إلى فترة ليست ببعيدة كان التلفزيون السوري"متميزاً". ليس بنشرات أخباره التي تشابه ما تبثه بقية المحطات الرسمية العربية, ولا بمذيعاته المخضرمات اللواتي لم يكن يصلحن شكلاً للظهور, ولا ببرامجه المبتكرة، ولا بسبب أعمارهن بل لطريقة"ماكياجهن"وتسريحاتهن وعبسهن المخيف... وإنما بالمستوى العام للغة العربية فيه, وبجديته ومحاولاته الحفاظ على حد أدنى من المحتوى الثقافي لما يعرضه. بيد أن الموجة الطاغية من التغيير التي بدأت مع مذيعات محطتي" ال بي سي"و"المستقبل"اللبنانيتين قلبت كل الموازين. فسادت مفاهيم جديدة اعتقد بعضهم انها الأصح, لما جذبت من مشاهدين يفضلون على ما يبدو وجوهاً شابة مشرقة, وبرامج ترفيهية خفيفة. ولكن, وبدلاً من التجديد الذي يحافظ على الشخصية والهوية, بدا التقليد موضة العصر. وفي هذا لم يقتصر الأمر بالطبع على الفضائية السورية وإنما أخذت كل قناة تحذو حذو الأخرى في أسلوب التقديم ونوعية البرامج. بدأت الوجوه الشابة الجميلة تطل, والملابس العصرية تظهر, والابتسامات توزع. وراحت عيون المشاهدين تلاحق المذيعة من ركن إلى آخر وهي تتنقل في جوانب الأستوديو, أو تتأملها من أعلى إلى أسفل وهي تقدم وقوفاً, تتحدث بنبرة مألوفة لكثرة ما تكررت هي نفسها لدى معظم المذيعات, وترفق كلامها بإشارات من اليد, وتوجه نظرة معينة أصبحت مشتركة لكل العيون. وباتت مخاطبة المشاهدين"كأعزاء"حقاً تتم من دون رسميات في التخاطب معهم... هذا كله من الشكليات التي استدعاها" التطور". ولم يسلم الجوهر من "التطورات", فنالته هو الآخر. وطرأت عليه تحولات أزالت وللأسف خصالاً مهمة كان يتحلى بها هذا التلفزيون. ظهرت تلك البرامج التي يقال فيها كل شيء من دون أن يقال شيء. برامج" معانا اتصال"حيث تجب تعبئة فراغ الحلقة بين اتصال وآخر ألن تتوقف هذه البرامج السخيفة المكرسة للمديح المجاني أو لقول ما سبق وسمع آلاف المرات؟. وباتت عبارات فارغة تتناهى إلى أسماع الجمهور, وتتكرر خلال دقائق قليلة, من نوع"عندكم خياران واحد منهم صح... والثاني غلط"! والقسم الثاني من الجملة, موجه الى ذوي العقول البليدة الذين قد لا يستطيعون الاستنتاج أنه إذا كان لديهم خياران فقط, واحد منهما صحيح فلا بد للثاني من أن يكون خطأ! إنما لنتجاوز تلك الأمور التي قد تتطلبها طبيعة التلفزيون في طرح الخفيف والمسلي من دون الذهاب أبعد من ذلك إلا في حالات نادرة, وكذلك توجهه نحو إرضاء أذواق الكل كما يتخيلها في معظم برامجه. لكن مسألة اللغة جوهرية, وتمس المشاهدين في كل مستوياتهم الثقافية. فاللغة الفصحى كانت هي السائدة في تقديم البرامج في التلفزيون السوري. ولم تكن عبارات من نوع"حتى توصلولنا"المسج"الصوتية" لتصل إلينا من قناة كتلك. ليس لأن كلمة"المسج"لم تكن معروفة حينها, بل لأن ثمة احتراماً للغة العربية وللجمهور كان موجوداً. مخاطبة المشاهدين بالعامية واستخدام المصطلحات الانكليزية الدخيلة على العربية يبدوان غريبي الوقع على مشاهدين تعودوا على مستوى معين من اللغة في القناة السورية. انزوت الفصحى وبدأت تخلي المكان شيئاً فشيئاً للعامية حتى في تقديم البرامج. قد نتفهم استخدام العامية في الحوار مع المشاهدين, ولكن لماذا تقدم البرامج بها أيضاً؟ هل العامية في حاجة إلى المزيد من الانتشار؟ ألا يكفيها كل ما هو مخصص لها في المسلسلات والأغاني والحوار لتزيح الفصحى وتركنها في برامج الأخبار فقط وبعض الحوارات الثقافية؟ وأين تسمع الفصحى إن لم يكن من الراديو والتلفزيون؟ وسيلتا الإعلام هاتان, ساهمتا في تعزيز الفصحى لدى جيل كامل من السوريين. ودروس الفصحى والأخطاء الشائعة التي كان التلفزيون السوري يبثها في الماضي, كانت تجذب حتى الشباب تبعاً لأسلوب تقديمها وطرافته في بعض الأحيان. وأذكر أن نحوياً يوسف الصيداوي كان يقدم برنامجاً في الثمانينات في التلفزيون السوري, كان يتهافت على سماعه الصغار قبل الكبار. إتاحة وسائل الإعلام السورية الفرصة لسماع الفصحى, إضافة بالطبع إلى تدريس العربية المركز في سورية, لابد أنهما ساهما في ما هو معروف عن المستوى"المتميز"للسوريين في اللغة العربية. فلماذا يقدمون الآن للجيل الجديد الكلام العامي الذي هم في غنى عنه, والكلام الهجين الذي لا يمكن كلمات مثل OK أو"مسج"أو سواهما إلا أن تلتصق به؟ إن كان الناس عموماً لا يكفون عن ترداد مثل هذه الكلمات الانكليزية في مداخلاتهم وشهاداتهم وظهورهم في التلفزيون, فليس على المسؤولين عن البرامج والمذيعين الدخول في هذه"اللعبة", بل عليهم أن يكونوا القدوة في الاحتفاظ بلغة سليمة يمكنها أن تكون وسطاً بين العامية والفصحى وهي المستخدمة في الحوارات الثقافية، ولكن ليس وسطاً بين العربية والانكليزية. يكون"التطور"في الرفعة وليس في الهبوط, في محاولة الارتقاء بأذواق الناس وتعويدهم على أساليب مختلفة بدلاً من الانجرار نحو السهولة. الجميع يريدون التحدث عن"الميل"و"المسج"و.... والتقديم واقفاً. وإتحافنا بنظرة مركزة ومدروسة وبعبارة آمرة فصيحة هذه المرة"كونوا معنا!" فمع من سنكون؟