تخرج رجاء عالم في روايتها الجديدة"ستر"المركز الثقافي العربي من بيئتها"الميثولوجية"ومن عالمها المغرق في اسطوريته ومجازيته لتواجه مشكلات واقعية مبتدعة شخصيات من لحم ودم ومواقف انسانية لا تخلو من المعاناة والألم. فالشخصيات التي اختارتها، الانثوية والذكورية، مزروعة في البيئة السعودية وتحيط بها وقائع ثابتة، لكن الصراع الداخلي والخارجي الذي تعيشه يعبّر عن مدى اغترابها النفسي أو استلابها الوجودي. وكان من الطبيعي أن تجعل رجاء عالم من هذه الشخصيات مرتكزات أساسية لبناء الرواية وكأنها أولاً وأخيراً رواية شخصيات تعاني وتواجه أقدارها وحيدة ومعزولة. وقد اعتمدت الروائية تقطيعاً فريداً للبنية السردية مستخدمة الشخصيتين الرئيستين مريم وبتول كذريعتين للانتقال من زمن الى آخر ومن مناخ الى مناخ وربما من حدث الى حدث، علماً ان الرواية ليست رواية"أحداث"مقدار ما هي رواية شخصيات ومواقف. لكن الطابع"اللاحدثي"لن يحول دون انتهاء الرواية بحادث ارهابي رهيب شاءته الكاتبة غامضاً بعض الغموض. يمكن وصف رواية"ستر"في كونها رواية مريم وبتول وما أحاط بهما من أحوال ومواقف ووقائع، ناهيك بالشخصيات الأخرى التي ارتبطت بهما على رغم أن بعضها ذو موقع رئيس. لكن الكاتبة لم تسند فعل السرد الى أي واحدة منهما مفسحة المجال أمام الراوي أو الراوية ان افترضنا أن الكاتبة هي التي تؤدي هذا الدور. وهكذا في الانتقال بين مريم، وبتول تجزأت الرواية أو تقطعت وتهادت فصولاً تلو فصول أو مقاطع تلو مقاطع. وقد بدت مريم كأنها مرآة طفول وطفول مرآة مريم مع أن طباعهما مختلفة بعضاً عن بعض، وكذلك خصائصهما الشخصية. لكن ما جمعهما هو المعاناة الواحدة والصراع المستميت للخروج الى فضاء الحرية، حيث يمكن الواحدة منهما تحقيق ذاتها بعيداً من السلطة المتعددة الوجوه. مريم وبتول تتزوجان وتتطلقان وتعيشان مغامرة النفاذ الى"الحياة"والهروب من الخراب الذي حلّ بهما ومن الخيبات التي حاصرتهما، كلاً على حدة. تبدو مريم أقرب الى الشخصية المتمردة، ترفض وصاية أمها وشقيقيها عليها بعدما دخل والدها"منفى"المستشفى أو"السجن الأبيض"كما تقول، وتعترض على حال العزلة التي يعيشها هذا الوالد الذي كان يحبها كثيراً. وقد كتب لها القصائد عند ولادتها ما أثار غيرة أمها التي باتت تشعر بأنها تفقد سلطتها واعتناء الأبناء بها. يعصف حب قوي بحياة مريم متمثلاً في شاعر يُدعى بدر. انه الرجل الأول الذي تحبه وكانت تعرفت اليه في لندن في أمسية شعرية، بل هي كانت التقت به من قبل في مهرجان أصيلة في المغرب. شابة مثقفة تعمل مدرسة للأطفال وتضم مكتبتها أعمال جلال الدين الرومي والبسطامي والسهروردي وابن عربي... وإن بدت ذات اهتمام صوفي فهي لم تمنع نفسها من الحب أو مما تسميه"التلذذ"وخصوصاً بعد زواجها. لكنها لن تتزوج الشاعر بدر بل محسن المصوّر المحترف الذي يعمل في حقل الأزياء والعارضات"السرّيات"اللواتي يأتين الى محترفه الفوتوغرافي في جدة. تتزوج مريم ومحسن في القاهرة في مركب فرعوني راسٍ على ضفة النيل. وفي ليلة الدخلة تكتشف جسدها الذي كما تعبّر الكاتبة"ظل محبوساً في هيئة لا تعرق لا ترغب لا تسيل...". وتقول الكاتبة أيضاً:"في الثامنة والعشرين خلع الجسد قناعه ومال الى التلذذ بعصاراته". في مثل هذا الكلام"المجازي"تقارب الكاتبة البعد الأروسيّ والجنسيّ معتمدة الكتابة"المواربة"التي قد تكون أشدّ أثراً وعمقاً من الكتابة المباشرة والمفضوحة. فالمقاطع التي تتناول ليلة الدخلة تستخدم فيها مفردات هي بمثابة علامات جنسية تفصح وتخفي في آن واحد:"كأنما للجسد لغة محبوسة ما إن تأمن للعتم حتى تنبسط وتثرثر وترغي وتزبد..."