ما سر هذا الانفجار في الشارع المصري؟ الكل يتساءل والكل متعجب. الإجابة الجاهزة تأتي على هذا النحو:"فاض الكيل بالمصريين وتعذبوا بما فيه الكفاية، ووصلت أرواحهم إلى حلوقهم فكان لا بد أن يأتي اليوم الذي يخرجون فيه إلى الشارع، ويعبرون عن حقيقة مشاعرهم، من دون أن يحسبوا حساباً لبطش الحكومة أو قوات الأمن". هذه الإجابة تعزي بالقبول، ففضلاً عما فيها من معقولية نعم، تعذب المصريون بما فيه الكفاية ووصلت أرواحهم بالفعل إلى حلوقهم، فإن في هذه الإجابة ثناء ضمنيا على المصريين الذين يبدون أحياناً وكأنهم مستعدون لقبول ما لا يجب قبوله، والسكوت على ما لا يجب السكوت عليه. فهاهم المصريون يثبتون أن للصبر حدوداً وأنهم قادرون مثل غيرهم على الثورة. وأنا أقول لنفسي"يا ليت هذا هو كل ما في الأمر. فهناك من الملابسات المصاحبة لهذا الانفجار المفاجئ ما يثير الريبة والشك في أن في الأمر أكثر من هذا". نعم، زاد الأمر عما يمكن السكوت عليه، ولكن كم من المرات من قبل سكت المصريون عما لم يكن من الواجب السكوت عليه؟ وكم تحمل المصريون وصبروا على ما لم يكن من المتصور أن يصبر عليه أحد؟ ثم ألا يجب أن نلاحظ التصريحات الأميركية المتكررة التي تطالب الحكومة بفتح الباب أمام المعارضين ليقولوا رأيهم؟ بل توجيه الإدارة الأميركية اللوم صراحة إلى الحكومة المصرية على القسوة التي عاملت بها بعض المتظاهرين؟ وألا نلاحظ الخوف المستطير الذي أصبح يسيطر على الحكومة المصرية من ردود الفعل الأميركية وحرص هذه الحكومة على تكرار تأكيد تسامحها مع المعارضين، ونيتها الصادقة في السير حثيثاً في طريق الديموقراطية؟ نلاحظ أيضاً أن الحكومة المصرية، منذ ما لا يزيد على عامين، أظهرت قسوة متناهية في التعامل مع المتظاهرين المحتجين على ما يحدث في العراق، بما في ذلك الاعتداء بالضرب على أحد نواب مجلس الشعب وعلى صحافيين مرموقين، ولكن الأمر يبدو وكأنها تغيرت فجأة، فتقوم التظاهرات الآن في شوارع رئيسية في العاصمة المصرية، ويهتف المتظاهرون هتافات لم يكن يتصور الهتاف بمثلها منذ شهور قليلة، وتنشر صحف المعارضة عناوين ضخمة ومثيرة وبالغة الشدة، ليس فقط ضد الحكومة بل ضد رئيس الجمهورية وأسرته، فلا الصحيفة تغلق، ولا الحكومة أو الرئيس يبديان غضبهما الشديد مما يقال عنهما، ولا هما يتوعدان الناس بالويل والثبور وعظائم الأمور كما كان يحدث من قبل. كل الدلائل على أن تنبيهات صدرت من الإدارة الأميركية بأن معاملة المعارضة المصرية على النحو القديم لم تعد مقبولة، فالتزمت الحكومة المصرية الطاعة، آملة بلا شك في أن يحدث في المستقبل ما يسمح لها بالعودة إلى سيرتها الأولى. أكدت كونداليزا رايس هذا بوضوح تام في محاضرتها قبل أيام قليلة في الجامعة الأميركية في القاهرة، وبعد يومين من المحاضرة قامت تظاهرات حاشدة في شوارع شبرا المكتظة بالسكان، انضم إليها عدد كبير من المشاهدين المتعاطفين، تندد بالحكومة وتهتف هتافات عدائية للغاية. الأمر إذاً يبدو وكأن المعارضين المصريين الذين بلغ بهم السخط منتهاه بالفعل منذ فترة طويلة، أخرجوا رؤوسهم من الجحور التي كانوا مختبئين فيها ليستشعروا ما يجري بالخارج، فلما لاحظوا أن الحكومة غائبة وأن رجل الأمن القوي وضع عصاه جانباً ونظر إلى الناحية الأخرى، أخرجوا رؤوسهم بضعة سنتيمترات أخرى، ولما تأكد لهم أن هناك تغيراً حقيقياً في الموقف، خرجوا بكامل أجسادهم وهتفوا هتافات معتدلة في البداية، فلما رأوا رجل الأمن يسمع ويسكت، رفعوا أصواتهم بالهتاف، أكثر فأكثر، وزادوا من عدائية الهتاف أكثر فأكثر، فإذا بهم يكتشفون أن الحكومة أصبحت شبه عاجزة عن الحركة، فهللوا فرحين بانتصارهم، من دون أن يدركوا أن في الأمر خدعة كبيرة جداً انطلت على عدد كبير من قادة المعارضة المصرية أنفسهم، بل من مفكريها أيضاً. تتلخص هذه الخدعة في أن السبب الذي دعا الإدارة الأميركية إلى ممارسة هذا النوع من"الضغط"على الحكومة المصرية، لا علاقة له البتة لا بحرص الإدارة الأميركية على