لن يكون منطقياً بالتأكيد ان يعجز المتفرج عن أن يرى في فيلم دافيد كروننبرغ الجديد «خرائط الى النجوم» إضافة الى ذلك المتن السينمائي الذي لطالما انتجته هوليوود نفسها جاعلة من حياتها وحياة قاطنيها موضوعاً للفيلم فهو فيلم عن السينما اولاً وأخيراً. ونعرف بالطبع ان تيمة السينما عن السينما تبدو دائماً فاتنة وجذابة لمحبي السينما فكيف إن كان الأمر يتعلق بالسينما الهوليوودية نفسها؟ ومن هنا لا شك في ان «خرائط الى النجوم» سوف تكون له مكانة اساسية في هذا النوع السينمائي حتى وإن كان الفيلم نفسه عجز عن ان يكون مقنعاً لمن شاهدوه في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان»... فاضطر الى الاكتفاء بجائزة التمثيل النسائي نالتها جوليان مور... عن جدارة بالتأكيد. والحقيقة اننا إذا قارنّا بين فيلم كروننبرغ هذا وبين عشرات الأفلام التي تشاركه «موقفه» من هوليوود عبر حكايات هوليوودية قاسية، أو اقل قسوة، تبدأ ب «رحلات ساليفان» و«سانست بوليفار» ولا تنتهي ب «هوليوود لاند» و«الداليا السوداء» و«اللاعب» لروبرت آلتمان، وعشرات غيرها من الأفلام التي عرفت كيف تضيء، من داخل هوليوود، على اسطورة هوليوود، ستكون المقارنة في مصلحة كروننبرغ، لكن المشكلة تبدأ حين يوضع «خرائط الى النجوم» في سياق سينما كروننبرغ نفسه. فالحقيقة ان النقد كان في إمكانه ان يتوقع من كروننبرغ ما هو اقوى بكثير، حين يصل الى الموضوعة الهوليوودية، كان يمكنه ان يتوقع كثيراً من قبل مخرج حقق «الذبابة» أو «العيد العاري» أو «سبايدر» أو «اكزستنز» او «مستر باترفلاي» أو غيرها من افلام حققها عند بداياته الما - قبل - هوليوودية. بل حتى مقارنة بأفلام حققها ضمن الإطار الهوليوودي - حتى وإن لم يُصوَّر بعضها في هوليوود او على الأراضي الأميركية. نقول هذا ونفكر بأفلام له مثل «تاريخ من العنف» و«وعود شرقية» ثم أخيراً، مباشرة قبل «خرائط الى النجوم»، «منهج خطر» و«كوزموبوليس» تباعاً، وهي الأفلام التي تحمل توجهه الى الاستعانة بالنجوم في أعمال قد تشتغل في نهاية الأمر ضد نجوميتهم. واضح لمن يستعرض، كما نفعل هنا في السطور السابقة، بعض التاريخ الأكثر بروزاً لسينما دافيد كروننبرغ، ان هذا المخرج الكندي الناطق بالإنكليزية والذي تجاوز السبعين عاماً لتوه، بات من أعمدة السينما العالمية وصار لمعظم افلامه جمهور عريض منتشر في شتى انحاء العالم كما في المهرجانات التي تتخاطف افلامه. ومع هذا لا يمكن القول ان سينما كروننبرغ سينما سهلة مصنوعة لجمهور عريض. بل على العكس من هذا تماماً، فهو سواء اقتبس مواضيعه من اعمال ادبية - كما حال اقتباساته من دان ديليلو في «كوزموبوليس» او ويليام بوروز في «العيد العاري»، كي لا نعطي سوى المثلين الأبرز - أو من احداث حقيقية - كما حال افلام له مثل «منهج خطير» عن الصراع الخفي ثم المعلن بين فرويد، مؤسس التحليل النفسي، وتلميذه اللدود كارل غوستاف يونغ - من حول قضية الهستيريا كما من حول مريضة سرعان ما تتحول الى محللة نفسية -، او «مستر باترفلاي» عن ارتباط ديبلوماسي غربي بعشيقة صينية لن يكتشف إلا بعد سنوات طويلة انها رجل لا انثى...-، يعرف كروننبرغ كيف يستحوذ على الموضوع ويحوله الى عمل ذاتي يطرح من خلاله هواجسه المتعلقة حيناً بالجسد وتغيراته، وحيناً بالنفس وقدرتها على تدمير صاحبها، وأحياناً بالإثنين معاً. وفي هذا المعنى تبدو سينما كروننبرغ دائماً سينما متماسكة تعرف ما تريد ان تقوله وتقوله بلغة ديناميكية قوية تصل احياناً الى حد التعامل مع الدمار الداخلي للإنسان. هي الى حدّ ما سينما جوّانية، حتى ولو بدت مواضيعها في احيان كثيرة سينما جسدية برّانية، بل جسدية أكثر من اللازم - كما مثلاً في «وعود شرقية» و«تاريخ من العنف» -... لكنها ليست في اية حال من الأحوال سينما تأملية مملة حتى ولو أخذ بعضهم على فيلم له من هنا او آخر من هناك «بطء حركته وتباطؤه في وصوله الى جوهر موضوعه» («سبايدر» أو «مستر باترفلاي»).. ومهما يكن من أمر تتأرجح سينما كروننبرغ في غالبية الأحيان بين عوالم الخيال العلمي والقسوة والواقعية التي تبدو احياناً فجة... لكنها في الأحوال كلها، سينما ذات بعد كوزموبوليتي لا جدال في ذلك حتى وإن كان المكان، محدداً وكذلك الزمان في عدد لا بأس به من تلك الأفلام... كما الحال مثلاً مع لندن التي يدور فيها ما لايقل عن اثنين من اقوى افلامه («سبايدر» و«وعود شرقية»). ومع هذا فإن المكان في سينما كروننبرغ لا يكون في نهاية امره سوى امتداد للجسد، هذا الجسد الذي قد يكون دوره الأساس في هذه السينما الكشف عن الدمار الداخلي. ولعل متفرج «خرائط الى النجوم» لن يعدم وهو يشاهد الفيلم على ضوء معرفته بسينما كروننبرغ ككل، ان يلمح في كل لحظة من لحظات هذا الفيلم ما يذكره بعوالم سبق وجودها في الأفلام السابقة، من دون ان يكون في هذا اي حكم تقييمي يقارن هنا بين الفيلم الأخير والأفلام السابقة عليه.