في واحد من آخر مشاهد فيلم "زهور محطمة" لجيم جارموش يقول بطل الفيلم دون جونستون بيل موراي للشاب الذي يلتقيه: "الماضي مضى... والمستقبل لم يأت بعد. كل ما لدينا في الحقيقة، هو الحاضر". فإذا كان صحيحاً ان المستقبل لم يأت بعد، والحاضر هو ما لدينا... هل صحيح في المقابل ان الماضي مضى حقاً؟ فيلم "زهور محطمة" هو آخر إبداعات واحد من اعمق مخرجي التيار المستقل وأفضلهم في السينما الأميركية. والفيلم يشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان"، وحظوظ فوزه بجائزة اساس- إن لم يكن بالجائزة الأساسية - كبيرة جداً حتى الآن، اضافة الى حظوظ فوز ممثله الرئيسي بيل موراي، بجائزة افضل ممثل. اما السؤال الذي نطرحه هنا فإن الفيلم بالكاد يحاول ان يجيب عنه مباشرة. ومع هذا اذا كان الماضي قد مضى، لماذا كل هذا التشوق لدى دون جونستون، للقاء الابن الذي طلع له من ماضيه؟ ولماذا تراه قام بالرحلة في اعماق هذا الماضي لكي يعرف من هي - من بين عشيقاته السابقات - ام الولد، التي كتبت له رسالة غفلة تخبره فيها بأن له ابناً وأن هذا الابن يبحث عنه الآن؟ دون جونستون قبل وصول الرسالة كان يعيش حياته هادئاً وسط مشاغله الصغيرة ومشاكله المزعجة. لكنه كان قد "نسي" الماضي تماماً. كان خيل إليه انه يعيش، كما سيقول لاحقاً، لحاضره. ولكن في لحظة ما، عبر رسالة مختصرة قفز كل ماضيه امام عينيه ليقلب حاضره ومستقبله ايضاً. او هذا ما توحي إلينا به على الأقل تلك النظرة التي ينتهي الفيلم عليها. عودته لا العودة إليه والحقيقة ان بزوغ الماضي في "زهور محطمة" لم يكن بالأمر السيئ تماماً بالنسبة الى دون جونستون. كل ما في الأمر انه نقله الى الماضي. لكن الأمور لم تجر على هذا النحو، وعلى مثل هذه البساطة في اربعة افلام اخرى من الأفلام المشاركة، خصوصاً في "المسابقة الرسمية" في "كان"... وكلها يجمع بينها قاسمان مشتركان رئيسيان باستثناء فيلم واحد هو "الملك" الذي لا يجمعه هنا سوى قاسم مشترك واحد يتعلق بعودة الماضي: اولاً انها من اخراج اربعة من كبار مخرجي ايامنا هذه، ومن المحسوبين ضمن "ابناء كان": دافيد كروننبرغ، جيم جارموش، آتوم اغويان، ومايكل هانكه، فيما يحمل "الملك" توقيع جيمس مارش الذي يشارك هنا للمرة الأولى بفيلم اول. اما القاسم المشترك الثاني فهو، كما اشرنا عودة الماضي. ولا نتحدث بالطبع عن العودة الى الماضي. فهذه العودة الأخيرة حاضرة في عدد كبير من الأفلام، حيث يطل السينمائي على ماضيه الشخصي او على ماضي مجتمعه او بلاده، كما يفعل لارس فون تراير في "ماندرلاي" او الصيني وانغ خوايشياو في تحفته الجديدة "احلام شانغهاي" على سبيل المثال. نتحدث هنا عن الماضي الذي يعود ليغير... ليدمر... ليدفع المرء الى مواجهة ذاته، بعد ان يكون قد خيل إليه انه نسي كل شيء. هذه الأفلام الخمسة، التي تشكل ظاهرة استثنائية اساسية في عروض هذا العام لمهرجان "كان" تقول لنا ان كل واحد منا له في حياته سر، او أمر خفي يعيش اليوم مرتاحاً وقد رماه جانباً وأقفل عليه باب الذكريات. ذنب بعيد في "حيث تكمن الحقيقة" هناك فتاة قتلت قبل احداث الفيلم