تُعدُّ رواية «يحدث في بغداد» للكاتب رسول محمد رسول، الصادرة عن «الدار المصرية - اللبنانية» من الروايات التي يتزاوج فيها الواقع بالخيال، وقد تمكن الكاتب من الإيحاء بواقعية الحدث وإمكان حدوثه، الأمر الذي يؤدي إلى تفاعل القارئ مع شخصيات الرواية، ويتأثر بها. ولأن الكاتب على وعي كامل ببيئة الرواية فتمكن من إظهار تفاعلها مع الشخصيات، وإضاءة بُعدها النفسي، فراقبها وتتبّع حركتها ثم وصفها. وذلك من خلال تنظيم داخلي متقن لسرد الأحداث، كشف من خلاله الأسرار، وأظهر الخفايا، وثار على الشر، وتساءل عن العدل الاجتماعي؟ انها رواية ينطبق عليها كل ما نقله الكاتب على لسان سعيد أثناء وصفه لرواية «ينحني الصابر للوجع». اختار الكاتب لروايته شخصيتين رئيستين، الأولى: الشخصيّة الحاضرة، المتمثلة في الراوي سعيد. والثانية: الشخصية الغائبة، المتمثلة بالكاتب مرهون. وارتبطت هاتان الشخصيتان ارتباطاً وثيقاً بالشخصيتين النسائيتين - مريم زوجة سعيد ونُهى زوجة مرهون - و اختار أيضاً عدداً من الشخصيات الثانوية التي ساعدت على إعطاء صورة واقعية عن البيئة التي كان يسرد منها. اعتمد الكاتب في روايته أسلوباً تعبيرياً، حقق من خلاله الإحساس بالمعنى. فقد استهلّ الراوي سعيد سرده بضمير المتكلم معبراً عن حزنه الشديد على وفاة صديقه مرهون: «رحل مرهون إلى موت أبدي بعد تمزق رئته اليمنى لينتقل المرض إلى رئته الأخرى ولا يتنفس سوى العدم ليمضي عن عالمنا كئيباً...» قسّم الكاتب روايته إلى عدد من الوحدات السردية، التي تناوبت بين السرد من الحاضر باستخدام فعل المضارع الذي أوحى بالترقب والقلق من المستقبل والخوف من المجهول: «يا ترى، من هم الذين سيرحلون هذا الصباح؟ أو من هم الذين رحلوا فعلاً هذا الصباح؟»، وبين الماضي بشكليه القريب والبعيد، الأمر الذي منح الحدث موضوعيته، وأدّى إلى إظهار صورته الواقعية. فقد أحبّ مرهون زوجته الأولى فاطمة التي استشهدت في حرب عام 1991 بقصف صاروخي. وتزوج ثانية من نُهى رغم عدم حبه لها، نزولاً عند رغبة والدته التي كانت تريد له أطفالاً. إلا أنها بعد مرضه تخلت عنه ولم تحضر مراسم عزائه. وعلى امتداد الوحدات السردية تمكن الكاتب من إيهام القارئ بأن شيئاً ما سوف يحدث. انطلق سعيد في سرده من منتصف الحكاية ثم تنقل بين الماضي والحاضر. وفي الوحدة السردية الثالثة سرد ماضيه مع مرهون فقد تربيا معاً وكانا بمثابة أخوين. علم سعيد أن مرهون قد كتب رواية حين استلم من الناشر في لبنان رسالة يطالبه فيها بضرورة إرسال مخطوط روايته قبل الموعد المتفق عليه لأنه يريد طباعتها وترشيحها إلى إحدى الجوائز الإبداعية العربية، ولم يكن يعلم أنه قد مات، لأن تاريخ الرسالة قبل يومين من وفاته. فتوجه سعيد إلى بيت والدته وحصل على الرواية التي احتار في شعرية عنوانها: «ينحني الصابر للوجع» ومن أين قد يكون مرهون قد استقاه، إلا أن زوجته مريم ذكرته أنه استقاه من قصيدة لشاعر نمسوي اسمه « جورج تراكل». حين بدأ سعيد بقراءة رواية مرهون لاحظ اختفاء الفصلين الثاني والخامس، فجن جنونه، حين علم من والدة مرهون أن الرواية كانت معه مكتملة في المستشفى، ثم اكتشف أن نُهى هي التي سرقت الفصلين. وحين كشف له الضابط محمود جار نُهى عن بطولاتها الغرامية مع الرجال، اكتملت لديه قطع الأحجية واستطاع أن يربط