اردت في هذا الفيلم ان يكون العنف واقعياً، ضارياً. بحثت عن الضراوة ونوع العنف اللذين نراهما في معارك الشارع حقاً: عنف اخرق، لا كوريغرافيا فيه، عنف يبحث في كل لحظة عن فاعليته ، ما اردته هو النقيض المباشر لمشاهد العنف المفعمة بالابعاد الجمالية والتي غالباً ما نراها على الشاشة". لو كان سام بكنباه، مخرج العنف الاكبر في سينما الستينات والسبعينات الاميركية، قائل هذا الكلام، لبدا طبيعياً. اما ان يكون قائله الكندي دافيد كروننبرغ فأمر يثير الدهشة. ليس لأن افلام كروننبرغ السابقة كانت بعيدة من العنف او خالية منه. بل على العكس لأن العنف في افلامه، اذا كان شكل دائماً موضوعاً اثيراً لديه، فانما كان على شكل عنف داخلي، عقلاني. اما هنا في فيلمه الجديد الذي يتحدث عنه على هذا النحو"تاريخ من العنف"فان العنف خارجي جسدي في عمل بالكاد يمكن احداً ان يخمن انه لكروننبرغ."تاريخ من العنف"هو اقرب الى ان يكون فيلم رعاة بقر، من دون قطيع او احصنة. فيلم غرب اميركي من دون بحث عن الذهب او مجازر للهنود الحمر. لعبة التحولات في هذا المعنى ينتمي"تاريخ من العنف"الى سلسلة افلام التبدلات التي عرضت هذا العام في دورة مهرجان"كان"، في لعبة سميناها سابقاً لعبة الكراسي الموسيقية، حيث بدا كل مخرج ، مؤلف وكأنه يستخدم اسلوب زميله وهكذا. غير ان هذا التأكيد اذ ينطبق على فيلم كروننبرغ، فانه انما ينطبق عليه برانياً فقط. اما في عمقه فاننا لن نعدم ان نجد الموضوعات نفسها التي شغلت دائماً افكاره: من لعبة التحولات، الى الجنس كفعل عنف بدوره، الى الماضي الذي لا ينسانا وان كنا نسيناه، الى الخلية العائلية كمكان للتعبير عن التناقضات، وصولاً الى الجسد نفسه، في عودة اليه، كمكان يتلقى كل انواع التأثيرات. ومن يتابع سينما كروننبرغ ، على الاقل منذ"الذبابة"وحتى"سبايدر"مروراً ب"اكزستنز"- يمكنه ان يتذكر كيف يستخدم كروننبرغ الجسد في امساخه، كمسرح للحدث. غير ان هذا ليس كل شيء في"تاريخ من العنف"، ذلك ان كروننبرغ اضاف هنا ما عنده، الى بعض ما عند انواع معينة من السينما الاميركية: حروب العصابات، النميمة، المدينة الهادئة البعيدة عن الحضارة المدنية والتي تتحول الى ميدان للعنف، ناهيك بالحدود المنطقية لفعل التوبة عن ماضٍ ما. وفي هذا على الاقل، يبدو كروننبرغ هنا اقرب الى جون فورد، منه الى عنف بكنباه المطلق. ومع هذا، نعود الى الاساس: انه فيلم لكروننبرغ في عمق اعماقه، ينضوى بعد صدمة الوهلة الاولى في خطه السينمائي. فعمّ يحدثنا هذا الفيلم؟ عن رجل هادئ ورب عائلة، سوف نكتشف في نهاية الامر، انه كان ذات لحظة من حياته قد قرر ان ينسى ماضيه المريب والعنيف، ليسلك درباً آخر في حياته. وهذا الدرب قاده الى مدينة صغيرة افتتح لنفسه فيها مطعماً، واسس عائلة وبيتاً، وصار في نعيم مع زوجة حسناء محبة. يتلقفه الاعلام ولكن يحدث ذات يوم ان"يغزو"المدينة لصان عنيفان يقترفان سرقات وجرائم، حتى يصل الامر بهما الى مطعم صاحبنا توم ستال فيغو مورتنسن ويتحرشان بالمطعم وزبائنه، بشكل يبدو ان فيه وقد سيطرا على الامر تماماً، خصوصاً ان توم نفسه، يتردد في التصدي لهما، بشكل يخيل الينا معه انه حقاً جبان مسالم. لكن توم سيتحرك، بشجاعة وقوة، ويقضي على اللصين امام مرأى الحاضرين. وبسرعة سيتلقفه الاعلام الاميركي في طول البلاد وعرضها مكرساً اياه بطلاً اميركياً حقيقياً. حتى هنا يبدو كل شيء طبيعياً ربما في ذلك كمّ العنف الذي لجأ اليه توم حين قضى على اللصين. وهو عنف يتناقض تماماً مع ما كنا نعهده عنه، واحياناً في مواقف كان يضحي فيها بكرامته وكرامة عائلته على مذبح نزعاته السلمية. وسوف نكتشف بعد قليل سر هذا. اذ في مكان ما ثمة عصابة ورجالها وزعيمها... وهذا الزعيم فيما كان يشاهد الاحتفال بالبطل الاميركي على الشاشة الصغيرة، يخيل اليه اولاً، ثم يتأكد بعد ذلك، ان هذا البطل الجديد المفاجئ، ليس سوى واحد من افراد عصابته السابقين. بل واحد من اعنفهم، وسبق له ان تسبب في الاذى للعصابة. وهكذا، يصل رجال الزعيم الى المدينة ويبدأون