بعد أنخيل غونثالث، رامون خ. سندير، لويس ثيرنودا، وخراردو دييغو تواصل سلسلة "ضفاف"التي أطفأت أخيراً شمعتها الثالثة من مشروع نشر الشعر الغنائي الإسباني في أوساط القراء العرب، من خلال شاعر الحب الذي ينتمي الى"جيل 27"الشاعر بيدرو ساليناس وهو يُعد واحداً من أكبر شعراء القرن العشرين في إسبانيا. فعبر ترجمة بالغة الشفافية لمزوار الإدريسي وخالد الريسوني وبلار غارسيا مادراسو سيحظى ساليناس المجهول تماماً لدى القراء العرب بعبور أنيق ومضيء إلى لغة الضاد من خلال هذه المختارات الصادرة هذا الشهر عن معهد تسرفانتيس في طنجة. ولد بيدرو ساليناس هذا الكلاسيكي الذي يتميز شعره الغزلي بعمق اللغة ودقتها سنة 1891 في مدريد وتوفي في بوسطن الأميركية سنة 1951 بعد عمر من الترحال الأكاديمي جاب خلاله، كمحاضر وأستاذ زائر، جامعات في أوروبا وأميركا الجنوبية والوسطى. وكان يعتبر تنقلاته هذه نوعاً من الإقامة في المنفى لأنه كان رفض العودة إلى إسبانيا معللاً ذلك بأسباب سياسية. أسبابٌ لم تجعل السياسة كموضوع تتسرب إلى قصيدته، ليظل قلق الحب لديه وجودياً خالصاً. فمنذ بداياته الأولى التي تضم دواوينه الصادرة ما بين 1923 و1931 تناول ساليناس موضوعات الحب والحرمان والمصير القلق للإنسان، وكذلك ما يختفي خلف الواقع وخلف اللغة والشعر. كان هناك كمال وصفاء روحيان ينشدهما الشاعر من خلال الحب ومن خلال اللغة التي تقول الحب:"جُمَلُ الحب هذه التي تتردد كثيراً/ لا تتماثل أبداً./ لها جميعاً رنين مُطابقٌ،/ لكنَّ حياةً تُنعش كل واحدة منها،/ عذراء ووحيدة، إن أنت أدركتها". ولعل رهان ساليناس الشعري لم يكن سوى محاولة للوصول إلى تلك الحياة العذراء لجُمل الحب وقصائده. ولكن هل تمكن الكتابة عن الحب من الخارج فقط؟ هل يكفي التغزل بمفاتن المحبوبة وتشبيهها بالقمر الذي ينير الكون والغزال الشارد في الصحراء لتتحقق تلك الحياة الخاصة جداً والوحيدة التي ينشدها الشاعر لجملته واستعارته؟ بالتأكيد لا. لهذا كان بيدرو ساليناس حريصاً على الروح. فالكمال بالنسبة له يعني الروحانية. والقصيدة لا تستحق اسمها ما لم تنتهِ إلى إشراق:"من بلَّورٍ أريدُكِ/ فأنت مكتملةٌ وجلية/ كي أرى العالم/ عبركِ، خالصاً../ أنتِ حاضرةٌ هنا، أجل/ أمامي، دوماً/ لكنكِ خفيَّةٌ دوماً،/ ودون أن أراكِ، أنتِ مُتجليَّة". هذا التجلي لا يحتاج بالضرورة من أجل إنجازه إلى لغة متعالية على الواقع والإنسان. فساليناس كان يحققه في شعره بلغة أقرب إلى المُحادَثة الشعبية البسيطة وبكلماتٍ عادية في قصيدة غنائية رقراقة يهيمن عليها البيت الحر. أما أناهُ الشعرية الغنائية فكانت تتجه نحو مخاطَبِهِ الوحيد والأخير في هذا الكون""أنتِ":"أحبكِ طاهرةً وحرّةً /غير قابلةٍ للاختزال: أنتِ. /أعرف أنني حينما أناديكِ/ من بين كل بشر العالم/ وحدكِ أنتِ سوف تكونينَ أنتِ./ وحينما تسألينني/ من ذا الذي يناديكِ/ سوف أدفن الأسماء والعناوين/ وسأقول لك:/"أنا أحبك، هذا أنا". ولكن مع صدور ديوانه الرابع"الصوت مدينٌ لكِ"سنة 1933 ستغدو لغة ساليناس أكثر مفهومية وتأملاً. سيكبح الشاعر لغة التَّأثُّر لديه وسيصير أكثر ميلاً الى عَروض البحور القصيرة في هذا الكتاب الشعري، وفي الديوانين اللذين سيليانه"منطق الحب"و"نحيب مديد". وبدا واضحاً أن ساليناس تحول بالتدريج صوتاً شعرياً خالصاً، صوتاً لا يتكلم إلا بالنجوى. أما الحب فاستحال لديه ما يشبه الجائحة. قوة طبيعية هائجة ومنفلتة ذات قدرة مدمرة جبارة:"أيها الحبُّ، يا حبُّ، يا كارثة". أما الباعث السحري الذي كان يفتن الشاعر في مرحلته الأولى فصار يفزعه اليوم:"خوفٌ. أمِنْكِ؟ حبُّكِ/ هو المجازفةُ الكبرى". لكن حالة الفزع التي تلبست الشاعر في هذه المرحلة لم تدفعه إلى التراجع عن هذا"المشروع الكبير للروح"الذي انخرطت فيه قصيدته. فهو ظل يؤمن دائماً بأن هذه الطاقة المدمرة التي يسمونها الحب تبقى على رغم كل شيء الإمكانيةَ الوحيدة لافتداء الإنسان. ولكن لكي يتحقق ذلك على الجسد الذي يرتديه الإنسان عليه أن يملك روحاً، روحاً بَدَنيةٌ متوحدة بالجسد، بل تلزم الشاعر حواس أخرى ليضمن لعشيقته الغائبة أبداً نوعاً من الحضور والجسدية في القصيدة على الأقل:"لكي أُحِسّكِ أنتِ/ لا تُجْدي/ الحواس المألوفة التي تعوَّدنا/ استعمالها مع الآخرين./ لا بد من انتظار حواسٍّ جديدةٍ./ بجانبك أمضي/ خفية في العتمة،/ متعثراً بالصُّدَف والمساءات،/ غارقاً نحو الأعلى/ بثقلٍ هائلٍ لجناحَيْن". هذا الغارق نحو الأعلى سيصير أكثر قلقاً إزاء حاضره المغترب والعدمي. سيهجو إنسان القرن العشرين وارث عصرالأنوار واختراع الكهرباء الذي استعمل كل ما ورثه من أجل إعتام كل طرق الخلاص. وسيهجو الحرب وهؤلاء الذين يصنعون الحرب وسينتفض بقوة وشراسة ضد القصف النووي لهيروشيما وناكازاكي. لقد تحول شاعر الحب الكبير في المرحلة الأخيرة من حياته الشعرية كائناً لا يستطيعُ العالمَ تحمله وما عاد قادراً على تحمله. وكمن يسدر ستاراً أسود في نهاية مسرحية تراجيدية يرتل بيدرو ساليناس بغنائية جنائزية سوداء في قصيدته"مدينة الرَّب":"لا يوجد أحدٌ هنالك ينظُر، هناكَ العيونُ/ المأجورةُ في المكاتب،/ فارغةً إلى/ الأسفل تمضي المصاعد/ وفارغةً تمضي إلى الأعلى/ تنقل أشباحاً مستعجلة:/ العَدَمُ في عَجَلَة".