ينتمي الشاعر الأندلسي بيثنتي الكسندري «1898-1984» إلى ما يعرف بجيل «27» في الشعر الإسباني الذي كان من أبرز أسمائه: لوركا، وخورخي غيبين، ورفائيل البرتي، وبيدرو ساليناس وسواهم. لكنّ شهرته خارج إسبانيا ظلت محدودة، إلى أن منح جائزة نوبل عام 1977، وهو على أبواب الثمانين من عمره. وكان الوحيد من شعراء ذلك الجيل الذي لم يغادر إسبانيا خلال الحرب الأهلية، فبقي غريباً في بلاده بعد مصرع لوركا ومغادرة بقية زملائه إلى المنافي هرباً من الحرب الأهلية، والحكم العسكري للجنرال فرانكو، بيد أنَّ تلك الإقامة القسرية المحفوفة بالأخطار ألهمته وعياً آخر للمنفى، فاستشعر المنفى الذاتي الداخلي، بخاصة وهو يعيش تجربة ذاتية قلقة بين مرضه المبكِّر وهويته المثليَّة التي حرص على كتمانها. كل هذا، إضافة إلى مناهضته للديكتاتورية من الداخل، منحه مادة شعورية وذهنية عالية الحساسية انعكست على شعره، بخاصة وهو ينتقل من تجارب الشعر الصافي، وتأثيرات السوريالية الفرنسية، التي تجلت في ديوانه «عاطفة الأرض» ثمَّ النزوع نحو نوع من الرومنطيقية الجديدة والكونية في ديوانيه «الدمار أو الحب» و«ظلال الفردوس» فالواقعية في «المجال المتسع» ليصل إلى مرحلة مهمة من «الاكتمال» الذاتي في قصيدته. ديوانه «قصائد الاكتمال» والذي بلغ فيه ذروة تأملية خاصة في تجربته صدر أخيراً عن دار «أزمنة - عمان» بترجمة حسين عبد الزهرة مجيد. ولكن ما الذي يعنيه الاكتمال هنا للشاعر؟ فنياً، هو الخلاصة لتجاربه الطويلة وانعطافاتها الفنية الحادة على مدى سبعة عقود وصهرها في قصيدة موجزة لكنها مكتنزة بمحتوى عميق. ومضمونياً، يعبر من خلال الاكتمال عن قرب أوان الانصراف من العالم، ويرفع يداً متعبة بتلويحة وداع لا ينقصها الحنان لأن الحياة كلها فترة وجيزة، وإن كانت حميمة، فهي تمر كما مرَّتْ مرحلة المراهقة التي وصفَ مرورها في إحدى قصائده المبكرة: «بلطف جئت وغادرت». هذا الديوان (صدر عام 1968) كتبه الكسندري وهو في السبعين من عمره، ولنا أن نتوقع المضمون المهيمن على أجواء الديوان. قصائد على حافة الموت المتربص على مقربة، وأحياناً تأتي من داخل الموت، وما بعده، وهنا خصوصيتها اللافتة. أحلام ما بعد الزوال يظهر الموت من أولى قصائد الديوان «كلمات الشاعر». موت مظهره الأول لغوي، قبل أن يكتمل، ويتخذ معنى الاختتام، لكنها النهاية التي لا تنتهي. فمن ذلك الغياب تشعُّ تجربة الكسندري في مخاتلة الأبدية بتصعيد حضور اللحظة، وهكذا يستعير وقفة موسى على الجبل: «ولأن ثمّة غروباً/ فإنه ينظر إلى الخلف: الفجر./ إلى الأمام: المزيد من الظلال. والأضواءُ قادمة./ ويلوح بذراعيه وينادي للحياة». لا شكّ أن الموت مأزق إنساني جماعي، لكنّ المأزق الفردي للشاعر يتجلى في فكرة الخلود لذلك فإن كل يوم يمرُّ في الحياة هو مختصر لتنازع الخلود والزوال، ولهذا