حرية الرأي والتعبير في مصر، ولا على أن يحصل المصريون على ديموقراطية حقيقة، وإنما يتعلق في رأيي برغبة الإدارة الأميركية في خلق مناخ من التوتر العام، يشيع فيه النقد بل السباب الموجه إلى النظام الحاكم في مصر، ما من شأنه أن يشعر النظام بالخوف الشديد على مصيره، فيصبح مستعداً للقيام بأي شيء تطلبه منه الإدارة الأميركية، سواء في السياسة الخارجية وبالذات إزاء إسرائيل والسياسة الأميركية في العراق أو في الاقتصاد خصوصاً في ما يتعلق بالخصخصة وإلغاء ما بقي من قيود على الاستثمارات والتجارة أو في ما يتعلق بإعادة ترتيب المنطقة العربية بما يتناسب مع أهداف المرحلة الجديدة من مراحل السياسة الخارجية الأميركية. متى تحقق هذا، فإن من الممكن أن يحدث بعده أي شيء: أن يستمر النظام في ظل الرئيس نفسه، أو ابنه، أو شخص ثالث مناسب قد لا نعرف الآن أي شيء عنه، فإذا استتب الأمر لهذا الرئيس الجديد أو القديم، فإن من الممكن جداً أن تعود الأمور سيرتها القديمة بالضبط، من حيث تقييد الحريات، وقسوة نظام الأمن، والعبث بالانتخابات... الخ. إذ متى استقر النظام الجديد على نحو يتطابق مع الهوى الأميركي بالضبط، فلماذا يكون التغيير مطلوباً؟ بعبارة أخرى: لماذا يكون"الإصلاح"هدفاً؟ ولماذا تكون"الديموقراطية"مرغوبة؟ بعبارة أخرى: لماذا يحظى شعار مثل شعار"كفاية"بتأييد الأميركيين كما يحظى الآن؟ لتأكيد هذا فلننظر إلى زيارة السيدة رايس الأخيرة إلى القاهرة. اختارت السفارة الأميركية لها مجموعة من الأشخاص الذين زُعم أنهم يمثلون"مختلف ألوان الطيف"في الرأي العام المصري والمعارضة المصرية، فتشوقنا لأن نعرف أسماء هؤلاء الذين تعتبرهم الولاياتالمتحدة"الممثلين الحقيقيين"لاتجاهات الشعب المصري. فماذا وجدنا؟ رجل لم نسمع عنه قط منذ سنين فقط، خرج من حزب قديم ليكون حزباً جديداً لأسباب تحيط بها الريبة، وكأنه لم يفعل هذا إلا استعداداً لمرحلة جديدة من التاريخ المصري، أو حتى ليحظى بمقابلة المسؤولين الأميركيين كلما جاءوا إلى مصر. وآخر ارتبط اسمه بالأحزاب الحكومية من نشأتها، ومن تفتح وعيه السياسي لأول مرة، واشتهر بأنه قادر على الكلام الكثير من دون أن يقول شيئاً على الإطلاق، فتلقفته الإدارة الأميركية كزعيم محتمل بعد أن صرح قبل أسابيع قليلة بتصريح جريء"ضد الحكومة"، وذلك بعد أن أعلنت الولاياتالمتحدة أنها بدورها"ضد الحكومة"! وقل مثل هذا على الباقين: هذا وذاك عُرفا بموقفهما المتعاطف جداً مع إسرائيل واتفاقية"الكويز"، وهذا لم نسمع باسمه قط قبل هذه المقابلة البالغة الأهمية مع وزيرة الخارجية الأميركية... الخ. هل خلت مصر حقاً من"المصلحين"و"الراغبين في الديموقراطية"إلى هذا الحد؟ وهل درست السفارة الأميركية في القاهرة جيداً مختلف اتجاهات الشارع المصري فلم تجد إلا هؤلاء ليمثلوا المصريين استعداداً للعصر الديموقراطي الزاهر المقبل؟ في محاضرتها في الجامعة الأميركية في القاهرة قالت رايس أيضاً ما معناه إن الحكومة الأميركية تشعر بالأسف، إذ اكتشفت فجأة أنها ارتكبت خطأ فاحشا بدعمها حكومات ديكتاتورية في العالم العربي طوال الستين عاماً الماضية! وأنا بصراحة لا أستطيع أن أتعاطف بشدة مع ما تشعر به السيدة كونداليزا من أسف، إذ أنني لا أتصور أن دولة عظمى بحجم الولاياتالمتحدة يمكن أن تستمر في ارتكاب مثل هذا الخطأ طوال هذه الفترة الطويلة من دون أن تحاول تصحيحه. الأقرب إلى التصديق بالطبع، أن تمتع مصر أو غيرها من دول المنطقة بالديموقراطية لم يكن ضرورياً على الإطلاق للولايات المتحدة طوال الستين عاماً الماضية، بل ولا حتى مرغوباً فيه، ولهذا سكتت الولاياتالمتحدة على غياب الديموقراطية حتى جد جديد. هذا الجديد لم يجعل الديموقراطية ضرورية بعد أن لم تكن كذلك، بل جعل الكلام عنها فقط ضرورياً ومفيداً للغاية. وهذا هو بالضبط المناخ الذي نعيشه في هذه الأيام في مصر: كلام كثير جداً عن الديموقراطية، تمهيداً لعهد جديد وربما أيضاً نوع جديد من الديكتاتورية. كاتب مصري.