نسي الطفل سعيد، وهو بائع متجول، أنه آت إلى المركز الثقافي الفرنسي في رام الله، ليبيع"المسكة". سرقته موسيقى فرقة"تراب"الفلسطينية وأغانيها، من صراخه اليومي لترويج بضاعته، وأخذته إلى حيث لم يكن يتوقع، فغرق في هالة من الصمت. بدأ رأسه بعدها يتمايل بهدوء، وقدماه ترتفعان وتحطان على الأرض بخجل... و"المسكة"على حالها. يقول سعيد:"أحب الموسيقى... عموماً مللت من بيع"المسكة"، وهي فرصة للراحة... الموسيقى التي أسمعها جميلة، وليس من المنطق أن أشوّه المشهد بصيحات لترويج بضاعتي". لم يكن رأس سعيد الوحيد الذي تمايل، فقد استطاع باسل زايد ورفاقه من فرقة"تراب"، ومن قبلهم عازفون فرنسيون وفلسطينيون، قدموا مقاطع موسيقية كلاسيكية وحديثة، أخذ الجمهور إلى مناطق تحتضنهم فيها الموسيقى، ولا يقابلون إلا وجوهاً باسمة تقدم أغاني قد تكون، في لحظات، الأشد إيلاماً، وقسوة. وتأتي الأمسية الموسيقية التي نظمها المركز الثقافي الفرنسي في رام الله، في إطار الاحتفال السنوي الذي يحييه الفرنسيون، بداية كل صيف، وتحديداً في الحادي والعشرين من حزيران يونيو، في أكثر من 100 دولة، باسم"يوم الموسيقى"، إذ لا يكتفي محبو الموسيقى في هذا اليوم بحضور الحفلات الموسيقية، بل يسهمون في صنعها. ويعود تاريخ هذا العيد إلى العام 1982، بمبادرة من وزير الثقافة الفرنسي، آنذاك، جاك لونغ الذي وجد، بناء على معطيات رقمية فرنسية، أن أكثر من نصف شبان فرنسا يعزفون على آلات موسيقية. فكانت الفكرة أن ينزل الفرنسيون إلى الشوارع والساحات، في الحادي والعشرين من حزيران في كل عام، يحملون آلاتهم الموسيقية ويشاركون في يوم الموسيقى، عازفين أو حتى مستمعين. وتداعت الفكرة الفرنسية إلى الدول المجاورة، وما لبثت أن انتشرت في أكثر من 100 دولة في العالم، بينها الأراضي الفلسطينية حيث تقوم القنصلية الفرنسية العامة في القدس، وبدعم من قناة"تي في 5"، بتنظيم عروض وفعاليات موسيقية، في المناسبة. وإضافة إلى الفرق والعازفين المشاركين في اليوم الموسيقي الذي نظمه المركز الثقافي الفرنسي في رام الله، قدمت فرقة"نايلي"التي تغني وتعزف"الراب"بالعربية والفرنسية، حفلة في غزة، وأخرى في القدس. في حين تقدم المغنية الفرنسية العالمية كامي، أغاني فرنسية بألحان البلوز ترافقها جوقة من الأطفال الفلسطينيين، والفنان وسام مراد في بيت لحم، ورام الله، والقدس. وفي نابلس، قدم رباعي مولوس أكورديون وجاز، وفرقة المركز الوطني للموسيقى حفلة متميزة. ويرى يوسف أبو سمرة، أستاذ علم النفس في جامعة بيرزيت، أن هذه الأمسيات الفنية تشكل متنفساً للفلسطينيين الذين يعانون كبتاً مركباً، بسبب تفاقم الظروف السياسية والمعيشية السيئة من حولهم، إضافة إلى ما توفره هذه الأمسيات من فرصة للتعرف الى ثقافات الشعوب، من خلال الموسيقى التي تقدمها. أما الفنان باسل زايد الذي قدم أغاني تحاكي الواقع، بأسلوب ساخر أحياناً، ومؤثر أحيان أخرى، فأكد أنهم في فرقة"تراب"، وهي فرقة حديثة التأسيس، يحتاجون إلى التواصل المستمر مع الجمهور، من خلال هذه الأمسيات، مؤكداً أن"تشجيع الجمهور وتعبيره بطرق مختلفة عن تقبله لنوعية الأغاني التي نقدمها، سيدفعاننا الى طرق كل الأبواب لتسجيل البومنا الأول الذي لا تتوافر الإمكانات المالية لدينا لتسجيله، وتوزيعه وتوفير الدعاية اللازمة له". ويعتبر"يوم الموسيقى"الفرنسي العالمي، حلقة في سلسلة من المهرجانات والفعاليات الفنية والثقافية، التي نظمت وتنظم في مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، خلال الموسم الصيفي، وبعد انقطاع استمر أكثر من أربع سنوات، بسبب الأوضاع السياسية والأمنية السائدة.