يقاربه من ثنائية النسيان والذاكرة، النسيان أولاً: «أن نموت هو أن ننسى الكلمات، الينابيع، الزجاج، الغيوم/أن نمتثل لأمرٍ/ خفي طوال النهار لكنه/ أكيدٌ ليلاً، في الفراغ الشاسع». ثمَّ الذاكرة أو الوجه الآخر للنسيان، إذ يلوح الموت ما أن تنقطع الصلة مع تفاصيل ما عاشه الفرد من لحظات حميمة في التاريخ الشخصي، وتتلاشى من الذاكرة، فيتحقق الموت المجازي قبل الموت المادي: «ذكرى المرء تعيشُ في قبلاته./ لكنّ الذكرى الميتة لن تكون حقيقيةً/ أن نحصي حياة المرء بالقبلات التي منحها/ ليس بالأمر السعيد/ لكن الأكثر حُزناً أن نمنحَها ولا نتذكَّر». غير أن نبرة الشعر ليست نابية ولا هي هذيان احتضار، إنما تبقى أنيقة ومتزنة وتأملية حتى وهي تعبِّر عن لحظة انطفاء الشعلة الأخيرة: «لم يبقَ على الموتِ غيرُ غروبٍ واحدٍ/شظفة ظلٍّ في الأفق/سرب من أيام الشباب، أصوات، آمال./ وما يأتي بعدها، الأرضُ: الحدُّ/ ما يراهُ الآخرون» «لكن إذا كان ألمُ الحياة رغوةً يُمكنُ استبدالُها/ مرهوناً بتجربة الموت يوماً بعد يوم/ فكلمةٌ واحدةٌ لا تفي لتكريمِ ذكراه/ ما دامَ الموتُ يضرب علينا حصاراً كالبرق». لا تتعلّق ظلال السوريالية التي تلتمع في شعر الكسندري بمأزق المعنى أو فانتازيا صُورهِ الشعرية، إنها في التركيز على الحلم، ومن هنا، تظهر إلى جانبها تأثيرات فرويدية لناحية اهتمامه بعالم الأحلام، والنزعة لتحليل المشاعر الخفية واستكشاف الباطن، لكنّ حلم صاحب «عالم وحيد» هذه المرة ليس في منامٍ، إنه في ما يشبه الغيبوبة، بل هو أقرب إلى حلم الميت، فكثيراً ما يستعير صورته وهو في العالم الآخر ليتحدث عن حياته، عن ذكرياته التي تبدو شاحبة، عن حبه ورغباته، عن شبابه. والواقع إن الشباب يحضر إلى جانب الشيخوخة: «ليس الرجل العجوز قناعاً، بل عريٌ آخر وقحٌ/ يصعد مع البشرة/ بلا مروءة. توقف: ليس وجهاً ما نرى» و: «من نظر ومن لم ير./ من أحبّ وحده./ الشبابُ يخفق بين أيديهم./ مثل قربان لشجرة ميتة». الخلود في قبلة إضافة إلى مفردة الموت التي لا تخلو منه قصيدة في الديوان، ثمة القُبلة أيضاً، أشبه بقرين أبديٍّ. بل إنهما مفردتان مركزيتان في عموم تجربته الشعرية، إذ سعى منذ وقت مبكر لجعلهما توحيداً لثنائية الموت العنيف، وحسية الجسد فجمعها في عنوان أحد دواوينه: «سيوف كما الشفاه». ويقدمها هنا تاريخاً روحياً آخر للحواس: «لكنَّ الدنيا تمضي/ ليست بين شفتين: القُبلةُ ختامٌ./ لكن الدنيا تدور/ حرَّةً، أجل، إنها كالقبلة/ حتى وإنْ ماتتْ وتلاشتْ» وإزاء حتمية الزوال تصبح القُبلة هي الحياة الأخرى، الصلة الجسدية الوحيدة مع الخلود، ففي قصيدة بعنوان لافت «قبلة ما بعد الوفاة» نعرف كيف تنشط الحواس في ظلام الفناء: «ما زالتْ شفتايَ على شفتيك/ أتنفَّسُكِ. إما حلمٌ حيٌّ أو أننا أحياء/ الحياة التي نحسُّها في القبلة/التي