اتجهت نجاة علي في ديوانها الأول"كائن خرافي غايته الثرثرة"إلى أفق جمالي ثري، شاركت في صنعه أصوات: إيمان مرسال، فاطمة قنديل، هدى حسين، غادة نبيل وزهرة يسري. وتؤكد في ديوانها الثاني"حائط مشقوق"، الصادر حديثاً في سلسلة"كتابات جديدة"لدى الهيئة العامة للكتاب، اتجاهها وامتياز شعريتها برؤية مختلفة لفاعلية الجسد في محيطه وبين الآخرين:"يا لها من شهوانيةٍ خائبة/ تلك البنت التي خرجت/ لتوّها/ من المقهى/ تجرّ وراءها/ ذيول خيبتها/ لا تعرف كيف تخفي/ ثقوباً واسعة/ بجسدها الشاحب". الذات في الديوان شهوانية خائبة، شاحبة تلتهم الأنيميا نصف جسدها، الجسد حائط مشقوق لا يقاوم الانهيار المتوقع، العودة إلى البيت معطلة، وجدران الغرفة"كائنات متوحشة/ تتسلى بافتراسها ليلاً". كل العلاقات"حوائط الحماية"، في الديوان متصدعة، فهناك الأم"مُعلمة القسوة"التي تركتها وحدها لبرودة الشتاء، الأب الجنرال الخائب، وشبيهه الجنرال الطيب والخاسر الذي يتأخر عن موعده، والولد الأبله والحبيب القديم الذي قتلته مرات في حلمها، وهناك الأصدقاء الحمقى، وملاك الموت الذي لا يجيء، ومحترفة صيد العشاق التي تهرب من صورتها. الآخرون عموما في الديوان مغتصبون، يرتبون خريطة الجسد ويقترحون العدل في القسمة:"كلّ الذين أحبّتهم/ كانوا مجرمي حرب/ حقيقيين/ أتقنوا دورهم جيداً/ كانوا خائبين/ وكنتُ متسامحةً معهم/ أكثر من اللازم". والآن..."وجوههم في اتجاه الحائط"، والذات تعاملهم بما يستحقون."سأضع بيني وبينك/ مسافات/ ثم أملأها بكراهية/ لا يطفئها شيء": تتوافق المسافات الممتلئة بالشعور المدمر هنا مع الحس العام بالتصدع وانتظار التداعي، وهو الحس نفسه تقريباً الذي قاد تجربة الديوان الأول، مع تصعيد الغضب هذه المرة واختيار نقطة توازن تتمثل في العنف السري. يتميز ديوان"حائط مشقوق"بتعديل في سيكولوجية النفي والإثبات، فاختيار رفض الآخرين قد يعني قبول الذات، إذ لا تكتمل دلالة الاختيار إلا في المقابل الذي تم رفضه، لكننا نلاحظ في الديوان رفض المقابل أيضاً، ما يعني نقص الدائرة ومثول فراغ يستدعي الامتلاء، لذلك كان مناسباً أن يتكرر استعمال مفردة"التسلية"في سياق الشراسة التي تُمارس سراً للتعجيل بالانهيار. تنتشر في الديوان أفعال عدوانية الإيحاء، مثل: الموت/ القتل/ الطعن/ السحل/ الركل/ الجَلد/ نشب الأظافر/ تعبئة الدماء/ تقشير الأعضاء - وبصرف النظر عن أن الفعل يمارس على مستوى الحلم، وعن كون العدوانية هجوما أو رد فعلٍ على اعتداء - تنبعث من الصور المحيطة بتلك الأفعال طاقة مؤثرة، لعل مصدرها المفارقة الخفية بين بدائية التعبير عن الانفعالات ونهائية الثقة في فهم الآخرين، مع تعطيل إمكانات المصالحة مع هذا الفهم، وبالتالي مع إمكانات ترقية التوازن النفسي. البدائية والرقي هنا هما مجرد تحديد مرحلي لانفعالات التجربة، التي لا حُكم عليها، بخاصة وهي تبدو كخبرة أولية أو مشروع خبرة مطروحة للانفعال أكثر من التأمل:"تبدو البنتُ التي/ انتظرته طويلاً/ حائرة في وقفتها/ كمن يبحث عن دور/ مناسب/ قبل أن تبدأ اللعبة". سنلاحظ في الديوان كله استخدام مفردة"البنت"لتحديد عمر الذات، وهو تحديد لخبرتها أيضاً. لم ترد مفردة"المرأة"سوى مرة واحدة مقترنة بالاحتراف والقسوة، ويكاد الموقف الجسدي الحميم ينحصر في صورة تقبيل الآخر يدها أو صدرها كطفل جائع. تكررت هذه الصورة مع الولد والجنرال الطيب، والذات تنفر منها مثلما تنفر من صورة المرأة وسلطة الجسد. الجسد مقام جمالي يجذب الرجل والمرأة على حد سواء، غير أن الحسابات النفسية والاجتماعية غالباً تعوق تعبير المرأة عن علاقتها بهذا المقام، أو تشوهه على النحو الذي يمكن ملاحظته في الديوان. فالعنف الموجه الى الجسد، جسد الذات/ الآخرين، يبدو بديلاً من احتوائه، أو استعماله لتقديم الذات. الديوان في هذا المعنى تجربة في الاستغناء، بتعطيل الحلم الرومانسي:"مثلي لا يحلم"، وبتعديل صورة الجسد، من آلة مسالمة كاملة للمتعة إلى آلة عنيدة ناقصة للتعذيب."كيف تركتهم على عتبات الجسد/ ... يتساقطون/ واحداً بعد الواحد/ بهذه البساطة/ وكيف لم ينتبهوا هم/ لتلك العلامات الغائرة؟": لا تتكرر هذه النبرة اللطيفة إلا في قصيدة"في انتظار مرورهم من هنا"المُهداة إلى القاص الراحل سيد عبدالخالق، لكن وجودها يخفف قليلاً من وطأة الإحساس الخانق بأن الممكن الوحيد في رؤية الذات ليس إلا خيالات وحشية. الانطباعات في"حائط مشقوق"حادة صافية لا تقاوم الوضوح، وإيقاع السرد متسق مع بساطة التركيب وتداخل أفقي البوح للذات والحوار معها. ليست القصائد تعبيراً شخصياً عن إحساس تقليدي بقدر ما هي تمثلات صادقة لحساسية. وكما فعلت الشاعرة في الديوان الأول حشدت هنا ما نثرته كل النصوص في نص أخير مكثف الأسطر، نستطيع أن نفترض أنه الكتلة الأولى التي انهارت فتشعبت إلى قطع من مادته وإن اختلفت عنها حجماً وإيحاء وتشكيلاًَ. يمكن أن يُرى الديوان كإثبات لسمات رئيسة في الشعر السائد اليوم: نفور من الشكلية والمرجعية، تفضيل الصور الكلية ومتعلقات العادية المفترضة في الهامشي وتفصيل اليومي، عدم الانشغال بالجوانب المعرفية والتجريب، إبراز وحدات الملاحظة العابرة والاقتباس السياقي السريع، مع تضمين الموقف من العالم واللغة، والإلماح إليهما من خلال مفردات تشكيل الرؤية والقصيدة. حضور الذات في الديوان قوي، على رغم فاعليتها الضعيفة، وتنتمي مفردات عالم الشاعرة إلى الديوان الأول، لكن ثلاثة أعوام بين الديوانين كانت كافية لأن تضع نجاة علي طاقة غضبها في الكتابة، لتضيف رؤية مختلفة ومثيرة للاهتمام.