يكشف الروائي الروسي فاليري زالوتوخا في روايته "المسلم" صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار أكت سود، باريس عن وجه آخر للحرب الروسية - الأفغانية التي انتهت بانسحاب جيش الاحتلال الروسي الى أراضيه. هذا الوجه "المأسوي" يتمثل في قضية الجندي الروسي الذي يعود الى بلاده بعد سبع سنوات من الانسحاب وقد ظنّه أهله وأهل قريته ميتاً، ما عدا أمه التي كانت تصرّ على ان ابنها حي،ّ وهي كانت تقفل الباب في وجه النسوة المعزيات. لكن حدسها الذي صدق لم يمنع دموعها من السقوط باستمرار. انها مأساة من المآسي الصغيرة التي تبدأ عادة بعد نهاية الحروب وقد تكون في أحيان أشد قسوة من الحروب نفسها. ولئت بدت أجواء الحرب أشبه بخلفية لهذه الرواية البديعة، فالرواية ستكون روسية بامتياز كون الأحداث تجري في القرية الروسية التي تدعى أرجانوفكا وبُعيد سقوط الحكم الشيوعي وتبعثر الاتحاد السوفياتي وتحول روسيا بلداً "رأسمالياً". الحرب الأفغانية - الروسية لن تحضر الا عبر الأثر الذي تركته في البطل "المسلم" الذي كان يدعى كوليا وبات يدعى "عبدالله"، وستحضر بعض صورها عبر ذكريات ضئيلة استعادها "عبدالله" أو كوليا مع أحد المحاربين الشيوعيين القدامى يُسمى "الغريب" في الرواية الذي كان رفيقه في القتال وجاء يبحث عنه لينفذ فيه حكم الاعدام لاعتباره "خائناً". على ان الخيانة المقصودة هنا ليست اعتناق كوليا الاسلام فقط وانما لرفضه قتل ثلاثة أفغانيين ذات مرة، على رغم الأمر الصارم الذي وجهه اليه الضابط. حينذاك اعتبر كوليا "خائناً" لأنه رفض أن يقتل ثلاثة من الأعداء. "فعلة" القتل هذه قام بها الغريب الذي أوصاه الضابط بقتل كوليا سواء في أفغانستان أم في روسيا. وسيقتل "الغريب" كوليا أو عبدالله بالأحرى في لحظة "عدمية" يستحيل فيها القتل فعلاً مجانياً. ولم يكن سبب القتل دينياً مقدار ما كان قدرياً. ف"الغريب" شبه ملحد ولا علاقة له بالمسيحية الا ظاهراً، وقد ذكّره عبدالله نفسه بأن رسم اشارة الصليب لدى المسيحيين تتم باليد اليمنى وليس باليسرى كما فعل "الغريب". كان عبدالله يرفض بإصرار رسم هذه الاشارة بعدما أصبح مسلماً وقد ألح عليه "الغريب" في ختام الرواية، برسمها، راجياً اياه ومبدياً استعداده للركوع أمامه ان هو رسمها ولكن لم يلبث أن رفع المسدس مهدداً عبدالله الذي لم يخف لحظة، وعندما أطلق الرصاصة في صدره ارتسمت على شفتيه ابتسامة هي من غير شك ابتسامة المؤمن الذي سقط شهيداً. ليس فعل القتل هو الهدف الذي سعت اليه الرواية وان بدا يمثل لحظة الذروة المأسوية فيها، فقضية "العودة" تكاد تهيمن كلياً على جو الرواية في معانيها المتعددة. فكرة القتل لم يسع اليها أهل القرية على رغم اعتراضهم على دين عبدالله الجديد، لكن الاعتراض ظلّ مجرد اعتراض يعبّر عنه أناس قرويون لا علاقة وطيدة لهم بالمسيحية التي اضطهدها النظام الشيوعي السابق. وان حاول شقيقه فيدكا قتله فإنما لسبب غير ديني صرف، فالمشكلة بينهما هي عائلية أو ناجمة عن "غيرة" مكبوتة لدى الشقيق فيدكا، السكّير والسارق وأليف السجن. عودة كوليا اذاً ستقلب العائلة المبعثرة أصلاً لا سيما بعدما شنق الوالد نفسه في باحة المنزل، وستحدث في القرية ما يشبه "البلبلة"، وهي أصلاً قرية تعيش حالاً من "الاغتراب" عن نفسها في مرحلة "انتقالية" مجهولة الخاتمة. وعندما وصل كوليا الى منزله وجد أهل القرية في انتظاره، النسوة الدامعات العيون والرجال والأطفال، وكان لا بد من احياء احتفال قروي بهذه العودة، على رغم الفقر المدقع الذي دفع بالأم صونيا الى "لملمة" بعض المأكولات وقناني الخمر من بيوت القرية. كان أهل القرية شاهدوا كوليا على الشاشة الصغيرة بالزي الأفغاني الذي تخلّى عنه لاحقاً ولم يضرهم هذا المشهد في ما يعني من بُعد ديني أو سياسي. ولن يضيرهم لاحقاً أن يعلموا أن كوليا تبنّى اسماً آخر هو عبدالله. وكان عليه أن يشرح معناه لبعضهم وخصوصاً للفتاة فيركا التي كان يحبها قبل ذهابه الى أفغانستان والتقاها في مظهر يختلف عن مظهرها المحتشم سابقاً. وعندما يذهب فيما بعد الى السينما برفقتها تخبره بما حصل لها وكيف عاشرت الرجال بعدما ظنت أن حبيبها مات. لكنها أصرّت أن تقول له إنها لم تكن تتقاضى المال لقاء تلك العلاقات، أما هو فسيعرض عليها الزواج حالماً بعائلة وأولاد وأحفاد، ويرفض قطعاً أن يلمسها أو