تحيا، وحدَها. بدوننا، تشرق/نحنُ ظلُّها. لأنها جسدُنا بعدَ أنْ نموت». الحب في شعر الكسندري حب غامض. بمعنى إنه كياني وليس نفعيَّاً موجهاً أو محدداً، إنه المتاهة في صور شتَّى من التجليات والإشراقات وليسَ غزلاً صريحاً، وعلى هذا النحو يجعل من العواطف فلسفةً ومن الرغبات غيبيات بأقلِّ كشف ممكن. هذا النوع من الحب هو المعنى الذي يتشبَّث به في انحسار أي معنى من حوله، وربَّما كان الاستشعار المبكِّر بهشاشة الجسد، هو ما منح الروح تلك المركزيَّة في شعره، وأضفى على طاقة الفكر نشاطاً ومرونة، فالجسد لديه يكاد يُختزل بالشفاه، والجنس بقُبلة. ومن البديهي في حالة كهذه أنَّ نقرأ لديه قصيدة الوحدة، لا العزلة، ذلك أن عالمه الفردي مكتظٌّ ومتصلٌ بكلّ ما حوله، وهنا مكمن فرادته، فهو بقدر تخلِّيه عن التواصل مع الآخرين، أو على الأقل الحذر الظاهر في تجربته الشعرية، والزهد بمزيد من ازدحام الذكريات، فإنه وعلى امتداد قصائد الديوان يتطلع إلى الاندماج مع قوى كونية، مبتدئاً من حالة من الاتحاد مع ظلال العالم من حوله، ليجعل من المونولوج كرنفالاً، ومن الوجود كثافة روحية يستغرق في تأملها. وهو بهذا المعنى شاعر ميتافيزيقي، لكن بلغة يومية حيَّة، تجسِّد المشاعر والصور العميقة بكلمات موجزة، وإيمائية شفَّافة: «لكِ عينانِ سوداوان/ فيهما بريقٌ يُنذرُ بالظلام./آهٍ، يا لصدق ليلتكِ،/يا لشكِّي الخادع./ أرى ضوءاً في الأعماق، وأؤمنُ وحدي»...«لذا تنفستُ الأرضَ وأنا تحتَ الأرضِ/على جسدك تنفستُ الضوء./ولدتُ في جوفك: ولهذا متُّ». المعمار الفني لقصيدة الكسندري، رغم قصرها، يبدو على شيء من التعقيد المتقن، فقصيدة هذا الشاعر ذات جمل قصيرة ومشعَّة، وشكلياً تبدو جملته هذه تامة ومكتفية بذاتها، غير أنها في الاشتغال الفني الخاص والخفي للشاعر لا تقوم بذاتها، وإنما عبر خلق مفاجأة بعلاقتها مع الجملة التي تليها، في تلك الانعطافة التي تتحرك عبر ثلاث جملٍ أو أكثر. بل هي تحكم القصيدة من مستهلها إلى خاتمتها أحياناً. وهذا ما يرجِّح سمة المعمار المعقَّد والمضمر في قصيدته، على رغم القصر الظاهر في حجمها البصري. فما من وعورة في لغته، وقاموسه لا ينقصه الصفاء ومفرداته قريبة وبسيطة. وهي على الغالب محدودة وليس متسعة أو مترهَّلة، ومن هنا فهي ليست ذات صعوبة متكدَّرة، بل تتجسَّد في السحر ذي الظلال المتعددة والأطياف المتداخلة الذي ينبعث من خلال صفاء عبارته: «لكنّ الميّت يعيشُ، وما زلتِ موجودةً/ الشيء نفسه؟/ ليس الوجه مرآة وإن قلّدت/ صورتك. ربما صوتك/ صورةُ الصوت في المرآة». «قصائد الاكتمال» مشهد مفتوح يملأهُ الشاعر وهو يكشف حساباً مع حياته كما يقول الكسندري في أحد عناوين قصائده، لكنه كشف برضا تامٍ بالخسارة، مهما كانت فداحتها، وبأناقة عالية في مواجهة المصير، على رغم شراسة القسوة في خاتمة ذلك المشهد.