تقول الكاتبة أو الراوية وتضيف:"صارت اليد حمامة تجتمع ووليفها على نهدة ومنحدر أو غرزة أو عتم... اليد شهقة ونوبات اختلاج...". إلا أن الزوج المصوّر سيقع في قبضة"هيئة الأمر بالمعروف"فتصادر أفلامه وأرشيف الصور الفاضحة التي تمثل نسوة سافرات في كل زينتهن. ولا تلبث القضية أن تنتهي بعد تدخل أمير المنطقة ? كما تقول الراوية ? فيُطلق سراح محسن ويستعيد الأرشيف من دون أن يُمس. العلاقة سرعان ما تنقطع بين مريم وزوجها المصوّر خصوصاً بعد رفضه الانجاب:"إياك ومسرحيات التوق الى الأمومة". وإذ كانت مريم في شهر الحمل الأول تلجأ الى الاجهاض:"ليلتها سال خيط الدم بين ساقيها". يقول لها محسن الرجل:"أنت غلطة، بجسدك الصغير بين طفلة وأنثى". وبعيد إجهاضها تواجه زوجها بالطلاق قائلة له:"أنا وأنت تركيبة مجهضة". وإزاء هذا الواقع السلبي والأسود تستسلم مريم للأحلام السوداء والبيضاء وكانت رأت في أحد أحلامها"حفرة"ابتلعت زوجها محسن وفراح يهوي فيها الى اللانهاية. انه الحلم في مواجهة الواقع المرير، الحلم الذي ينبئ أحياناً بما سيحصل والذي يمثل أحياناً فسحة للهروب الى عالم سري ومجهول. لكن مريم ستواجه قدرها وحيدة خصوصاً بعد أن تحصل على ورقة"الحرية"وهي التصريح بالسفر الذي وقّعه أحد شقيقيها بعدما وضعا يدهما على"الورثة"قبيل وفاة الأب في"المستشفى - السجن". يقول التصريح:"أسمح لشقيقتي المطلّقة بالسفر وقتما تشاء". أما سفرتها الأولى وحيدة فكانت الى شرم الشيخ حيث ستقودها الصدفة الى الالتقاء بحبها السابق بدر، وكان في طريقه الى الاجتماع بوزير الثقافة في مصر. وكان بدر عيّن مستشاراً لوزير الثقافة في السعودية. في الطائرة تبدأ خيوط العلاقة الجديدة التي ستنتهي بزواج"المأذون"في مصر. لكنها لا تخفي الخوف من جراء الخطوة التي أقدمت عليها بجسارة. وإن كان لقاء مريم بحبها السابق بدر قد تمّ مصادفة - وكان من الممكن ألا يتمّ - فإن بدر سيكون شخصاً"حقيقياً"وسيحدثها عن حاجة وزارة الثقافة السعودية الى"مصارعين"أكثر من حاجتها الى"مهادنين". ويحدّثها أيضاً عن"ملتقى المثقفين السعوديين الأول"الذي عقد في الرياض في أيلول سبتمبر 2004. وسيحدثها كذلك عن الثقافة كسبيل وحيد لمواجهة الإرهاب ولكن:"ها نحن نرفع الثقافة كشعار، مجرّد شعار، أجوف بلا رؤيا...". أما الموقف الجريء الذي ستتخذه مريم فهو مواجهتها قاضي المحكمة عندما ذهبت اليها برفقة"زوجها"بدر وصديقه الذي يدعى صالح وصديق آخر أيضاً، بغية تثبيت زواج"المأذون". وعندما يسألها القاضي عن"الوليّ"تقول له:"أنا ولية نفسي، بالغة، عاقلة وثيّب". وتتمكن من إقناعه بعد تردّد ويقول لها:"الله يستر عليك، لا تفتحي علينا باباً". ولئن استطاعت مريم أن تتمرّد على واقعها وعلى حال القمع العائلي والسلطة الذكورية فإن صديقتها طفول هي أقل منها حماسة وطموحاً الى اختراق الشرنقة والخروج الى فضاء الحرية. تحتاج طفول الى أن تحب وإلى"حكاية"تخرجها من حال"الملل والوحدة بلا رجل"كما تعبّر. إلا أن زواجها من فهد لن يحقق حلمها في بناء