير ما تبقى من مكونات اقتصاداتها، ناهيك عن الاستعدادات الجارية لرفع الحواجز الجمركية بدءاً من سنة 2006. مخاطر اسعار الصرف وتسعى حكومات كل من المغرب والجزائروتونس الى توقيع سلسلة من الاتفاقات مع البنك الدولي بهدف ضمان مخاطر اسعار الصرف وانعكاساتها على تجارتها الخارجية، ولجم تأثيراتها على الدين الخارجي وخدمته. ومن ناحية اخرى، وعلى رغم كون المبادلات التجارية بين الدول المغاربية وشريكاتها الأوروبيات تُقدر بمعدل وسطي يراوح بين 70 و75 في المئة، إلا ان نتائج ارتفاع سعر صرف اليورو بهذه الحدة تختلف عملياً بين بلد مغاربي وآخر بسبب طبيعة بنيته ونوعية صادراته، حتى ولو كانت غالبية الواردات متشابهة. المغرب: أوجه مختلفة للتأثيرات وإذا كان بعض الاقتصاديين المغاربة يرى في صعود صرف اليورو وتراجع الدرهم مقابله ايجابيات خصوصاً لناحية المداخيل من السياحة، أو لناحية العائدات من تحويلات المغاربة القاطنين والعاملين في الخارج، إلا ان السلبيات في جوانب اخرى تبقى أكبر، ذلك اذا اخذنا في الاعتبار الاختلالات التي بدأت تبرز على مستوى عدد من القطاعات المنتجة. وتجدر الإشارة بالدرجة الأولى لوضعية الميزان التجاري المتسم بالعجز بنيوياً، الذي جاء ارتفاع سعر صرف اليورو ليزيد من مصاعبه بسبب تضخم قيمة الواردات التي سجلت خلال الشهور العشرة الأولى من السنة الحالية قفزة بحدود ال14 في المئة، في حين لم تتجاوز الصادرات اكثر من 2.9 في المئة، ما أدى الى تفعيل العجز في هذا الميزان بمعدل 32.2 في المئة، يُضاف اليه خفض في نسبة التغطية بنحو 6 في المئة، من 62.3 في المئة عام 2003 الى 56.3 في المئة سنة 2004. على أي حال، تبقى أوجه تأثيرات قوة اليورو مختلفة من قطاع الى آخر في المغرب، واذا بدأنا بالايجابيات، التي تكمن من دون شك في التدفقات المالية، ما عدا الاستثمارات الخارجية المباشرة التي شهدت السنة الجارية تراجعاً ملحوظاً ناهز ال70 في المئة ما دفع بالملك محمد السادس الى القيام بجولات آخرها في دول اميركا اللاتينية حيث رافقه 12 من كبار الصناعيين ورجال الأعمال من الجيل الجديد، بهدف تحريك هذه العجلة. ومن بين التدفقات المعنية، المداخيل من القطاع السياحي التي سجلت، حسب احصاءات مكتب الصرف، زيادة بنسبة 9.7 في المئة 26.7 بليون درهم حتى نهاية ايلول/ سبتمبر 2004، مقابل 24.4 بليون درهم للفترة نفسها من العام الماضي، في حين انخفضت النفقات بخروج العملات الاجنبية بنسبة 5 في المئة في التشخيص عينه، وحققت العائدات من المغاربة المهاجرين تقدماً بنحو 7.2 في المئة كي تصل الى 26.6 في المئة التي من المقدر ان تقفز الى 8.6 في المئة نتيجة التحويلات في عيدي الفطر ورأس السنة لتناهز 31 بليون درهم اليورو يساوي 1.15 درهم تقريباً. أما فيما يتعلق بالقطاعات المنتجة، فإن الوضع يبدو مختلفاً، اذ يظهر القيمون عليها عدم رضاهم عن ثبات ارتفاع سعر صرف اليورو، فخلافاً لما يُفترض اعتباره أمراً ايجابياً نتيجة زيادة قيمة صادراتهم، على الأقل تجاه أوروبا، فإنهم يرون، في المقابل، ان انهيار الدولار منذ ما قبل بداية السنة الجارية، عمل على تعزيز قدرات منافسيهم الآسيويين الذين ينظمون فواتيرهم بالعملة الاميركية. وينطبق الأمر تحديداً على قطاع النسيج. ما أجبر الصناعيين المغاربة على تقاسم هوامش ارباحهم مع زبائنهم الأوروبيين عبر كسر الأسعار. من جانبهم، يبدو مصدرو الحمضيات والفواكه أقل تشاؤماً من زملائهم النسيجيين، لكنهم يحافظون على واقعيتهم لناحية الأرباح التي يمكن جنيها من هذه الظرفية التي يمكن ان تتبدل بين يوم وآخر. واذا كانت الصادرات الى كل من كندا وروسيا على وجه التحديد، التي تشكل 35 في المئة من المجموع محررة بالدولار، الا ان الوضع يبقى بمجمله ايجابياً. فقد كان من الممكن، حسب رئيس جمعية مصدري الحمضيات والفاكهة، ان يكون