كان لطرح بعض الاطراف العراقية موضوع تقاسم المياه، او حق التحكم بها من قبل بعض الاقاليم الفيديرالية، ابان مناقشة مسودة الدستور، وقع الصدمة التي لم يكن احد يتوقع ان تكون موضعا للمساومة الى هذه الدرجة. فكيف يمكن تصور ان تتحكم جهة بعينها بنهري دجلة والفرات اللذين ارتبط بهما الوجود العراقي منذ آلاف السنين، حتى ان العراق نفسه اخذ تسميته"بلاد الرافدين"منهما. لكن ذلك لم يبد غريبا في ظل التجاذبات السياسية الحادة القائمة، والتي لا تتوانى بعض اطرافها عن اللجوء الى اي وسيلة لتثبيت مقدار قوتها في المعادلة التي ترتسم معالمها في العراق الجديد. كانت مشاكل المياه قد برزت الى العلن بشكل حاد في الثلث الاخير من القرن الماضي، عندما بدأت تركيا، متجاوزة القوانين الدولية لاستغلال مياه الانهار الدولية، اقامة مشاريع مائية ضخمة على نهر الفرات، اكبرها"سد اتاتورك"، ما أدى الى خفض نسبة المياه المتدفقة نحو سورية والعراق الى درجة خطيرة وتسبب في ارتفاع نسبة التلوث في النهر جراء السد المذكور. وتشير الاتفاقات الدولية الى مجموعة من الضوابط وضعت لتنظيم الاستفاده من مياه الانهار الدولية في شكل متوازن، فاتفاقية هلسنكي عام 1966 وبعدها اعلان فيينا عام 1978 نصا على عدالة التوزيع واستثمار المياه، وامتناع الدول المنتفعة عن تحويل مجرى النهر او انشاء خزانات او سدود على مجرى النهر من شانها خفض حصة دول اخرى، واحترام الحقوق المكتسبة، ودفع التعويضات المناسبة في حال وقوع الضرر. ولما كان نهرا دجلة والفرات يعتبران من الانهار الدولية لاشتراك ثلاث دول فيهما تركيا وسورية والعراق، فان الاتفاقات المذكورة تنطبق عليهما حرفياً. ولاحظت الاتفاقات الدولية مجموعة من العوامل التي يتم الاحتكام اليها في احتساب مقدار الانتفاع من النهر، منها: جغرافية حوض النهر والظروف المناخية للدول المنتفعة ومقدار حاجاتها الى مياه ذلك النهر وامكان توفير مصادر بديلة وسواها من المبادئ العامة التي يتم الرجوع اليها عند حصول منازعات. والجدير بالذكر ان تركيا هي الدولة الوحيدة التي حاولت جاهدة ايجاد نوع من التمييز بين الانهار الدولية والانهار العابرة للحدود واعتبرت دجلة والفرات ضمن التصنبف الاخير، لكنها لم تجد من يساندها في رأيها هذا. وفيما خص الوضع في العراق، تبدو المسألة اكثر تعقيدا في ما لو اصرت بعض الاقاليم المزمع انشاؤها على التحكم بمصادر المياه المتشكلة في او العابرة من اراضيها. فالقانون الدولي لحظ التعامل بين دول مستقلة قائمة بذاتها، ولم يتطرق الى كيفية التصرف في حال كهذه. لذا يبدو الدستور العراقي القادم هو الفيصل في مسألة توزيع المياه في الداخل العراقي، الامر الذي تحاول بعض الاطراف استغلاله او عرقلته كي يأتي منسجما مع رؤيتها ودورها في العراق الجديد او حتى ارتباطا بمشاريعها المستقبلية. البداية كانت مع القوى الكردية التي كانت اول من طرح موضوع المياه وضرورة استثمارها من قبل ادارة الاقليم، ربما تمهيدا لتكريس واقع جديد وسابقة دولية قد تتوج بخطوات لاحقة بعد تثبيت مرتكزات الدولة الكردية العتيدة التي ستكون المياه واحدة من ثرواتها المهمة. ويأتي في السياق عينه المشروع المائي الذي جرى تداوله في بعض الاوساط لجر المياه من منابع الزاب الاعلى او ديالى بواسطة انبوب بطول 800 - 1000كلم نحو الكويت ومنه ربما الى دول الخليج الاخرى. وتعدد مصادر المياه في الشمال العراقي، يجعل استثمارها اقتصاديا امرا واقعيا. فالمعروف ان نسبة تساقط الامطار في كردستان العراق تبلغ ما يقارب 1200 ملم سنوياً، اضافة الى كثافة تساقط الثلوج بكمية وافرة، وهو ما يؤدي التي تشكل العديد من الينابيع والروافد التي تصب بمجملها في دجلة وتشكل احد اهم مصادره. ومن هذه الروافد: الزاب الاعلى الذي تقدر طاقته من المياه ب13.3 بليون متر مكعب في السنة، يليه ديالى 11.68 بليون متر مكعب، ثم الزاب الاسفل 6.27 بليون متر مكعب، اضافة الى روافد اخرى مثل: الهيزل، الخابور، الكومل، العظيم، الوند، سيروان وغيرها. وقد أقيم الكثير من مشاريع الري والسدود على تلك الروافد اهمها سد"دربندخان"على نهر ديالى، وسد"دوكان"على الزاب الاسفل. هذه الثروة المائية، التي تكاد