أسرة. فهذا الشاب يحلم في أن يصبح بطلاً عالمياً في كمال الأجساد، وحلمه هذا يدفعه الى السفر مع زوجته الى الولاياتالمتحدة الأميركية ميامي حيث سيدفعهم وضعهم المالي الوضيع الى تأسيس مزرعة للكلاب. لكن المشروع سيفشل ولا يبقى منه سوى كلب صغير يصبح الصديق الوفي والرفيق اليومي للزوجة طفول. فالزوج لا يفكر سوى بجسده وعضلاته،"الجسد - التحفة"كما تسمّيه طفول أو الجسد التمثال الذي يحتاج دوماً للنحت. إلا أن العلاقة المتوترة بينه وبين زوجته لم تقتل رغبته في جسدها وكان أشبه بالحيوان الذي ينقض على فريسته:"تأوه فهد وزمجر حيوانه متفلتاً في غاب وأطبق عليه سواد..."، ثم لن يلبث ان يشخر مستسلماً للنوم وغير عابئ بشريكته. طفول المرأة البريئة والمؤمنة والمواظبة على الصلاة في"المدخل الضيق"داخل المنزل ستلتحق بإحدى مدارس اللغة وهناك ستواجه استاذها ريتشارد وتتحدث معه ذات يوم لتكتشف"النظرة"الاستشراقية التي ينظرها الأميركيون الى السعوديين والى المرأة السعودية والإرهاب. وترد عليه بلطافة قائلة:"الجزيرة هي أرض الحب العذري..."وتضيف:"الحياة لا تختلف كثيراً في باطنها، ما يختلف هو فقط القشرة على السطح...". أما زوجها الذي يغار أحياناً من الكلب الصغير فلا يتوانى عن القول لإحدى المعجبات الأميركيات:"لي جسد، جسد سفاح". وفيما تنصرف طفول الى الصلاة خصوصاً بعدما تجاهل زوجها فكرة الانجاب، يمضي هو في حياته الصاخبة بين النوادي والملاهي الليلية. هذه الحياة الزوجية التي أصبحت حياتين ستنتهي بالعودة الى الرياض وبالطلاق من ثمّ. هي ترجع الى بيت أهلها وهو يسافر الى بيروت ويتزوّج من فتاة لبنانية تعمل في حقل الإعلانات. لكنه سيخيب لاحقاً بعد أن يكتشف ان امرأته الجديدة باردة وپ"لوح ثلج". وذات مرة يتصل هاتفياً بطفول باكياً ويقول لها:"افتقدك، لا جسد يعرفني كجسدك"، وكأن الزواج في نظره مقتصر على العلاقة الجسدية، لا أكثر. أما هي فمثال للمرأة الهادئة والواضحة، وليس من المستغرب أن تصفها زوجة أخيها"ريبيكا"الأميركية بپ"الملاك". تعود طفول الى وحدتها الى أن يغرم بها رجل ثري يدعى سلمان فتلتقي به وتظل علاقتهما سرية ومجهولة المصير. رجل ونماذج يحضر"الرجل"في رواية رجاء عالم عبر نماذج عدة ويظل مرتبطاً بحضور"المرأة"وكأنها هي مفتاح السرد وخاتمته. وقد احتلت"المرأة"واجهة هذا السرد ومتاهته أو"كواليسه". ولا يتم تعاقب"الفصول"أو"المقاطع"في الرواية إلا من خلال"المرأة"التي يمكن اختصارها في شخصيتين هما: مريم وطفول. لكن شخصيات أخرى ستحضر وتظل هامشية مثل والدة مريم والصديقة عفاف و"ريبيكا"الأميركية... أما الشخصيات الذكورية فيحضر بعضها حضوراً شديداً وبعضها الآخر حضوراً طيفياً. وإضافة الى بدر الشاعر والمثقف ومحسن المصوّر وفهد"التمثال"المفتول العضلات يحضر أشخاص آخرون ولكن هامشياً، ومنهم صديق بدر الذي يدعى صالح ويلقب بپ"النفري"وهو"متصوّف"راكض"وراء قبور المتصوّفة". إلا أن شخصاً آخر يحضر بدوره ويكون في الحين عينه على هامش الرواية وفي صميمها، وستتنتهي الرواية به نهاية غامضة وپ"مفتوحة"وعُرضة لأي تأويل. هذا الشخص هو زايد شقيق طفول ويمثل نموذج الشاب الفاشل في الحياة والعمل والمجتمع... هو يكاد يكون شخصية عبثية يتقاذف به قدره الى أن يتوه ويغيب. حاول زايد أن يدرس في أميركا لكنه فشل وتزوّج من"ريبيكا"مصراً