بخمسة عشر عاماً... وأقفلت الشرطة التحقيق مستنتجة ان الفتاة انتحرت. غير ان آتوم أغويان الكندي من اصل ارمني يوقظ الجريمة من سباتها، دافعاً كاتبة شابة كانت ذات يوم في طفولتها ضيفة برنامج خيري تلفزيوني يقدمه فكاهيان مشهوران الى التحقق في ما جرى. وها هي اذ تستعيد الماضي وتطل عليه، تدفع هذا الماضي الى القفز امام من كانا قد نسياه: الكوميديان نفسيهما. وتكون النتيجة ان واحداً منهما ينتحر اذ يشعر بأن الماضي عاد يطارده ويطارد عقدة ذنب كانت كامنة لديه. عقدة ذنب اخرى تكمن في خلفية الحياة الهادئة التي يعيشها الآن نجم برامج تلفزيونية ادبية يدعى جورج دانيال اوتاي في فيلم "خفي" للنمسوي مايكل هاينكه... لكن هذه العقدة، وبالتالي، الماضي نفسه، سيقفزان امام عيني جورج ليقلبا حياته. ولئن كان بزوغ الماضي تم في فيلم اغويان، عبر فتاة تريد وضع كتاب، فإنها هنا في فيلم هانكه تتم من طريق شرائط الفيديو التي تصل الى جورج لتقول له انه مراقب ومهدد، دافعة اياه الى التحري عن ماضيه: اذ يفعل ويكتشف ذنبه، لقد كان طفلاً حين تسبب في طرد فتى عربي تبناه ابواه... لكنه هو، جورج، غار من وجوده في البيت فوشى به. طبعاً ينتهي الفيلم من دون ان نعرف ما اذا كان للتهديد الحالي علاقة بذلك الذنب البعيد. وينتهي الفيلم بانتحار الصبي العربي، وقد اضحى اليوم رجلاً يعمل حارساً في المكان الذي يسكن فيه جورج... غير ان المهم هو ان الشرائط ايقظت ماضي جورج من سباته، وحركت عقدة ذنبه التي كان يخيل إليه انها ماتت، مع الماضي، الى الأبد. انتقام لأم ظلمت ما يحدث للقسيس المتزمت في فيلم "الملك" سيكون اسوأ كثيراً... وإن كان يشبه من ناحية ما، ما حدث لدون جونستون في "زهور محطمة". فهذا القسيس يعيش هادئاً، الآن، في بلدة ريفية تكساسية صغيرة، يهيمن فيها على كنيسة شديدة التزمت وعلى مدرسة اصولية وينشر مبادئ الأخلاق بين رعيته. ولكن ذات يوم، ومن حيث لا يتوقع يعود إليه، حتى هو، ماض كان يخيل إليه انه ذهب أدراج الرياح: يسرح شاب وسيم لطيف من البحرية التي امضى فيها ثلاث سنوات... الشاب يدعى ألفيس ومن هنا اسم الفيلم "الملك"، من دون ان يعني هذا شيئاً معيناً وهو من فوره بعد التسريح يقصد بلدة القسيس ليلتقيه مخبراً إياه انه ابنه. وأن من أنجبته امرأة كانت عشيقة للقسيس قبل ان يكتشف يسوع ويتحول قسيساً. الرد الوحيد الذي بادر إليه رجل الدين إزاء الماضي يطلع امامه على هذه الشاكلة ويكاد يهدد حياته العائلية الراهنة ووضعيته الكنسية، هو ان يطرد الشاب غير مبال بما جنى في ماضيه. لكن ألفيس لن يرضى بذلك طبعاً. سيرتب انتقامه لأمه المهجورة بعد ان عُبث بها. سيدمر القسيس وعائلته في ثأر متشعب يؤكد لرجل الدين هذا، ان كينونته الجديدة لا يمكنها ابداً ان تحميه من دفع ثمن ذلك الجرم البعيد الذي اقترفه. من يدفع الثمن غير بعيد من هذه الحال، حال توم ستال، الشخصية المحورية في فيلم دافيد كروننبرغ الجديد، والمشارك بدوره في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" لهذا العام. الفيلم يحمل عنواناً ذا دلالة مباشرة "تاريخ من العنف". غير انه لا