تقول علوية صبح في "مريم الحكايا" انها تريد كتابة "تجربة جيلنا في الحرب" لكن الرواية دار الآداب، طبعة ثانية تقارن بين جيلين من النساء وتنتهي بهزيمة الاثنين. تسلّط صبح الضوء على خيبة المثقفات المتحررات اللواتي منحهنّ التمرّد والتطوّر الاجتماعي القدرة على اختيار التغير، وإذا بهذا يؤدي الى مصير مماثل للجيل الأسبق من النساء الذي لم يسمح وعيه أو وضعه الاجتماعي بقدرة مماثلة. خيبة المثقفات أكبر لأن جيل الأمهات لم يعرف الصراع بين الإكراه والخيار أو مفهوم الأنا والحق في التقرير، فلجأ الى الحيلة في المواجهة من دون تحليل للربح والخسارة. جيل البنات يعاني من الهزيمة الشخصية والعامة ويفاقمها بقبول الحلول الجاهزة الموروثة التي تلغي هوية المرأة خارج الزواج. عدمية الحرب الدامية، والخاوية تؤثر في القرارات التي تؤكد حاضراً فردية المرأة وتمرّدها لتضعها لاحقاً وتحوّلها نسخة عن أمها في الجوهر. ويزيد ضعف الجيل الجديد الملتزم انفراط حلفه، فالصديقات اللواتي جمعتهن الأفكار اليسارية المتحررة ابتعدت احداهن عن الأخرى بعد الحرب، كأن الواحدة تذكّر الثانية بحطام أحلامها، وكأنها في هربها منها "تتجنّب الحرب أو تهرب منها ومن ذكرياتها" الصفحة 7. تبدأ الراوية مريم علاقة مع زميلها المتزوج عباس "للهروب من الموت" في خيار كلاسيكي يواجه خطر أو عدمية الحروب بإعلاء اللذة والجسد. أحبته وتملكها، وبات يجنّ مثل والدها اذا تفردت في شأن بسيط كزيارة صديقاتها من دون اذنه. والدها ضرب أمها عندما خاطت فستاناً جديداً من دون علمه أو شاكسته، وضرب مع ابنه مريم لاشتراكها في تظاهرة أو الخروج عن الأوامر. كان علي الوعد بالخلاص من حياة العنف والجفاف العاطفي، لكنه توفي عندما داست ملالة اسرائيلية سيارته. تستفيد علوية صبح من الحادث الفظيع الشهير وتسخّر الحياة لخدمة الفن، لكن شخصياتها تبقى واقعية تعيش حياة عادية من دون تشذيب فني أو المناداة بخطاب ما. لم تحب مصطفى الضخم أو تعرف لماذا لم تقاومه. موت علي "والموت الكبير في الحرب جعلا فكرة الانتظار تسقط. العلاقة بالأشياء كلها باتت آنية ... ويومها كانت لدي رغبة بأن أدع نفسي تكتشف رغباتها" الصفحة 57. لكنها شعرت انه فض روحها لا عذريتها وصعقت عندما رفض الزواج من "ختيارة" في الثامنة والعشرين. تنتهي بالزواج من أمين الذي رفضته قبل خمسة وعشرين عاماً، وتلتحق به في كندا التي تقدّم فرصة هجر "ذكرياتي وظلي الذي لم يعد ظلاً لأحد" الصفحة 323. أجبرت والدة مريم على الزواج في العاشرة واغتصبها زوجها وهي في الثانية عشرة لكي يثبت رجولته. بقيت تحسّ بالاكراه، وكثيراً ما تجنبت رغبة زوجها في إثارة مترفة. أكدت طوال حياتها وضعها كإنسان مظلوم، ضحية للآخرين، بحرمان نفسها من المتعة والعاطفة. لا تأكل مع أسرتها الا اذا ألحّ الأولاد عليها، كأن من واجبها اعداد الأكل وليس من حقها ان تأكل. تتزيّن بأساورها الذهبية في المناسبات وهي خجلة، وتزداد نقمتها على زوجها الغاصب لأنه حرمها رغبتين عنتا لها الكثير. الذهاب معه الى فلسطين وعزاء البيك الذي سحر نساء القرية وحلمت معظمهن بالنوم معه. أوصت بدفنها قرب أخيها لا زوجها لكي تفر منه في الموت الذي يوفر خياراً لا تمنحه الحياة، والتبست أمومتها مثل نساء جيلها. احتفظت بالمناشف التي تؤكد عذرية بناتها ضماناً ضد الثرثرة، لكن التعبير عن الحب لم يواكب قدرتها على الحماية. تقول مريم كلمة ماما "بإحساس من سيفقد الأم والكلمة معاً وتدس رأسها في حضن عباس كما لو كان امها، فيصير الجنس معه أكثر من جنس" الصفحة 78. تبكي والدة ابتسام عندما تتزوج ابنتها لأنها تعرف العذاب الذي ينتظرها. الرحيل صعب لا يرحم، والزواج يفقد المرأة