سفن سوداء تقطع بحر ايجه نحو الشرق. هذه سفن الآخيين. القراصنة اليونان. تبلغ السفن الساحل فتُطوى الأشرعة. يقفز المحاربون الى الشط. يجرّون السفينة على الرمل. يربطونها الى أوتاد يطرقونها في الأرض. الشمس تميل في قوسها الأبدي. وظل بارد يسقط على رؤوسهم. يرفعون الوجوه عندئذٍ. وينظرون الى أسوار مدينة عالية. هذه طروادة. وهذا ظل الأسوار يغطيهم. من أجل هذه المدينة المملوءة كنوزاً قطعوا بحر التاريخ يغالبون الرياح والأقدار. هوميروس صاحب حِيَل. عاش قبل قرونٍ من الميلاد. لكنه يكتب رواية حديثة بفنٍ سردي فائق التطور. لا يبدأ"الإلياذة"بنزول الآخيين على الساحل التركي. يبدأ الملحمة وينهيها أثناء سنة الحصار العاشرة. منذ تسعة أعوام وطروادة تحت الحصار. تسعة أعوام وجيوش اليونان تتراكض تحت أسوارها. معارك لا تُعد. قتلى وجرحى وكوارث. طروادة لم تسقط بعد لأنها تلقى دعماً عسكرياً من مدنٍ آسيوية كثيرة. مع هذا لا يتراجع اغاممنون. يطلب احتلال المدينة. آخيل غاضب. يقعد بين رفاقه في خيمته جنب سفينته. لا يشارك في القتال حتى يُقتل صاحبه. لكنه هو أيضاً ينظر بعينٍ واسعة الى المدينة العالية. المدينة المخفية وراء الأسوار. ابن الفقيه يذكر في معجمه خبر"مدينة النحاس". الغرناطي يذكرها في"تحفة الألباب". ابن خلدون العقلاني يدحض وجودها. ما هذه؟ مدينة بأسوار من نحاس مزروعة في الأرض تتعالى الى السماء. من بعيد يراها العابرون. يقال انها في صحراء سجلماسة. أرض كثيرة النحاس. مدينة تقتل. يقال انها في الأندلس وان موسى بن نصير رآها. تجذب العابرين ببرق أسوارها الأحمر فيسعون اليها. لكنها بلا أبواب. يرمون الحبال ويتسلقون السور. فإذا قفزوا الى بطنها لم يُسمع لهم بعد ذلك خبر. مرات يُسمع صراخهم. ومرات لا يُسمع. هذه مدينة النحاس. الداخل اليها لا يخرج أبداً. الغرناطي جعلها وراء البحر. أحد معاصريه أودعها قلب الصحراء. أين هي هذه المدينة؟ لو قرأ كالفينو خبرها كان رآها استعارة. ليست مدينة خيالية. تشبه مدن هذا العالم. ولا تشبه إلا نفسها. يكتب هوميروس 15 ألف سطر عن حرب طروادة. 15 ألف سطر عن غضب آخيل ومن يقاتل جنبه أو ضده. كل هؤلاء الاغريق والطرواديين تعضّ أسنانهم التراب! ملحمة تعجّ بصور الموت العنيف. لكنها تؤرخ أيضاً عادات وتقاليد. بينما يسقط المحارب نرى حياته كلها: من أي جزيرة أتى، كم مزرعة يملك أهله، ماذا صنع في حياته القصيرة، وكيف انتهى. تتشابك القصص من دون أن تتشابك. سرد يجري متدفقاً. كالنهر حيث خاض آخيل أشد معاركه دموية. الإلياذة تحفظ عالماً كاملاً من الزوال. ينقذ الأدب التاريخ من الاضمحلال. يبدأ منه. لكنه يجاوزه. كان حلم بروديل وهو يؤلف كتابه عن عالم المتوسط أن يتحول روائياً. هذا حلم غيبون وهو يكتب انحدار الامبراطورية الرومانية وسقوطها. تولستوي ذهب الى الرواية بلا وجل. لم يكتب مؤلفاً تاريخياً عن زحف بونابرت على سهوب روسيا."الحرب والسلم"لا تستمد قوتها من الحدث التاريخي، بل من مخيلة روائية شعرية ترى الجوهر الإنساني في قلب الحركة العنيفة للتاريخ وترفض التخلي عنه. ماذا يكون هذا الجوهر الانساني؟ جوع الجنود خارج أبواب موسكو؟ غضب آخيل؟ أم بكاء آخيل على حافة البحر بعد أن قتلوا صاحبه باتروكلوس لابساً شكّته؟ الكلمة الأخيرة شكّة تتردد كثيراً في ترجمة سليمان البستاني 1856 - 1925 العربية للإلياذة. ترجمة منشورة سنة 1904. باتروكلوس يلبس درع صاحبه الباقي في المعسكر ويخرج الى القتال. يُطعن ويقتل. برمحٍ في ظهره، ثم بطعنة من هكطور في الخاصرة. هوميروس يخطف الأنفاس في ترجمة روبرت فيتزجيرالد الانكليزية. هذا لا يحدث - حتى الساعة ، في أي ترجمة عربية للملحمة المذكورة. ليس سهلاً أن تُنشد النشيد مصقولاً. بلا كلمة زائدة أو ناقصة. ليس سهلاً. الإسلوب يُغير المضمون. هذا درس الشعر. درس النثر أيضاً. مدينة الأدب كيف تُبنى؟ حياة الانسان قصيرة. لعل جوهرها يكمن هنا بالذات: حياة عابرة، موقتة، مملوءة حلماً، لكنها أقصر من برقة عين. وفي هذه المسافة القصيرة بين نقطتين يصنع الإنسان أشياء لا تحصى. بورخيس كتب قصصاً تعجّ بالموت العنيف. مع أن الرجل لم يخض حرباً في حياته. أنه حتى لم يعش في بوينس ايرس أسلافه، بوينس ايرس القرن التاسع عشر والحروب الأهلية التي مزقت الأرجنتين. كيف تسلل كل ذلك العنف الى قصصه؟ صحيح انه عبر الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية وهو يقرأ مجلدات ويكتب. لكنه مع هذا لم يكتب سير جيوش وحروب كبرى. بورخيس ليس تولستوي. كتب عنفاً خفياً يجري في الدم. الأسلاف ينامون كدببة الشتاء في أعماقنا. صاحب"حياة تيديو ايزيدورو كروز"انتبه ان حياة أي انسان تتألف من لحظة واحدة. ما هذه؟"لحظة يكتشف الانسان وجهه الحقيقي". بعد وقت اكتشف في قصة أخرى - تستعيد سيرة هوميروس - ان اللحظة المذكورة هي لحظة الموت وانطفاء نور العينين. لكنه بعد ثلاثة عقود يتذكر شكسبير فيكتب ان حياة الانسان لا تُختصر الى لحظة واحدة أبداً. حروب جبل لبنان الأهلية أثناء القرن التاسع عشر حضرت في بدن ابن عائلة البستاني وهو يترجم هوميروس الى العربية مطلع القرن العشرين. هذه قيمة ترجمته. انها - على نحوٍ أدبي - شهادة تاريخية على حرب لا تدور في حقبة محددة بل تستمر عبر الحقب. ليست حرباً فقط. بل الاضطراب الدائم الكامن في وجودنا البشري. بحر التاريخ عجّاج عالي الموج. لكننا نجد على حافته مدناً كثيرة تثير الخيال. كل مدينة هي متاهة مرتبة من قصص وأحلام وخيبات وخسائر وانتصارات. داخل المدينة نضيع. وعند أطرافها نضيع أيضاًَ. تجذبنا المدن الى جوفها. تُدمرنا أو تنقذنا. من يعلم؟ المدينة استعارة: حياة الجماعة في عصورٍ حديثة، ليست تماماً حديثة. هوميروس مثلٌ. دانتي مثل آخر. ستيفنسون المشطور أيضاً. هجّرت الحرب بطرس البستاني 1819 - 1883 من جبل لبنان الى بيروت. مترجم التوراة والأناجيل الى العربية المرسل الأميركي الآتي من البعيد البعيد كرنيليوس فاندايك صادق البستاني في هذه المدينة على حافة المتوسط. البستاني أعطانا"دائرة المعارف"و"محيط المحيط". فاندايك أعطانا لغة عربية قصيرة الجملة غريبة التراكيب. مع ان فاندايك طلب العربية الفصحى الخالية من الأثر الأجنبي كل حياته. حتى انه كلَّف شيخاً أزهرياً لا يعرف غير العربية أن يُنقح ترجمته. لكن لغة الأزهري هي أيضاً تغيرت وهو يقرأ ترجمة فاندايك. من دون أن ينتبه تغيرت عبارته، الشيخ يوسف الأسير، تغيرت عبارته وتغيرت نظرته الى هذا العالم. لم يعد هو. صار رجلاً آخر. الأدب - كالحياة - يُبدلنا. بينما نكتبه أو نقرأه نتغير. التاريخ أيضاً يصنع مثل هذا. الشرط الضروري هو الخيال. هل يكمن الجوهر الانساني هنا؟ في القدرة على التخيل. بورخيس - مثل دانتي- عرف ان النمر يموت في القفص لأنه عاجز عن تخيل الساعات الآتية: ساعة قد يخرج فيها من القفص، فيركض في سهولٍ خضرٍ مرة أخرى، ويقفز ككومة نار أو ذهب أصفر في غابات الليل. ليس الإنسان نمراً. ابن آدم صاحب أحلام. ينظر الى خطوط النمر المتوازية ويرى ان اللحظة تعبر وان لحظة أخرى تأتي بعد هذه اللحظة. ولا لحظة تشبه لحظة أخرى. كلّها تتشابه. ولا تتشابه أبداً. ماذا يصنع بنا المستقبل الغامض؟ ميخائيل مشاقة 1800 - 1888 يذكر في تاريخه"الجواب على اقتراح الأحباب"حادثة جرت أوائل القرن التاسع عشر. الحادثة المذكورة تتعلق برجلين: الأمير بشير شهاب حاكم جبل لبنان آنذاك، وسعيد آغا حاكم ريحا. الثاني أدى خدمة للأول ذات مرة. والأول قرر أن يرد الخدمة اذا سمحت الأيام. يوسف ابراهيم يزبك وجد في القصة بعد نحو قرن درساً في"الوفاء وحماية اللاجئ". هذه هي القصة: جاء الى حلب وزير عثماني يحمل فرمانات بقطع رؤوس عدد من الولاة."وكان سعيد آغا حاكم ريحا في جملة الذين حكم على رؤوسهم بالقطع، فلما بلغ الخبر سعادة الأمير بشير أرسل يدعو سعيد آغا وكل من يريده. فجاء الرجل الى دير القمر ومعه نحو 300 نفر بخيولهم وبغالهم، بينهم اثنان من المطلوبة رؤوسهم، أحدهما يدعى أوزون علي، والآخر طوبل علي، أي علي الطويل وعلي الأعرج - عادة الترك في نعت الإنسان بعيوبه الطبيعية. وكنت أنا ميخائيل مشاقة كاتب هذا الكلام من الذين تفرجوا عليهم عند وصولهم، فسعيد آغا كانت صورته تشبه صورة الأمير بشير شبهاً كلياً. وقد استقبلهم الأمير بكل ترحاب وبشاشة، وانزلهم في قرية كفرنبرخ، بعيدين مسافة ميلين عن سرايته المسماة بيت الدين، ورتب لهم كل ما يلزمهم من أكل لهم وعلف لدوابهم". العنصر الخيالي في التاريخ حرّك هوميروس ثم تلامذته. في حكاية مشاقة أكثر من عنصر شعري روائي واحد:"كانت صورة سعيد آغا تشبه صورة الأمير بشير شبهاً كليا"ً. ان هذه الجملة تأخذنا الى الفقرات الأخيرة في قصة بورخيس المذكورة سابقاً قصة تيديو ايزيدورو كروز التي - وهذه صدفة أخرى - أتت الى بورخيس وهو يقرأ"مارتن فييرو". هناك أيضاً نرى رجلين يتواجهان، وفي ساعة المواجهة يكتشفان انهما رجل واحد. ألم يقتل أخيل هكطور وهكطور يلبس درعه؟. الشبه بين سعيد آغا والأمير بشير ليس العنصر الروائي الوحيد في هذه الحكاية. هناك التركيان أيضاً: أوزون علي وطوبل علي. أنزلهما الأمير في احدى القرى الجبلية ورتب لهما ما يلزم من أكل وعلف. كيف عاش الرجلان في كفرنبرخ؟ هل تزوجا؟ هل رزقا أبناء؟ هل تستمر سلالة أحدهما في القرية المذكورة الى هذه الساعة؟ مشاقة يكمل القصة في تاريخه. يعطينا مستقبلاً واحداً لحياة هؤلاء الرجال. القارئ يستطيع أن يتخيل مستقبلاً آخر. المستقبل درب احتمالات لا تُعد. تولستوي وهو يكتب عن كوتوزوف بنى شخصيته كما يشاء. أعطاه حياة أخرى لا يصدقها المؤرخون. لكن قراء تولستوي لا يعرفون الا كوتوزوف"الحرب والسلم"! الأدب غريب. كافكا عرف هذا. داخل قلعة الأدب يمتزج الخيالي بالواقعي. هل نعرف حدّاً فاصلاً بين اليقظة والمنام؟ الروائي لا يعرف. هذا درس هوميروس: الشعر هو ما يبقى. الحقيقة الانسانية. ما نراه في لحظة فاصلة بين بداية ونهاية. ما نراه. وما نتخيل رؤيته.