يقدم لنا - كما قد يُفهم من العنوان - دراسة تاريخية للعنف. بل بالتحديد، يقدم حكاية هي الأخرى تتمحور حول ماض يبزغ فجأة في حياة رب عائلة هادئ، مسالم يعيش حياته اليومية في بلدة اميركية نائية. وكان يمكن توم ستال ان يبقى على هذه الحال الى الأبد لولا ظهور صورته على شاشة التلفزة بصفته "بطلاً اميركياً" تمكن من قتل رجلي عصابة هاجما مطعمه بعد ان ارتكبا جرائم عدة. فإذا ظهرت صورة توم، استيقظ لديه، هو الآخر، ماض كان خيل إليه انه صار في مهب النسيان. ولكن ابداً! اين تهرب من ماضيك. وماضي توم، الذي لن نتيقن نحن المتفرجين منه إلا بعد حين، يقول لنا انه كان عضواً في عصابات المافيا، مسؤولاً عن جرائم عدة وموبقات... قرر بعدها ان يغير اسمه وحياته. فجاء الى تلك البلدة ليتزوج ويكوّن عائلة صغيرة. رجل محترم آت من اللامكان. ولكن ها هو هذا اللامكان بالتحديد يطارده على شكل رجال عصابة ما إن رأوا صورته على الشاشة حتى اندفعوا الى البلدة. بيد ان المشكلة لن تكمن، هنا، في المعارك العنيفة التي يضطر الى خوضها وهو ينكر قطعياً ان يكون له اية علاقة برجل الماضي الذي كانه. المشكلة تكمن في علاقته الآن مع زوجته وعائلته اذ اكتشفا ان هذا الرجل المثالي الوديع المحب والكريم، ليس في حقيقته سوى مجرم سابق! حسناً... ستنتهي الأمور، بالنسبة الى توم ستال على خير. فهو، في العنف الذي اضطر الآن الى ممارسته... وكذلك ممارسته تجاه زوجته، دفع ثمن ماضيه غالياً. الآن بعد دفع الثمن، يمكنه ان ينسى وأن يستعيد حياته. ومثله ما سيفعل دون جونستون في "زهور محطمة" حتى ولو ادلى امامنا بالاستنتاج المتحدث عن ان الماضي مضى. لكن قسيس "الملك" لن ينجو من ماضيه. وكذلك حال احد الكوميديين في "حيث تكمن الحقيقة"... حيث ان كلاً منهما سيدفع الثمن غالياً من وجوده وجسده. ومع هذا يظل الأقسى مصير جورج بطل "خفي" لأن فيلمه سينتهي من دون ان يعرف حقاً ما اذا كان لواقعه المهدد، علاقة بالماضي... هو الذي عليه منذ الآن وصاعداً ان يدفع ايضاً، ثمن انتحار حارس بنايته، اذ عاد ووشى به للشرطة من جديد بعد عقود من وشايته الأولى به! سوف تطبعنا طبعاً قد يكون اجتماع خمسة افلام، في شكل او في آخر، على فكرة واحدة، تُقدم عبر تنوع المواضيع وعبر تنوع في الأساليب مجرد صدفة، ولكن افلا يكون في إمكاننا اعتبار اطلالة السينما عن عودة الماضي إلينا، بدلاً من عودتنا الى الماضي، دليل نضج انساني عميق... باتت السينما نفسها مكاناً اولاً وأساسياً للتعبير عنه؟ ثم، هل من قبيل الصدفة ان تكون هذه الأفلام الخمسة معاً من اقوى ما قدمته دورة هذا العام لمهرجان كان؟ من المؤكد، حتى كتابة هذه السطور، ان واحداً من بين افلام كروننبرغ وجارموش وهاينكه واغويان هو الذي سيفوز بالجائزة الأساسية... او بما يدنو منها. اما "الملك" فلربما يفوز بجائزة من نوع آخر، اذ انه هو لا يعرض ضمن المسابقة الرسمية. ولكن، في الأحوال كافة، من الواضح - بفوز او من دونه - ان هذه الأفلام ستطبع متفرجيها، وتدفعهم الى التساؤل المحض حول الفكرة التي يخادعون بها انفسهم مدعين، كما حال دون جونستون، ان الماضي مضى.