منذ ان اختار الشاعر المصري محمد صالح"خط الزوال"عنواناً لديوانه الثاني، وقسّم قصائده ما بين تفعيلة ونثر، عقب اشتباك خالص مع قصيدة التفعيلة في ديوان"الوطن الجمر"، تحددت معالم تجربة متميزة، واستمرت على مهل تقدم خلاصة توترات خفيفة بين التشكيل الحر وشروط التقاليد الفنية، في ديوان"صيد الفراشات"و"حياة عادية"، وأخيراً في ديوان"مثل غربان سود"الصادر حديثا في القاهرة عن دار ميريت للنشر. يتخذ الديوان الأخير كاملاً شكلاً مُعيّناً، طرفان حادان يمثلهما نصان،"الضريح"للبداية و"على بُعد سنتيمترات"للانتهاء، وبينهما انفراج يشمل ثلاث مجموعات من النصوص تشتغل على معنى"التعرف"في إطار تأملي يتحرك من الموت إلى الحياة. عنوان الديوان مأخوذ من نص في المجموعة الأخيرة بعنوان"اليوم السابق"المُهدى إلى الصحافي والمناضل البورسعيدي كمال القلش، وهو في حال غيبوبة، لا يشعر بوجود زواره،"لا يتعرف"إليهم، يتنفس.."واليوم/ هو اليوم السابق/ من دون صحف/ من دون أصدقاء/ من نكون إذاً/ نحن الذين نصطف مثل غربان سود/ بانتظار أن يسمحوا لنا برؤيته". تجربة الديوان هي تجربة آنية وكلية في وقت واحد. تمنح الآنية معاني مستقلة عن نتائجها، وتقترح الكلية أن التأملات لها قيمة ما، وأهمية كافية لتوحيد لحظات متفرقة في حياة ذات غيرية، كثيرة الانشغال بالخارج والآخرين. هناك سخرية مضاعفة في حضور الموتى، من طبيعتهم المفترضة التي هي الغياب، ومن تقديسهم أو منحهم التقدير الذي يستحقونه بعد الفوات. لم يكن الرجل ولياً، في نص الضريح،"الذين خططوا لقتله/ هم الذين دفنوه هناك/ وهم الذين روجوا الأقاويل/ عن قيامته"، ومن أودى بحياتهم القصف العشوائي..."على محفات عالية/.../ موشحين بالعلَم". التفاصيل المزعجة في"ظل رجل"مفتقدة بعد رحيله، وفي"الحداد"بيت..."أقل دفئاً/ وأكثر وحشة"مع إدراك واضح لأفضلية من مات. ليس الموت في ديوان"مثل غربان سود"شخصياً، ليس موتاً عادياً ينتظر وينتظر، ثم يدخل الجسد ليحرره من هيكله الأرضي. فهو هنا رسول الساسة والجنرالات، عاجز عن السيطرة على الجثث، وعلى وعي الموتى الذي يتكلم الشاعر من خلاله، في نص"بغداد"، أو ينقل استجاباته، في"بعد فوات الأوان"، وبمقاربة دور الحاكي الذي تجبر لغته مخيلة القارئ على الشعور بالموقف أكثر من التفكير فيه، وتوسعة مدى الإحساس، ليشمل التناقض ويبقى حياً به:"كانت قد ماتت/ لكنه ظل يغمز لها بعينيه/ حتى انفرجت أساريرها/ وافترت شفتاها/ عن ظل بسمة". هناك ما يستعصي على القتل/ الموت، كما في النص المُهدى إلى الشيخ أحمد ياسين، هناك ما يبقى دائماً ليكشف الموتى عن حضورهم في أكثر أشيائنا حميمية، واقترابهم قدر الإمكان من دون أن يذيبوا هويتهم في هويتنا، ليستمر ذلك الحاجز الشفاف بين ضفّتي الحياة قائماً، ومثيراً للتساؤل عن مغزى الرحلة وجدوى الأحلام. "السمكة المغوية/ التي خرجت اصطادها/ السمكة التي