غادرت الدكتورة كوندوليزا رايس الشرق الاوسط بعد زيارة خاطفة، وقد اغضبت الحكام من دون أن ترضي الشعوب، مما يعني في تقويمي الشخصي انها غلبت الحكمة في الموازنة بين المطلوب والممكن. لم تكن هناك مفاجآت في حديث وزيرة الخارجية الاميركية في محطات التوقف فهي مهدت لطرحها السياسي قبل ذلك بأسبوع في اول مؤتمر صحافي كامل لها منذ تسلمها وزارة الخارجية بالقول ان الاصلاحات السياسية في مصر، بما فيها انتخاب الرئيس في اقتراع عام بين متنافسين على المنصب، تطور ايجابي الا انه لا يكفي. وهي قالت كلاماً مشابهاً عن الانتخابات البلدية في المملكة العربية السعودية. الدكتورة رايس قالت:"الديموقراطية ليست حدث يوم واحد". وسألت هل ما انجز يكفي، وردت على نفسها بالقول:"لا... ثمة حاجة الى عمل المزيد". لا اعتقد ان هناك حاكماً عربياً يستطيع ان يقول انه انجز من الاصلاح ما يكفي شعبه، ولا اعتقد ان هناك مواطناً عربياً يعتبر انه حصل على حقوقه كاملة. مع ذلك بعض المسؤولين انتقد كلام الوزيرة عن حقوق المرأة، وعن شفافية الحكم، وعن حرية الكلام والتجمع والتظاهر. كما انتقد اركان المعارضة، خصوصاً في مصر، تعامل الوزيرة الزائرة بقفازين من حرير مع الحكومات. ربما كانت النقطة الاساسية في جولة الدكتورة رايس كلها هي قولها في الجامعة الاميركية في القاهرة:"على امتداد 60 سنة سعت بلادي الولاياتالمتحدة الى الاستقرار على حساب الديموقراطية في منطقة الشرق الاوسط، فلم نحقق هذا او ذاك. الآن اخذنا نهجاً مختلفاً فنحن نؤيد الطموحات الديموقراطية للشعوب". الديموقراطية هذه لن تأتي الا على حساب الحكام وحكوماتهم لانها ستأخذ من صلاحياتهم لتعطي الشعوب، والمعارضة من فوق متوقعة، فنسبة الاصلاح الذي ستنفذه أي حكومة ستكون بنسبة الضغط الشعبي والخارجي الاميركي عليها، وليس اكثر من ذلك بقيراط واحد. مع ذلك نجد ان"الشعوب"التي سمعت كلام الدكتورة رايس وتحديداً 600 مستمع في الجامعة الاميركية في القاهرة لم تصفق للوزيرة وحديثها عن الديموقراطية، وانما جاء التصفيق لأمور مختلفة تماماً، فالجمهور في الجامعة صفق للاسئلة التي وجهت الى الوزيرة من نوع تجاهل الولاياتالمتحدة جرائم الحرب الاسرائيلية ضد الفلسطينيين، واساءة معاملة السجناء والمعتقلين في خليج غوانتانامو وأبو غريب، واستمرار العنف القاتل في العراق. الديموقراطية مطلوبة ومرغوبة، ولا يختلف عليها اثنان، غير ان المواطن العربي لن ينسى بالحديث عن الديموقراطية المأساة المستمرة في فلسطينوالعراق. الدكتورة رايس استاذة جامعية قبل ان تكون سياسية، وهي لا بد علّمت المستمعين وتعلمت منهم، فهي اذكى من ان يفوتها موقف جمهور جامعي، ولا بد انها فهمت انه اذا كان هذا موقف الطبقة المثقفة، فان موقف الطبقات الشعبية هو حتماً أشد. الواقع هو انه لا يجوز ان تعطى الشعوب العربية خياراً بين الديموقراطية وبين الحرية للفلسطينيين والسلام في العراق، فهذا مثل ان نسأل: هل تحب أبوك اكثر أو أمك؟ الديموقراطية لا تستحق اسمها اذا لم تقترن بالعدالة والسلام. ربما وجدت الدكتورة رايس، وهي في الطائرة الى اوروبا ثم الولاياتالمتحدة، الوقت لتختلي الى نفسها وتفكر بما سمعت، فهي قبلت الاجتماع بجمهور الجامعة، ورفضت الاتصال بجماعة الاخوان المسلمين، بحجة انها محظورة، وهي لا تريد انتهاك قوانين البلد المضيف. هي لا تحتاج الى ان تقابل قادة الاخوان المسلمين لتعرف ان مواقف الجماعة اكثر تشدداً واختيار الكلمة الاخيرة قد يكون خاطئاً من الجمهور الذي قابلته. وهي تعرف مع هذا ان الجماعات الاسلامية في مصر وغيرها تمثل القوى المعارضة الاكبر والاكثر تنظيماً والاكثر حضوراً في الشارع. هل الديموقراطية التي تسعى اليها ادارة بوش واسعة بما يكفي لاحتضان الاخوان المسلمين في مصر، والاسلاميين في كل بلد عربي؟ ثمة اخبار كثيرة عن توجه اميركي الى التسليم بحجم المعارضة الاسلامية في البلدان العربية، وبضرورة التعامل معها، حتى لو ادى ذلك الى فوزها في الانتخابات ووصولها الى الحكم. هذه الاخبار في الصحف، وفي ندوات مراكز البحث الكبرى، وفي تحليلات ضيوف التلفزيون، ولكن لا اعرف ان كانت تعكس توجهاً حقيقياً لدى ادارة بوش او انها تسريبات لاخافة الحكومات العربية المستهدفة وحثها على تسريع عملية اصلاح ديموقراطي حقيقي. الحاجة الى الاصلاح في العالم العربي، والى الديموقراطية والحرية، هي في اهمية الحاجة الى الهواء والماء، وارجو الا يعارضها حاكم او محكوم لمجرد ان الدعوات اليها صادرة عن الادارة الاميركية التي تواجه مشكلة هبوط صدقيتها بين غالبية العرب الى درجة السقوط. والصدقية الاميركية التي كانت في قمتها ايام دوايت ايزنهاور وتآكلت تدريجاً حتى اليوم، وحتى اندثرت او كادت، لن تعود بمجرد الحديث عن الديموقراطية والحرية، بل ببعض الافعال من فلسطين الى العراق، الى كل بلد في المنطقة، ولا بد ان الوزيرة الشابة تدرك الحاجة الى عمل المزيد ضد ارييل شارون، لا معه، بعد فشل اجتماعه مع الرئيس محمود عباس خلال يومين من اجتماعها مع كل منهما، فلعل اجتماع اللجنة الرباعية في لندن يتمخض عن ايجابيات يلمسها الناس على الارض. بقدر ما ارجو ان تكون الدكتورة رايس تعلمت منا على رغم قصر زيارتها للمنطقة، فانني ارجو ان نكون تعلمنا منها شيئاً عن مطلب الديموقراطية والحرية، وأرجو الا اغضب قارئاً وأنا اقول ان دولة فلسطين المستقلة من دون ديموقراطية هي الاحتلال باسم آخر. ما يشجعني شخصياً على تفاؤل مشوب بالحذر هو ذكاء وزيرة الخارجية الاميركية، وما يبدو من شجاعتها في قول بعض الحق للحكام والشعوب.