الأمور ببعضها، فحين أعاد قراءة الفصل الأول من الرواية فهم ما قصده مرهون بجملته: «كيف لي العيش مع فجر أنثوي خائن، فجري الثاني، الذي شممت في جسده ليل أمس رائحة ذكورة عفنة»، الزوج في الرواية اسمه رشيد والزوجة سُهى... وهما في الحقيقة مرهون ونُهى، فاقترحت مريم على سعيد أن يلجأ إلى القضاء كي يجبرها على الاعتراف بجرمها وإعادة الفصلين... فكل عمل إبداعي هو ملك للناس جميعاً. هي في الواقع نُهى... وفي الواقع المتخيل سُهى، خاطبت زوجها معترفة: «هل رأيت يا زوجي المُثقف، كيف أنا عاهرة بشكل رسمي، زوجة محترفة في الفجور والغرام والخلاعة، لا أخونك في النهار فقط بل وفي الليل أيضاً». وفي نوع من التصوير الداخلي العميق قدم الكاتب على لسان مريم وصفاً للعبثية التي استبطنت ذات سهى المتخيل ونهى الواقع: «أجد هزيمة كبرى في داخلها، وعندما تُهزم المرأة في داخلها، تصبح ضعيفة... كان ذهاب سهى إلى الرذيلة طريقة منها للخلاص ليس من زوجها فقط، بل ومن سمعتها وشرفها ووجودها وأنوثتها وكرامة جسدها». كان سعيد يعشق زوجته مريم التي كانت تعشقه بدورها... وعلى قدر سوء العلاقة التي كانت تربط بين مرهون ونهى كانت العلاقة بين سعيد ومريم عاصفة بالحب مليئة بالشغف والتفاهم والألفة. وحرص الكاتب على وصف المظهر الخارجي والداخلي لمريم على لسان سعيد، ما هيأها للمواقف التي تعرضت لها ومنحها حافزاً لتحركاتها، وكان يشعر بالسعادة وهو يصف جمالها، بحيث يشعر القارئ وكأنه يراها أمامه بشكلها وأحاسيسها. من عنوان الرواية «يحدث في بغداد» يظهر عنصرا الزمان والمكان، اللذان انطلقت منهما الشخصيات وجرت في إطارهما، فبدت شخصية نهى نامية لأنها تكشّفت تدريجاً، وبناء على تناميها تطوّرت أحداث الرواية. وقد أثّر الزمن النفسي في الحدث ومنح النص طابعه الوجداني، الذي أتى نتيجة طبيعية لمعاناة الواقع وآلامه: «ولكن، ما زلنا جميعنا ينحني للوجع... ترانا اليوم، وفي الغد أيضاً... سننحني... وننحني... ولا مفر...!». اعتمد الكاتب في سرده لغة تعبيرية سلسة، وتخلله محطات من الحوارات الخارجية التي تبادلتها الشخصيات، وعبّرت عن أفكارها، كما تخلله محطات من الحوارات الداخلية، التي كشفت عن مكنونات الشخصيات وحالاتها النفسية، فها هو سعيد يخاطب مرهون: «منحتك فاطمة، زوجتك الأولى، عذوبة غير دائمة، أما نُهى، زوجتك الثانية، فقد منحتك العذاب الأبدي، لكنه الموت وحده أنقذك من كل عذاباتك المبتلي بها»، فضلاً عن التساؤلات الكثيرة التي فرضت نفسها في ذهنه: «أيُّ عاصفة رعناء كانت تدور في داخلك يا مرهون؟». ساق الكاتب أحداث روايته سوقاً متناسقاً، فظهرت الحبكة... تعقدت وتأزّمت، فلم يتمادَ في الخيال، ولم يغرق في الواقعية، واعتمد على القدر كي يربط بين أجزاء الرواية، لأنه القوة الخفية التي تدير الأحداث، فبعد طول انتظار حملت مريم بجنين اتفقت هي وسعيد أن يُسمياه مرهون: «يا للوعد! شخص يغيب وآخر يحضر أو سيحضر قريباً، مرهون الكبير رحل، ومرهون الصغير سيأتي». كما تميّز نص الرواية بصدق الإحساس وصدق التعبير. وانتهت أحداث الرواية بواقع منطقي على رغم أنه غير متوقع: «عشرات القتلى... في ثلاثة انفجارات بسيارات مفخخة هزّت أطراف العاصمة ووسطها صباح اليوم» وامرأة هي التي نفّذت التفجير الثالث... والمفاجأة أن تكون نهى نفسها صاحبة التفجير...!