تكون عراقية خالصة، توفر فائضا مائياً يغطي حاجة العراق للمياه الصالحة للشرب، ويمكن الاستفادة مما يقارب اربعة ملايين متر مكعب في اليوم للتصدير الى دول الخليج، لذا تبدو حسابات القوى الكردية في هذا المجال دقيقة ومدروسة. فلو امكن تثبيت بند يمنح الاقليم حق التصرف بالثروة المائية، لامكن مقايضة حتى بقية انحاء العراق الاخرى بأثمان اقتصادية وسياسية عالية القيمة في المستقبل، بخاصة مع الاعتراف بخصوصية اقليم كردستان الذي اصبح خارج حدود التنازع دستوريا بعدما اقرت الاطراف العراقية كافة بهذا الواقع. في المقلب الاخر، وبعدما رأت الاطراف العربية السنية انها ستكون الخاسر الاكبر في المعادلة المطروحة، اذ انها الوحيدة تقريبا التي لا تملك الكثير من الاوراق التي يمكنها التلويح بها في المدى الاستراتيجي، فان المراهنة على"خيار شمشون"او العمق العربي قد تمنح قروضا سياسية بفوائد مكلفة لا يمكن المراهنة على تحملها، لكنها لا تمنح موقعا ثابتا بامكانيات ذاتية. وما دامت القوى الكردية طرحت موضوع المياه ، فلما لا تطرحها القوى العربية السنية كذلك، اذا لم يكن جدياً، فاقله لاقامة نوع من التوازن المفقود في معادلة المستقبل العراقي التي لم تتضح معالمها بالكامل بعد. لكن هل في امكان القوى العربية السنية استخدام ورقة المياه او التلويح بها؟ وما وجه التشابه بينها وبين الاقليم الكردي؟. من الناحية التقنية، هناك اولا نهر الفرات الذي يدخل الاراضي العراقية من مدينة البوكمال السورية بدءاً في مدينة القائم عصيبة. والفرات الذي قامت على ضفافه حضارات وادي الرافدين منذ آلاف السنين، هو اليوم مصدر تنازع بين الدول الثلاث تركيا وسورية والعراق. اذ ينبع من تركيا ويسير فيها مسافة لا تزيد على 450 كلم، ثم يدخل الاراضي السورية ويعبرها على مدى 678 كلم، ليمتد داخل الاراضي العراقية بمسافة تزيد على 1200كلم، ملتقياً مع توأمه دجلة في قرنة البصرة ليشكلا معاً شط العرب. اما المدن العراقية التي تقع على ضفافه، فأهمها: محافظة الانبار وبعض مدنها القائم، عانه، راوه، حديثة، هيت، الرمادي، الفلوجة وغيرها ثم محافظات: الحلة وكربلاء والنجف والسماوة والناصرية. في الجانب الاخر، هناك نهر دجلة الذي تقع على ضفافه مدن الموصل وتكريت وسامراء، نزولا حتى بغداد والكوت والعمارة ومن ثم البصرة. وعليه يمكن القول ان دجلة والفرات يمران عبر ثلاث محافظات ذات اكثرية عربية سنية، من دون ان تساهم تلك المحافظات برفد النهرين بمصادر مائية مهمة كما هي الحال في الاقليم الكردي، وهذاما قد يجعل الوضع مختلفاً نسبياً بين المصدر والممر، بخاصة مع اضافة العامل السياسي الاهم، وهو القدرة على تعطيل الدستور في حال حشد اصوات الثلثين من ثلاث محافظات. فالقوى الكردية تسيطر على ثلاث محافظات ذات اكثرية كردية مطلقة، تستطيع تجيير اصواتها طبقا للنفوذ الكبير للحزبين الرئيسين الاتحاد والديمقراطي، فيما يبدو الوضع الديموغرافي والسياسي للقوى العربية السنية مشوشاً. اذ باستثناء محافظتي تكريت والأنبار، لا تستطيع هذه القوى توفير اكثرية الثلثين في اي محافظة اخرى، بخاصة اذا تم التصويت انطلاقاً من حسابات محض طائفية، وذلك وفقاً لمعظم التقديرات التي تشير الى ان نسبة العرب السنة في محافظة الموصل لن تبلغ الثلثين بحال من الاحوال، فيما هي النصف في ديالى والثلث في بغداد تقريباً. لذا يبدو الحصول على امتيازات معينة في التلويح بورقة المياه كجزء من حق دستوري اقرب الى مناورة مجهضة سلفا. فليست هناك مساواة بين الثروات الكامنة كالنفط والغاز مثلا، وبين الانهار وطرق استثمارها كما لحظها القانون الدولي. واذا كانت دولة بحجم تركيا فشلت في تسويق رؤيتها حول الانهار، بل وتلقت نصائح وتحذيرات بضرورة عدم المساس بموضوع كهذا لان من شأنه خلق سابقة دولية خطرة، فما بالك بقوى محلية في بلد مضطرب؟ الخلاصة ان موضوع الثروة المائية في العراق ينبغي الا يكون موضع تجاذب واستثمار سياسيين، اذ انها مناورة لا تمتلك أي نصيب من الواقعية في كل الحسابات السياسية. اما محاولات الفرض بانتهاج اساليب تخرج عن نطاق العمل السياسي المشروع، فهي اقرب الى دحرجة برميل من البارود نحو نار ملتهبة. كاتب عراقي.