السيطرة على حياتها ووقتها وجسدها ويجعلها في أمرة زوجها وأولادها، الصفحة 109. لكن نسوية الأم لا تدفعها الى معارضة زواج ابنتها ممن لا تحبه. والد ابتسام غذّى شخصيتها وأرادها قوية، ولم يعارض ارتداءها الثياب القصيرة او الزواج ممن تحبه. لكن كريم المسيحي الذي انتمى وأسرته الى الاحزاب اليسارية أحب ابتسام وأفقدها عذريتها ثم تزوج من فتاة من طائفته. يقول زوجها انه أحبّ فيها شخصيتها ولا يهتم قبل الزواج بخبرتها الجسدية لكن شكه يحول حياتها جحيماً. خسرت ألقها وفقدت الاهتمام بكل ما أحبته ورغبت في النوم، صورة الغياب والعدم. حاول محو صورتها الماضية بفصلها عن ماضيها فأحست انها لم تعد الصوت بل الصدى الصفحة 297. أسرتها ألغت الأنا فيها فاقتنعت بأن ليس من حقها التعبير عن رغباتها، مثل أمها، وبأنها ان لم تقتنع تتعذب الصفحة 63. وكما تشترك أجيال النساء في العذاب تتوارث أجيال الرجال "تقسيم العمل" الجاهز بين الجنسين. زوج ابتسام، مثل اخوته ووالده ووالد مريم، يرى المرأة مثل السجادة كلما ديست وضربت تجوهر. "هل حين ينهزم الانسان ينهزم في السياسة والحب وفي كل الاحلام؟ لماذا نحن النساء صدقنا ثم انكسرنا ونحن نحاول ان نكتشف مساحات اخرى وفضاءات جديدة لأحلامننا وأجسادنا ومشاعرنا؟" الصفحة 80. تقامر ابتسام بكل أوراقها دفعة واحدة فتخسر أو تربح كل شيء، لكن سلبيتها تجعلها أضعف من جيل الأمهات الجاهل الذي تجاوز بعض ضعفه بقوة لسانه أم مريم أو الانتقام أم طلال. تلتقي معظم نساء "حكايا مريم" في غياب علاقتهن بالرجال في حياتهن، وتوارث ادوار اعلاها المجتمع لصيانة نفسه واستمراره. هل كانت مريم وابتسام وعلوية الكاتبة - الشخصية محض ثوريات وبتن محض واقعيات يخضعن لابتذال كل يوم بلا أمل أو بريق تمرد؟ الا لقاء ممكناً بين الوضعين يعد بقليل من الضوء وسط العتمة القاسية؟ مريم تفرح عندما يطلبها أمين ثانية، لكن ابتسام تدافع عن ذاتها بتجاهلها. تنشغل بالأمور المنزلية العادية لكي تغفل عن انكسارها، ولا تفتش عن سبيل واحد للتسوية ومصالحة الفتاة التي كانتها لئلا يتعمق احساسها بهبوط الواقع عن المثال. لا يجد ميل النساء الطبيعي الى التغيير حليفاً في الرجل فيرتد اذعاناً وتديناً ويجد الحماية في تخبئة الجسد بالملابس كما في حال ياسمين. زوجها الدكتور كامل يبدأ ضوءاً مشعاً فيرفض كل الاحزاب ويطبّب الفقراء مجاناً ثم تصطدم مثاليته بتخلفهم وجهلهم، فيفقد الأمل بالتغيير ويهرب من هزيمته بالادمان على الكحول ثم الالتزام دينياً. علوية الشخصية لا تكتب حكايات مريم ومن تعرفهم لكن علوية الكاتبة تفعل. كان يمكن اختصار الرواية التي تمتد 426 صفحة، لكن اللغة شاعرية وشفافة وإن ثرثارة احياناً. العامية شديدة الحيوية، والجنس صريح يؤكد حق النساء في التعامل معه كالرجال، وربما كان بعض الكاتبات اللبنانيات أصرح في وصف الجنس من زملائهن. في الرواية مقاطع جميلة يضيء الشعر فيها كوصف الفراغ بعد القصف في الصفحتان 23 و31، والجنس الصفحة 35، واشتهاء طعام الأم بعد موتها الصفحة 40 ورائحة الشقيقة بعد الزواج الصفحة 41. تستكشف علوية صبح الحياة الداخلية المعقدة، المضطربة بشفافية وعمق، وتترك شخصيتها المغتربة في مجتمع ممزق تسير نحو وحدة كسيرة حتى في رفقة شريك قبلت به كتسوية. لا معنى للتساؤل اذا كانت مريم وابتسام قبلتا الزواج لئلا يصمهما النظام المجتمعي الجامد القيم بالعنوسة او لكي تردا الوحشة الباردة برفقة ما. ثمة تلازم وأمل بوعد وبداية جديدة بين الحالين، واشارة الى التغيير المقبل على رغم ان المرأةتبدو عاملاً أقوى وأكثر ثباتاً فيه من الرجل. الأكيد ان البحث عن معنى الحياة يستمر، لكن لا ضمان هناك لوجوده وطبيعته.