حملتني من بحر لبحر/ ألقت بي على شواطئ غريبة/ هناك لا أفعل شيئاً/ مما كان حياتي/ فقط ألتقي بالصيادين مثلي/ نجلس مطرقين في مواجهة البحر/ ونتحسر على الأسماك/ التي أضعناها". لا تحجب النبرة الشعبية في استخدام"الغربان"، بصفتها نذير شؤم، ولا الارتباطات الرمزية باللون الأسود - وظيفة الطائر حامل المعرفة، بصرف النظر عن الشعور تجاه محتواها، خصوصاً مع إنهاء الديوان على مشاهدة تعرّف، من خلال طائر آخر:"يلتقط عشبة من هنا/ ويبني عشه هناك"، مجرد بُعدين تفصلهما في الظاهر سنتيمترات، وإن كانا في الحقيقة من مادة واحدة. "مثل غربان سود"أقل دواوين محمد صالح حجماً، وإذا استثنينا صفحات العناوين الداخلية والفواصل البيضاء نجده في اثنتي وعشرين صفحة، مع إمكان حذف بعض السطور، خلافاً للمعهود في شعرية محمد صالح المتميزة بالدقة والتكثيف، وهذا ما يدعو الى التساؤل عن مدى تأثير الحاجة النفسية للحضور في الواقع على اكتمال التجربة. محمد صالح شاعر مُقل، قياساً بحلمي سالم او فريد أبو سعدة، وجمال القصاص، وسواهم ممن بدأوا النشر معه أو بعده. ليس هنا مجال لإكمال القياس بتقويم كثرة إنتاج الآخرين، يكفي القول إن الإقلال أو الكثرة مظهران من خارج الكتابة عموما، لا علاقة للشعرية بهما، ولنتذكر مختارات شعراء كثر لما يستحق أن يبقى من أعمالهم. ربما تثير أربعة دواوين في مدى عشرين عاماً قلق الشاعر، فتحرضه على الدفع بإصدار جديد متجاهلاً اكتمال الشكل الذي أراده. ولا يعني ذلك عدم وضوح التجربة بالنسبة الى القارئ، أو شعوره بنقصها، إنما المعول على نجاحها في التواصل معه، وهذا ما ينجزه مجمل شعر محمد صالح، خصوصاً في ديوان"صيد الفراشات"، الذي يشتبك الديوان الأخير معه على أكثر من مستوى. يتشكّل"صيد الفراشات"من مجموعات نصية متماسكة الإيحاء، تبلغ أربع عشرة، وقد احتجبت الذات وراء مراقب صارم لا يظهر انفعالاته، مع تجريد الوقائع ومفردات السياق الشخصي النشط بالتذكر والتأمل، في إطار غني بالمفارقات، وأبرزها مفارقة حضور/غياب الموتى، والجثث التي تؤرق الأحياء بوجودها، أو ذهابها إلى العنوان الخطأ. وكما نلاحظ في"مثل غربان سود"يتوافر الموت في معاني الكلمات المألوفة، فتتجاوز اللغة كونها موضوعاً شخصياً ملغزاً. يتوصل شعر محمد صالح إلى دلالاته الثرية من دون مجاز، وهذا اختيار آخر ألزم نفسه به، لأن"الخروج من المجاز هو الوجه الآخر للخروج على العروض"، كما يقول في أحد حواراته. ليس هناك عنف مع اللغة، ولا مفردات غير متوقعة أو تركيبات يتحاشاها كاتب النثر، بل إنتاج للدهشة عبر أكثر طرق التعبير طبيعية. ومن هذا الجانب يبدو شعره شبيهاً به، أو للدقة بما يبدو عليه، هادئاً ممعناً في الغياب/ الحضور، كعصفور طاعن في السن، وشعريته مطمئنة تنساب في طريق مزدحم: " تعيد رسم المشهد/ وعلى الجانبين/ في مدى الضوء/ تلوح صحراء/ لا يستطيع تخمين حدودها".