بمطاردة توم الذي ينفي تماماً ان يكون هو الشخص نفسه الذي يعتقدون. غير ان نفيه لا يفيد لأنه هو، في حقيقة الامر، وكما سنكتشف نحن ايضاً لاحقاً، جوي، عضو العصابة السابق الذي غدر بزعيمها موصلاً اياه الى ما يقرب من العمى. ومنذ تلك اللحظة لا يعود الفيلم بحثاً عن حقيقة توم، بل صراعاً بين توم والعصابة. صراع حياة او موت... لكن الاهم من هذا، صراع آخر ينشب، بشكل اقل عنفاً من الناحية الجسدية، انما اكثر عنفاً من الناحية الاخلاقية والجوانية، بين توم واسرته الصغيرة، ولا سيما زوجته المحامية ادى ستال ماريا بيلو التي ابداً ما كان في امكانها ان تصدق ان توم يمكن ان يكون له ذلك الماضي. بل ان الصراع بين توم وزوجته، سوف يتخذ ذات لحظة ابعاداً مزدوجة: جوانية وبرانية، اخلاقية وجسدية، حين يتجابهان غداة تأكدها من هويته الحقيقية، وتتحول المجابهة بينهما الى مزيج من العنف الجسدي والجنسي، في مشهد لعله وحده يكفي لتبرير عنوان الفيلم. ذلك ان توم يستعيد ذلك المشهد، وعلى ضوء رغبته في زوجته على درج البيت الداخلي، كل تاريخه العنيف، لتتحول المجابهة - الحب، الى فعل تفريغ لكل العنف القديم... الحلم الاميركي من جديد طبعاً لن ينتهي الفيلم -وعلى غير العادة في سينما دافيد كروننبرغ ، الا على خير تستعيد فيه الاسرة حياتها ويهزم فيه الشر. ولكن هل حقاً سيعود، كل شيء الى ما كان عليه؟ لقد ترك المخرج النهاية مفتوحة الى حد ما، حتى وان كان المشهد الختامي يشهد عودة توم الى عائلته وانضمامه اليها في وجبة العشاء، بعدما قضى على العصابة وكأنه، هذه المرة وعن حق، الغى ماضيه. وواضح هنا ان ما يقوله لنا الفيلم بسيط للغاية وواضح للغاية: لا يكفي تناسي الماضي لكي يختفي. يتعين مجابهته بوضوح، فإما ان يقضي علينا او نقضي عليه. ومع هذا، على رغم وضوح الرسالة، من المؤكد ان دافيد كروننبرغ لم يشأ أصلاً ان يحول فيلمه الى موعظة او الى درس. كل ما في الامر انه عرض موضوعه امامنا، وعرضه بشكل قوي ومبتكر تاركاً لنا استخلاص النتائج. فقط، كان اهتمامه منصباً، منذ البداية على ان يرينا كيف ان فصل العنف القاتل الاولي الذي دار داخل المطعم، سيكون له أثر عنيف على كل الذين يحيطون بعالمه. ولكنه سيكون اكثر من هذا ذا اثر خاص، وجواني على توم نفسه. والى هذا يمكننا ان نضيف فكرة اساسية من افكار الفيلم ، اساسية على رغم انها تبدو بالنسبة الى البعض ثانوية -، وهي فكرة عبر عنها بطل الفيلم فيغو مورتنسن، حين قال اذ سئل عن الفيلم وعن دوره فيه:"في اعتقادي ان هذا الفيلم لا يتحدث فقط عن العنف او عن الارتباك، او حتى عن مسألة الهوية داخل عائلته ما او مجتمع ما، بل انه يتحدث كذلك عن عبارة الشهرة. فتوم ستال يجد نفسه وسط موقف مهدد، يتصرف حياله بشكل غريزي... ويكون التصرف عنيفاً. وكان يمكن للامور ان تقف عند هذا الحد. ولكن ما يحدث هنا هو ان توم يهنّأ على ما فعل.. وبخاصة على العنف الذي ابداه وراح الاعلام يمجده... ما اضفى عليه شهرة، كانت هي، لا العنف، السبب لما سوف يحصل بعد ذلك...". واضح من هذا الكلام لبطل الفيلم، ان"تاريخ من العنف"سيبدو في نهاية الامر مثل دمية روسية، يجد كل واحد في داخلها دمية اخرى تناسب افكاره وتوقعاته. ويؤكد هذا اد هاريس، احد ابطال الفيلم اذ يتساءل بدوره في معرض حديثه عنه:"لماذا ترانا نفتتن دائماً بالجانب المظلم من الامور؟". قبل ان يجيب:"ربما لأن تطهير انفسنا يبدأ عادة مع رصدنا للكيفية التي بها يتم الكشف عن الجانب المظلم لشخص ما، قبل ان نراه وهو موزع بين الشر والخير الموجودين اصلاً، في داخله". اما بالنسبة الى كروننبرغ، فان"تاريخ من العنف"يمثل حلقة جديدة في سلسلة افلامه الاستثنائية، ولكن ايضاً رؤية خاصة يعبر بها عن نظرته الى اميركا والحلم الاميركي... ويبدو هذا واضحاً في عالم الفيلم كله، ولكن ايضاً، وبخاصة، من خلال المشهد الذي يتجابه فيه توم/جوي مع زعيم العصابة قبل قضائه عليه، اذ ان هذا المشهد شكل واحدة من اقوى المرافعات التي شهدتها السينما خلال السنوات الاخيرة حول الحلم الاميركي وانهياره.