أفضل، لكن المغرب يستورد المواد الكيماوية الصحية المستخدمة في الانتاج، كذلك المعدات باليورو. أما الخسارة الأخرى التي ليست لها علاقة بالتنافسية هذه المرة، فتتمثل في ان"المكتب الشريفي للفوسفات"ذهب ضحية تجاذبات اليورو - الدولار، وتشكل صادراته واحدة من أبرز مداخيل الاقتصاد المغربي، فانخفاض سعر صرف العملة الأميركية، الوحيدة التي تحرر فيها الفواتير، دفع بحجم المبيعات الى التآكل التدرجي، حتى ولو سجل خلال السنة زيادة في حجم الصادرات. وفي هذه الدوامة، يظهر بأن الاقتصاد المغربي غير محصن بما فيه الكفاية في وجه هذا النوع من الهزات النقدية. ومن خلال المعلومات التي تم جمعها في قاعات التعاملات مع السوق المالية لدى عدد من المصارف المغربية الخاصة، تبين أن هناك 20 شركة فقط تحقق من مبادلات تجارية دولية تملك سياسة لتغطية المخاطر، بما فيها النقدية. وبالتالي، فإنها تبقى الوحيدة القادرة على التأقلم مع المستجدات مثل أزمة اليورو - الدولار، والتخفيف من حجم انعكاساتها السلبية. إلا انه تبقى هناك عوامل غير مساعدة تعيق تحقيق صمامات أمان للحالات الاستثنائية، احداها ضعف القوانين المتعلقة بسعر الصرف، وثانيها، على سبيل المثال لا الحصر، تصرف المصارف المتجاهل لمسألة المساهمة في تشجيع الشركات على اعتماد سياسات تغطية نقدية. وفي الواقع، لم تبدأ عمليات التحسس في هذا المجال الا عام 1996. ومن التأثيرات الأولية الاخرى لصراع اليورو - الدولار، عودة الحديث عن خفض جديد لسعر صرف العملة الاميركية، الذي بدأ يتجاوز الهمسات في كواليس وزارة المال ومصرف المغرب المركزي. وبدأ السؤال يطرح بنوع من الجدية في أوساط، البعض منها مقرب من مراكز القرار: هل يتوجب اعتماد هذه المبادرة لدعم الاقتصاد المغربي مع اغفال الانعكاسات السلبية التي يمكن ان تنتج عن قرار كهذا؟ خصوصاً ان خفض سعر العملة في بلد كالمغرب من شأنه ان يزيد كلفة خدمة الدين وتضخيم العجز في الموازنة. وعلى رغم هذه المخاطر تتباين الآراء في هذه الفترة مما يزيد في ارباك السلطة المختصة. ومن العناصر الاضافية التي تعزز حالة البلبلة الحاصلة، القلق من استمرار انهيار الدولار في الوقت الذي تعمل فيه اللجان المختصة في وزارات الخارجية والمال والتجارة، على وضع اللمسات الأخيرة للآليات التي ستعتمد بعد التصديق على اتفاق التجارة الحرة الموقع أخيراً مع الولاياتالمتحدة. فيورو قوي مقابل دولار ضعيف لا بد وان يغير الكثير من الحسابات والتقديرات. الجزائر: السلبيات سمة أساسية إذا كانت الانعكاسات متفاوتة بالنسبة الى الاقتصاد المغربي، إلا أنها تصب في قناة واحدة بالنسبة الى الجار الجزائري. فهذا البلد الذي تعتمد نسبة 95 في المئة من صادراته على الهيدروكربورات، المقدرة في غالبيتها بالدولار الاميركي، والذي يستورد أكثر من 70 في المئة من حاجاته الاستهلاكية والتجهيزية باليورو، لا يمكن إلا أن يتأثر سلباً من ارتفاع سعر صرف هذه العملة مقابل منافستها الاميركية. وما يزيد الأمور صعوبة، هو التراجع الأخير لسعر برميل النفط بنحو 10 في المئة من قيمته. ما سيخلص حتماً، في حال استمراره أو حتى ثباته في حدود ال39 دولاراً، من هوامش الفوائض في مختلف موازين الاقتصاد الجزائري. وبالتالي يجبر الحكومة على اعادة النظر في عدد من المشاريع التي سبق وأعلنت عنها بدءاً من سنة 2005، كذلك العقود التي تفاوض حالياً على توقيعها مع عدد من الشركات الأوروبية العملاقة. من ناحية أخرى، يرى الخبراء أن عناصر التحول الثلاثة المفروضة: ارتفاع اليورو، هبوط الدولار وسعر برميل النفط، ستشكل من دون أدنى شك عناصر ضغوط قوية على الحكومة الحالية التي تراهن على زيادة العائدات من الهيدروكربورات، وعلى مراكمة الاحتياطات من العملات الاجنبية، كذلك على اطلاق برنامج تخصيص أكثر من ألف مؤسسة عامة. ولم يعد بإمكان الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة التباهي في كل مناسبة بحسن أداء الاقتصاد الجزائري وخفض الدين وفوائده ولا بزيادة الاحتياطات. كما لم يعد باستطاعته التمسك بالوعود الاجتماعية لناحية السكن والطبابة والتعليم وتأسيس فرص العمل الجديدة التي التزم بها خلال حملته الانتخابية، ولا حتى بالسير قدماً بخطته للنهوض باقتصاد البلاد التي أعلنها عام 2001 التي لم تحقق الكثير. في هذا الاطار، لا يخفي وزير المال الجزائري، عبداللطيف بن اشنهو، قلقه من التجاذبات بين الدولار واليورو التي، حسب رأيه، ستكون نتائجها قاسية جداً على أداء الاقتصاد الجزائري. فالجزائر التي تستورد غالبية حاجاتها الأساسية من الأسواق الأوروبية، تخشى من تدهور القوة الشرائية، ذلك في الوقت الذي لم تتمكن فيه الخطوات التي اعتمدتها الحكومة منذ شهور من تحسين الأوضاع المعيشية من قطع أشواط، ولو قليلة، في هذا الاتجاه. فالمستهلك الجزائري، المرهق بفعل تواضع مدخوله، لن يكون بمنأى عن ارتفاع الاسعار، في حين تستعد الدولة لرفع الدعم عن عدد من المواد الأساسية. فعودة التأزم الاجتماعي من باب تدهور القوة الشرائية، الذي سيتلاقى مع ثبات معدلات البطالة عند مستوياتها المرتفعة منذ سنوات، يمكن ان يؤسس لنشوء ظواهر مزعجة للحكم. فالحديث السائد في شأن نية الدولة زيادة الرسوم الجمركية ونسبة الضرائب مثل الضريبة على القيمة المضافة، ستؤدي الى ارتفاع الأسعار على الاقل 15 في المئة. لذا، فليس هناك اي حل لهذا الوضع المعقد الا عبر قرارات سياسية اجتماعية تتخذها الدولة لاحتواء انعكاسات ارتفاع سعر صرف اليورو. في السياق عينه، يوجه بعض الصناعيين تحذيرات الى السلطات كي تتخذ المبادرات الملائمة قبل فوات الأوان. ويرى هؤلاء أنه اذا استمر الوضع على حاله، فإن الحل الوحيد يمكن عندئذ بالحد من الشراء، أي الاستيراد والتخزين، مع تحمل مخاطر هذا النوع من السياسات التي أدت في الماضي الى اختفاء عدد من المواد الاساسية من السوق. ما يعني عودة المضاربين وبارونات"الترابندو"السوق السوداء للتحكم بجوانب من الاقتصاد الجزائري. ومن نقاط الضعف الأخرى، غياب سوق مالية نشطة وقطاع مصرفي فاعل يساعدان في التخفيف من الوطأة على الدولة، اضافة الى زيادة تغطية الشركات للمخاطر النقدية المشابهة لأزمة اليورو/ الدولار. وإذا كانت الصعوبات تبدو أقل بالنسبة الى تونس نظراً الى عدد سكانها الذي لا يتجاوز ال10 ملايين نسمة، بالمقارنة مع كل من الجزائر والمغرب، والفارق الواسع على مستوى البطالة والتقديمات الاجتماعية والصحية والتربوية، الا ان الانعكاسات في حال استمرار اليورو بصعوده الثابت، ستنعكس حتماً على معدل النمو الذي عاد هذا العام لمستوياته السابقة، أي نحو 5 في المئة. ولا يمكن إلا الأخذ في الاعتبار بأن هذا الوضع سينعكس بشدة على القوة الشرائية خصوصاً ان اكثر من 69 في المئة من المجتمع التونسي مؤلف من الطبقات الوسطى التي تستهلك المنتجات الأوروبية وتحاول التقرب من نمط العيش الغربي. اما في ما يختص بليبيا، فإن عدد السكان الضئيل نسبياً، الذي لا يتجاوز ال5.5 مليون نسمة، من ضمنهم الاجانب العاملون على أرضها، مع دخل من النفط والبتروكيماويات يزيد السنة الجارية على 22 بليون دولار، من شأنه ان يخفف من وطأة ارتفاع اليورو. علماً أن طرابلس الغرب نوعت، منذ تطبيق العقوبات الاقتصادية عليها، مصادر وارداتها، بحيث لم تعد منذ زمن مرتبطة بأوروبا، وبالتالي بعملتها. مع ذلك، تفيد المعلومات أن المشرفين على قطاع الاستثمار الخارجي عمدوا منذ منتصف سنة 2003 الى شراء كميات كبيرة من اليورو والفرنك السويسري والجنيه الاسترليني بحيث باتت تشكل اليوم نصف الاحتياطات من العملات الاجنبية. كما تخلصت من كميات من الدولارات عندما وصل سعر صرفه الى أقل بقليل من اليورو الواحد. * اقتصادي لبناني.