} بعد حلقة أولى تناولت موقف الشاعرة نازك الملائكة من الرجل ونظرتها اليه، هنا حلقة ثانية وأخيرة تتناول موقف الشاعرتين فدوى طوقان وسعاد الصباح من الرجل. صوت فدوى طوقان إذا انتقلنا الى فدوى طوقان، نتلمس في شعرها خصوصية صورة الرجل، بتجلياتها المتعددة، وجدنا ملامح فارقة تميزها عن نازك، فهي تغدق على رجلها كثيراً من الشعرية والالفة، ويبدو أن ظل أخيها ابراهيم لم يكد يفارقها في حلمها الطويل بالرجل الشاعر، وأن لمسة من توهج الفن كانت تكمن دائماً خلف ظله، وإن كانت تقع على بعض الخواص التي تبرز حسها الأنثوي بالأمومة في تصور الرجل طفلاً أبدياً. تقول مثلاً في قصيدة ذكريات في ديوان "وجدتها": "أنا وحنيني البعيد إليك/ ورائحة الليل والذكريات/ وأنشودة عبر موج الأثير/ تبارك سحر الهوى والحياة/ وغيبوبة وانتقال بعيد/ وراء القفاير/ وعبر الصحارى/ وكان اللقاء الغريب السعيد/ طوانا هناك على الشط ليل/ نديّ الغلائل، شف مضيء/ وأنت بجنبي طفلي الحبيب.../ وشيء بصدري كحس الأمومة/ تلمستها وصفوت عليها/ بروحي الرؤوم ونفسي الرحيمة". ومع أن صورة الحبيب الطفل ليست غريبة في الشعر العربي الرومانطيقي، فقد سبق إليها ناجي في "أطلاله" الشهيرة، حيث فجر دراما المفارقة بين طفولة الشاعر تندي عينيه بالدموع ورجولة الكبرياء الطعين، فإن فدوى تكتفي بنسج غلالة شفيفة على عواطفها المتأججة، مبرزة حس الأمومة الغالب عليها في عفوية متدفقة، حيث يصير رجلها طفلاً بمقدار ما تحتاج هي الى أن تكون أماً. غير أن صورة أخرى لا تلبث أن تتراءى في قصائد فدوى طوقان، يبدو فيها الرجل وقد أصبح سجّاناً مهما كان محباً، وجلاّداً لا يختلف كثيراً عن ضحيته، فهو صوت المجتمع وصانع قيوده. والطريف أن صوت القصيدة لا يرضى بغير هذه القيود، ولا يطيق الانفلات منها. هذا هو التناقض الغريب في وجدان المرأة الشرقية كما تجسده الشاعرة في قصيدة "القيود الغالية" إذ تقول: "أضيق، أضيق بأغلال حبي/ فأمضي وتمضي معي ثورتي/ أحاول تحطيم تلك القيود/ ويمضي خيالي/ فيخلق لي عنك قصة غدر/ كيما أبرر عنك انفصالي/ وأقصيك عني بعيداً بعيد/ لعلي أعانق حريتي/ وأقطع ما بيننا/ غير أني/ أحس إذا ما انفصلنا كأني/ لفظت وراء حدود الوجود.../ حبيبي بما بيننا من عهود/ بضحكة عينيك/ إذا أنا ضقت بأغلال حبي/ وثرت عليها وثرت عليك/ فلا تعطني أنت حريتي/ فقلبي قلب امرأة من الشرق/ يعشق حتى الفناء/ ويؤمن في حبه بالقيود". ويبدو أن مفهوم الانعتاق والتحرر لدى فدوى طوقان ارتبط بدائرة أوسع تشمل الوطن السليب، وتكتوي بنار مأساته الدامية، ما يجعل تمثيلها العلاقات الرابطة بين المرأة والرجل مفعماً بهذه النبرة المتسامحة القانعة السائدة في المجتمع الفلسطيني في الداخل على وجه الخصوص. بل إن صورة الرجل لديها تأخذ بعداً إنسانياً خاصاً، تلعب فيه الهوية دوراً حاسماً. فإحساسها بذاتها يجعلها تتوجس من الآخر الغريب مهما كان ودوداً محباً، حتى لتتمنى لو أن وضعها كان مختلفاً كي تبيح لنفسها ما هي محرومة منه، فتقول في قصيدة شجية بعنوان "الى صديق غريب": "صديقي الغريب/ لو أن طريقي إليك كأمس/ لو أن الأفاعي الهوالك ليست/ تعربد في كل درب/ وتحفر قبراً لأهلي وشعبي/ وتزرع موتاً وناراً/ لو أن الهزيمة لا تمطر الآن/ أرض بلادي/ حجارة خزي وعار/ ولو أن قلبي الذي تعرف/ كما كان بالأمس لا ترعفُ/ دماه على خنجر الانكسار/ ولو انني يا صديقي كأمس/ أدلُّ بقومي وداري وعزي/ لكنت الى جنبك الآن/ عند شواطئ حبك أرسي/ سفينة عمري/ لكنا كفرخي حمام...". ومع اننا لا نود أن نستحضر ما باحت به فدوى في سيرتها الذاتية - عبر رحلتها الجبلية الصعبة - كي نتمثل في ضوئه صور الرجال البريئة الشاحبة في حياتها المشحونة بالأسى واللوعة، مكتفين بما يتراءى في قصائدها من ظلال رهينة تتلون فيها الأطياف بما ينعكس على مرآة الذات، حيث تجسد الشاعرة أهواءها وهواجسها بأكثر مما تعنى بأوضاع الآخرين وملامحهم الفعلية، وحيث تبدو مسحوقة تحت وطأة الإحساس بالذل قبل اشتعال الثورات الفلسطينية المتتالية، وتحول الحجارة من مجرد أداة منكسرة إلى صخور مفتتة من السماء تضج بالعزيمة والصلابة والكبرياء. ومع ذلك فإننا نلاحظ في خطابها الشعري تلك النغمة المفضلة لدى الكثيرات من الأصوات الانثوية العربية، في إيثارها الحنو والرفق والتضحية بالذات إلى الدرجة التي تبرر الظلم وتستكين إليه. ويبدو أن محنة الرجل الفلسطيني خصوصاً فجرت في قلب رفيقته ينبوع الرحمة ومشاعر الأمومة، مما لم نعثر عليه عند نازك الملائكة التي تواجه قسوة الإنسان العراقي بمثلها في غيظ مكتوم. وإن كانت كلتاهما وفية لروح الجيل الماضي، وللطابع الوجداني الغالب على خطابه ورؤيته. جسارة سعاد الصباح لكننا إزاء شعر سعاد الصباح نواجه موقفاً مغايراً يتفرد به أبناء الجيل الحالي من الشواعر. فهن أقوى صوتاً، وأوضح لهجة وأكثر جسارة في التعبير عن رؤيتهن، وما كان مجرد إشارة خجولة عند الرائدات أصبح لديهن مطلباً أساسياً في العلاقة بالرجل، وربما كانت قصيدة "كن صديقي" انضج تعبير مباشر عن إلحاح الحاجات المعاصرة التي تلائم أجيال التحرير، في علاقات متكافئة خارج أسوار التقاليد الضاغطة. إنها تصنع صورة مباشرة للرجل الذي ترجوه، للنموذج الذي تفتقده، بما يتضمن ذلك من نقد موجع لتهافت الرجال، خصوصاً العرب، على طيوب الملذات الحسية، وعجزهم في كثير من الأحيان عن تصور مبسط لمستوى آخر من العلاقات الانسانية الرفيعة. لكن الدعوة في ذاتها لا تصنع شعراً جميلاً، بل الطريقة الفنية التي تتم بها في التشكيل والصياغة والإيقاع، تقول الشاعرة: "كن صديقي/ كن صديقي / كم جميل لو بقينا أصدقاء/ إن كل امرأة تحتاج أحياناً إلى كف صديق،/ وكلام طيب تسمعه.. وإلى خيمة دفء صنعت من كلمات،/ لا إلى عاصفة من قبلات/ فلماذا يا صديقي/ لست تهتم بأشيائي الصغيرة/ ولماذا لست تهتم بما يرضي النساء؟". سر الشجاعة التعبيرية في هذه الصياغة يكمن في توظيف تقنيات لغوية وتصويرية مبتكرة، أولها استخدام فعل الأمر، فعل الكينونة السحري ذي الطبيعة المقدسة، في خلق لون جديد من العلاقة الحميمة والنظيفة بين الرجل والمرأة، على مستوى من الألفة والثقة والتلاقي في ضوء النهار، من دون أن يفقد كل منهما خصوصيته. تكرار الفعل "كن" يصنع الخيط الأول في هذه العلاقة الجميلة. أما الوسيلة التعبيرية الثانية فهي الايحاء بالشرعية عن طريق التعميم، والارتكان إلى طبائع الاشياء. فصوت القصيدة لا يعبر عن نزوة شخصية، ولا عن هاجس فردي، ولكنه يعرف طبائع النساء والرجال، ويطمح إلى أن يتسامى بها. في ظل أعراف جديدة نبيلة، فهو يعبر عن حاجة "كل امرأة" إلى "كف" صديق، و"خيمة دفء"، من كلماته، هنا تستحضر كلمات الكف والخيمة صوراً حانية لنمط من العلاقات المتكافئة الطيبة، مشرفة في علنيتها، حارة في طبيعتها، مضادة للنموذج الشهواني الشائع في عواصف القبلات المحفوفة بأخطار الشرعية. إن صوت القصيدة وهو يرسم صورة الرجل المنشود يعدّل في الآن ذاته صورة الأنثى التقليدية. فحاجاتها أوسع دائرة وأنبل غاية من مجرد إشباع الجوع العاطفي والريّ الحسيّ. إن لديها عطشاً آخر أشد إنسانية ورفعة، يرضيها أن يهتم الرجل بها وهو ما تنمّ عنه في المقاطع الآتية: "كن صديقي/ كن صديقي/ إنني احتاج أحياناً لأن أمشي على العشب معك.../ وأنا احتاج أحياناً لأن أقرأ ديواناً من الشعر معك./ أنا - كامرأة - يسعدني أن اسمعك/ فلماذا - أيها الشرقي - تهتم بشكلي / ولماذا تبصر الكحل بعيني/ ولا تبصر عقلي؟