على انه لن يتزوج من سعودية وحجته كما يقول:"إنني فاشل بلا مؤهل ولا وظيفة ولا دخل". وعندما يعود الى جدة وحيداً، على أن تلحق به"ريبيكا"، يكتشف عجزه ووحدته وهامشيته في مدينته بل في وطنه. يحاول أن يستصدر تصريحاً لزوجته الأميركية ويفشل، السمسار يطلب منه مئة وخمسين ألف ريال، لكنه في النهاية يُعلمه أن ثمة قراراً يمنع سفر الأميركيين الى المملكة تبعاً للإرهاب. يخيب زايد، يحاول أن يعمل في إحدى الشركات ثم يهرب الى الصحراء حيث يعمل فترة قصيرة في مصنع"الروبيان"ثم يطرد منه عندما يمرض علماً انه سعودي وأن العمال الآخرين هم من الجالية الآسيوية. هكذا يغيب زايد ليظهر أخيراً وهو يقود سيارة تاكسي وحينها يقع الانفجار الرهيب. هل هو الإرهابي الذي نفّذ الاعتداء أم انه كان ضحية من ضحاياه؟ هذا ما لم تجب الرواية عنه مباشرة. لكن مريم شاهدت وجهه وراء مقود التاكسي قبيل الانفجار. هل ماتت مريم وزوجها وصديقاه في الانفجار الذي فاجأهم بعد خروجهم من المحكمة؟ هذا السؤال أيضاً لا جواب له. فالرواية تكاد تكون بلا خاتمة بل ان خاتمتها قابلة لأن تخضع لتصوّرات عدة. تكتب رجاء عالم روايتها بهاجس شعري معتمدة لغة مجازية حيناً وواقعية حيناً آخر. فاللغة لديها تتناسل بعضها من بعض لتتحول مداً لغوياً جارفاً ولو على حساب التقنية السردية في أحيان. لغتها تتهادى وتتهاوى وتفيض وتصبح بذاتها عنصراً أساسياً من العناصر التي تتكئ الرواية عليها. فالكاتبة لا تسرد فقط ولا تؤدي دور الراوي أو الراوية بل هي تتأمل على لسان شخصياتها وتمعن في القول الشعري والقول الفلسفي. وليس من العبث أن تكون مريم شاعرة بصمت وأن يكون والد مريم شاعراً وكذلك بدر وهو شاعر معروف. إلا أن الشعرية لن تقف هنا، فهي ترين على مناخ الرواية وعلى الكثير من مواقفها وعلى لغتها. وتكفي مراجعة بضع صفحات مثل 15، 21، 33، 35، 59، 96، 102، 131، 201 و248... حتى يلمس القارئ لمس اليقين البعد الشعري الذي تتميز به الرواية. أما الأفكار الفلسفية فمنها مثلاً:"أيمكن الانسان أن يقترن بنصف غير نصفه الطالع منه، والمحقق لكماله؟ أم ان كل من نرتبط به هو نصفنا بالضرورة؟"أو"النفس هي أنا، أنت، هي التي تتمايز وتصنع الأنا والأنت"، أو:"الروح توأم من ذكر وأنثى، فإذا التقيا تأهل الكائن للارتقاء". لا تميل رجاء عالم الى الكتابة السهلة والأفقية وترفض اللغة الواقعية الصرف، فهي تكتب وكأنها تختلق نصاً متاهياً كثير التجاويف، حافزة القارئ على التأني وعلى اعتماد حدسه وذائقته الداخلية. وروايتها"ستر"التي خرجت فيها عن مسلكها السابق لم تخلُ من الأثر الحدسيّ والصوفي والرومانطيقي والباطني وقد أضفت عليها طابعاً واقعياً نظراً الى الوقائع التي ساقتها من صميم المجتمع والبيئة. وتحضر في الرواية أيضاً مدينة جدة ومدينة الرياض والصحراء وتشكل هذه المدن أو المناطق خلفية مكانية رئيسة في الرواية. "ستر"رواية كتبتها رجاء عالم بروحها ودمها قبل أن تكتبها حبراً على ورق، وقد استطاعت عبرها أن تكشف"الستارة"عن معاناة المرأة ومعاناة الرجل وعن الآلام والمآسي التي تكتنف عالماً بكامله. وكم كان حرياً بالرواية ألا تعرف هذا الكم الهائل من الأخطاء الطباعية والأخطاء اللغوية في أحيان. وليتها مرّت على قلم ملمّ بالعربية قبل أن تمثل الى الطباعة مثلما يحصل مع كبار الروائيين في العالم.