غداً تنتهي الفرصة التي أعطيت للاصلاحيين الايرانيين. يترك محمد خاتمي الرئاسة، بعد ولايتين متتاليتين، بعيداً من الطموحات الكبيرة التي حملها الى الرئاسة وحملته اليها، ليشكل انتخابه رئيساً لجمهورية ايران الاسلامية عام 1997 علامة فارقة في التاريخ السياسي الايراني أرخت لصعود التيار الاصلاحي. غير ان الرئيس الذي جاء بأصوات 70 في المئة من مواطنيه، وجُدد له عام 2001 بأصوات 78 في المئة منهم انتهى"مصرفاً للأعمال". اذ ان الطبيعة الخاصة للنظام الايراني لا تجعل من امساك تيار ما بالرئاسة والبرلمان نهاية المطاف كما هي حال معظم بلدان العالم. فرقبة مجلس الشورى تحت مقصلة مجلس صيانة الدستور. وقوانين الأول، اياً تكن الاصوات التي تنالها، لا تجد طريقها الى التنفيذ من دون موافقة الثاني وتأكده من مطابقتها لأحكام الشريعة، ان لم يكن لاعتبارات السياسة. خاتمي الذي جاء الى الرئاسة محملاً بوعود وردية، في بلد ليس رئيس الجمهورية فيه الرجل الأول بل وربما ليس الرجل الثاني، ينهي ولايته بخيبة أمل كبيرة: هيمنة متزايدة للمحافظين على كل نواحي الحياة السياسية. واقتصاد منهك خاضع لسيطرة الدولة تتفشى فيه البطالة وتزيد نسبة العاطلين عن العمل على 11 في المئة، وتصل نسبة التضخم فيه الى 13 في المئة بحسب الأرقام الرسمية التي يشكك كثيرون في صحتها، ويعيش 40 في المئة من الايرانيين دون خط الفقر. فيما تدور الهمهمات حول الفساد والمفسدين في كل مكان وعلى كل الألسنة. على رغم ذلك، تودع ايران خاتمي، لكنها لا تودع"الخاتمية". فالجمهورية الاسلامية اليوم غيرها قبل ثمانية أعوام، وهي تحمل بوضوح بصمات الرئيس"الهادئ"و"الأكاديمي المثقف"الذي تمكن، على رغم محدودية صلاحياته، من ترسيخ الاصلاحات في المجتمع الايراني، بغض النظر عن أن تطلعات الايرانيين، خصوصاً الشباب منهم، كانت أكبر مما يمكن الاصلاحيين القيام به. زائر ايران يكاد يلمس بسهولة ان الاصلاح لم يعد مجرد شعارات، بل تحول حقيقة ملموسة، وإن محدودة: عشرات الصحف تباع في طهران في مقابل خمس صحف عام 1997. شبان حليقون في الاماكن العامة يشبكون أيديهم بأيدي فتيات متأنقات انحسر حجابهن كاشفاً خصلاً من شعورهن المصبوغة بالاشقر غالباً، فيما تغطي عيونهن نظارات شمسية من أشهر الماركات العالمية، وتبدو بوضوح من تحت معاطفهن الطويلة وان كانت أقصر وأضيق من المطلوب المعروفة ب"المانتو"، سراويل الجينز الاميركية. لا وجه للمقارنة بين المحجبات في طهران والمحجبات في بيروت وضاحيتها الجنوبية. لكن شعوراً بالاحباط من التغيير البطيء يطغى على كثير من الايرانيين. وتجعل آثار التغيير السريع على الطريقة الاميركية في العراق الخيبة مزدوجة. شريف، المصرفي العائد للتو من نيويورك للعمل لدى الفرع الايراني لشركة سويسرية، يؤكد انه لن يقترع لأي من المرشحين، على رغم انه اقترع عامي 1997 و2001 لمصلحة خاتمي من مقر اقامته في الولاياتالمتحدة."لن يتمكن أحد من النجاح حيث أخفق خاتمي. المشكلة في النظام السياسي نفسه. الرئيس المقبل يجب أن يكون سوبرمان ليتمكن من مواجهة قوى لا سيطرة له عليها". يدرك الاصلاحيون والمحافظون معاً ان الأمور لن تعود الى الوراء. لذلك فان كل المرشحين يتحدثون، قناعة أو على مضض، عن بذل جهود لتحسين وضع النساء واعطاء فرص أكبر للشباب الذين تطحنهم البطالة، وهي شعارات خاتمي نفسها فيما غاب البعد الديني عن شعارات المرشحين. والقاسم المشترك الاخر في برامج المرشحين هو العلاقة مع الولاياتالمتحدة."أمريكا"الحاضر الأكبر في طهران التي تبدو مسكونة بهاجس"الشيطان الأكبر". فالبلدان أوغلا في معاداة بعضهما بعضاً على مدى الاعوام ال26 الماضية، الى درجة بات معها العداء لأميركا تعويذة الثورة، وأصبح فيها العداء لايران ديدن واشنطن وقطب الرحى في استراتيجياتها للمنطقة من"الاحتواء المزدوج"الى"محور الشر". بعد ربع قرن من العداء، بات معظم الايرانيين يميل الى أهمية اقامة علاقات مع الولاياتالمتحدة، ويعتبرون ان قطع هذه العلاقات هو مصدر كل مشكلاتهم. وأياً يكن خليفة محمد خاتمي، فان التحدي الأبرز هو شكل العلاقة مع"الشيطان"الذي بات يسكن على تخوم الجمهورية الاسلامية. واذا كان الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، وهو أول من طرح المسألة الأميركية في حملته، اشترط رفع واشنطن اجراءات التجميد على الودائع الايرانية في الولاياتالمتحدة، فان محمد باقر قاليباف، أحد المرشحين الاربعة المحافظين لم يستبعد معاودة العلاقات"اذا كان الناس يعتقدون بأن هذه المسألة مهمة"، فيما يعتمد المرشح المحافظ علي لاريجاني موقفاً أكثر تشدداً معتبراً ان على الولاياتالمتحدة أن تتوقف عن محاربة الجمهورية الاسلامية قبل استئناف العلاقات، ويدعو المرشح الاصلاحي مصطفى معين الى تطبيع تدريجي من دون أي شروط. وعلى ما بين هذه المواقف من تباين، الا ان الثابت ان الخوض في موضوع العلاقة مع الولاياتالمتحدة لم يعد من المحرمات، وان الخلاف هو حول من يبدأ بالخطوة الأولى لاعادة وصل ما انقطع بين البلدين اللذين كثيراً ما كان هنري كيسينجر يردد أن بلداناً قليلة في العالم لها مصالح استراتيجية كالتي تجمعهما.