/ إنني احتاج كالأرض إلى ماء الحوار/ فلماذا لا ترى في معصمي الا السوار/ ولماذا فيك شيء من بقايا شهريار؟". البحث عن الصحبة الخالصة، والرفقة العقلية والفكرية، يتجسد في أشكال شعرية واضحة وبديهية: المشي على العشب في أحضان الطبيعة، الإبحار المشترك في ذاكرة الشعر، مجرد سماع صوت الرجل المؤنس الرفيق. وهنا تترى التساؤلات الأولية التي ترسم صورة الرجل الشرقي النمطي، لا يعنى من المرأة إلا بجسدها، وزينتها، بينما هي تريد نموذجاً عصرياً آخر يتأمل ثقافتها، ويحترم عقلها، ويقيم معها حواراً ندّياً لا يقيده سور العادة ولا تتحكم فيه عقد الذكورة الموروثة منذ العصور القديمة. وإذا كان كل مقطع من هذه القصيدة التي نعتبرها أبرز نموذج لصورة الرجل المنشودة يمثل تداعياً متواصلاً مع ما قبله، وتنمية شيّقة للفكرة ذاتها في صور متعددة، تشهد بما للشعرية من أفانين ممتعة فإن المقطع الأخير يجمع شتات الدلالة المتناثرة، حيث يكثف الموقفين المتباينين، ويجسد المسافة الفاصلة بينهما، مبرزاً موقف المرأة من الرؤية التقليدية للرجل، وحاجتها الى تثويرها بالفعل. صورة رجل ونعود إلى صورة الرجل في هذا الخطاب لنجد شكلاً طريفاً منها يتراءى لدى سعاد الصباح. ففي مقابل تقاليد الشعر العربي التي رسمت صورة ضوئية للمرأة المعشوقة عندما تشف وتتحول إلى "طيف خيال" نرى شاعرتنا تصنع طيفاً للرجل بعد رحيله، تصور احتلاله لها وشوقاً للتحرر منه. تعبر الشاعرة عن ذلك بدهاء أنثوي شديد ومهارة فنية تنزلق بها إلى لون من النثرية وهي تقول: "إنني أحملك في داخلي/ كامرأة في شهرها التاسع./ فكيف أتخلص منك؟/ كيف أقطع حبل مشيمتي معك/ وأنت مشتبك ككرة الصوف/ بأحلامي ورغباتي وجهازي العصبي/ كيف أتركك على قارعة الطريق/ تحت الثلج والمطر والأعاصير/ وأنت أول طفل ولدته../ وآخر طفل سوف ألده؟". وإذا كان تشكيل الصورة الكلية لهذه الأمومة العاشقة المستغرقة في تماهيها وانفصالها عن ذات المحبوب يمتح من معين الذاكرة الأنثوية في مخاضها ومشيمتها وولادتها وكرة صوفها، بما لا يمكن أن يتراءى في مخيال رجل أو تنضح به ذاكرته الحيوية، فإن الشاعرة تمتلك شجاعة فائقة عندما تخاطب طيفها الذكوري صارخة بلسان كل أرملة تريد التحرر من طيف الزوج الجاثم على حياتها: "يا أيها المستأجر الأبدي لمشاعري/ أذهب إلى أي فندق تشاء../ وأنا سأدفع أجرة إقامتك/ ادخل إلى أي مقهى تختاره/ وأنا سأدفع لك ثمن قهوتك/ تزوج من أية امرأة تعجبك/ وأنا سأدفع لك المهر". وهكذا نجد تبايناً واضحاً بين صورة الرجل لدى هذين الجيلين من الشواعر العرب، فبينما تغرق قصائد الجيل الأول في ضباب الأحلام الرومانطيقية والحزن اللاذع وتنقسم على ذاتها، وهي ترى الآخر في مرآتها وترصده شاعراً وطفلاً وعاشقاً وسجاناً وغريباً في روحه وجسده، تطل عليه أشعار الجيل الثاني بزخمها الوجودي ومواضعاتها العصرية ومنطلقها الذي استوعب تجربة التاريخ وتمرس بمتطلبات قائمة الحقوق التي ينبغي توافرها للإنسان والمرأة والطفل في منطق تشريعي وعالمي جديد، لا تتورع عن البوح بما يمكن أن يجرح سكينته ويخدش سلطته البطركية المستقرة. فنزعة التحرير تمتد من المرأة إلى الوطن، من الجسد إلى الروح، ونموذج الرجل الذي تمثله وتنشده وتصنعه هذه القصائد، عليه أن يندغم في تيار الحرية ويتآلف مع مقتضاياتها اللغوية والجمالية.