يداعبها محققاً رغبتها، ما دام لم يتزوجها. يعود كوليا أو عبدالله الى عمله السابق، كمزارع فقير في قرية تحمل بعض الملامح الطريفة وليس الفانتازية أو الغرائبية كما تجلت في الرواية الأميركية - اللاتينية. فالطرافة هنا تظل واقعية وان اتسمت في أحيان بطابع أسطوري أو خرافي تصنعه عادة المخيلة الشعبية. ولعل الواقع نفسه الذي آلت اليه القرية قد تكون رمزاً لروسيا الجديدة أصبح واقعاً "اغترابياً" أو واقعاً مستلباً من خلال أشخاصه وبعض أفعالهم أو سلوكهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض. وقد نجح الروائي في اختيار نماذج بشرية، فريدة وغريبة بعض الغرابة ليرسم صورة انسانية حيّة لهذه القرية، اضافة الى المشاهد الجميلة التي صاغها ببراعة، موظفاً عينه السينمائية وانحيازه المشهدي والتصويري. وقد تبدو الرواية في أحيان كثيرة وكأنها مكتوبة من خلال منطق السيناريو، الذي لا يفيض بالتفاصيل والحوارات. وانطلاقاً من هذه الرؤية تغدو الرواية أشبه بالرواية - السينما في حركتها المشهدية والتصويرية. فالشخصيات "تتصرف" وتتحرك وتستعرض نفسها وكأنها أمام كاميرا خفية هي عين الروائي، والمشاهد تتواصل وتتقطع وتتقاطع كما لو أنها لقطات في فيلم مكتوب باللغة أو مصوّر بالكلمات. وبدا واضحاً أن الروائي اعتمد بنية قائمة على التعاقب البصري بعيداً من "اشراك" السرد وتواطؤ الراوي. كأن الأحداث هنا تقدم نفسها بنفسها من خلال مشهديتها الصارخة: مشهد الشقيقين وهما يتقاتلان مشهد سينمائي بامتياز، صورة "الغريب" بنظارتيه السوداوين وسيارته الحمراء صورة سينمائية بدروها وخصوصاً عندما يطارد كوليا أو ينزل في الفندق ذي الطابع الغريب، وكذلك مشهد الدولارات التي تطايرت من حقيبة بافيل بيتروفيتش، رئيس الادارة المحلية، فوق ماء البحيرة وراح المزارعون "يصطادونها" كالأسماك... وليس من المستهجن أن تكون الرواية حافلة باللقطات الطريفة والساخرة والمرسومة برهافة ما دام فن السرد هنا فناً مشهدياً بامتياز. أما الشخصيات فهي بدورها غاية في الطرافة وتذكّر كثيراً ببعض الشخصيات في السينما السلافية الجديدة أمير كوستوريتسا، دانوفيتش...: الأخ السكّير الذي انتقل من سجن الى آخر والذي يتضارب مع أخيه ويحاول الانحار شنقاً مثل والده، الأم الطيّبة التي تحاول أن تؤدي دور الأب، وتنصح ابنها "المسلم" بالرحيل من القرية، العرّاب الذي يتدخل في شؤون العائلة وكأنه وصيّ عليها، "الغريب" الذي يقلق القرية، الكاهن الذي يشكو عزوف الناس عن الذهاب الى الكنيسة، الفتاة فيركا وهواجسها، النسوة الغريبات الأطوار، مدير مركز التجنيد الذي يزوره كوليا بغية الحصول على الوسام الذي منحته اياه "الادارة المحلية" ويجده متعتعاً من السكر. غير أن "كوليا" أو عبدالله يظل هو الشخص الأكثر رسوخاً في الرواية، ليس لأنه "البطل" بل لأنه حقيقي وواضح في علاقته بنفسه وبالآخرين الذين هم أهل القرية، وسلوكه لن يلبث أن يشكل صدمة لأمه وشقيقه والأصدقاء والجميع. فهو يرفض رفضاً تاماً أن يشرب، حتى في الاحتفال بقدومه وكذلك في ذكرى أبيه التي أحيتها العائلة عند المقبرة، لا يدخن، لا يقترب من أي امرأة، يصلّي بانتظام حاملاً سجادته معه، صموت قليلاً ما يتكلم. وعندما تطلب منه أمّه أن يشاركها مع أخيه سرقة بعض "العلف" من القرية يرفض بإصرار على رغم توسّل أمه، وموقفه هذا جعل أمّة تبكي بعدما عادت من مهمة السرقة. وعندما يهين أخوه اسمه الجديد عبدالله وما يمثل من بعد ديني يرتمي عليه متعاركاً معه وكأنه جُرِح في الصميم. ولا ينثني عن ترديد بعض الأمثلة التي أخذها عن والده الروحي، عمر الدين، الرجل الأفغاني الذي أنقذه عندما كان جندياً، من الاعدام بالرصاص وتبنّاه وهداه الى الإسلام، قارئاً له المصحف ومفسراً له العقيدة. وعندما يطلب منه أن يعود الى ديانته الأولى يرفض، فهو صادق كل الصدق، مسلم حقيقي لا ينبذ "الآخر" الذي هو "الأنا" في معنى ما، لكنه لا يريد أن يفرض عليه "الآخر" رأيه. وفي اللحظة الأخيرة حين يوجه "الغريب" الرصاصة الى صدره يسقط مبتسماً، فهو مات مسلماً، متمماً واجباته الدينية، وكان في امكانه أن يتظاهر برسم الاشارة وينقذ نفسه، لكنه فضل الموت على الكذب. لا تستطيع الرواية أن تخفي بعدها "الترميزي" وان لم يصرّ عليه الروائي، لكن القارئ لن يسعه الا ان يرى في قرية "أرجانوفكا" صورة عن روسيا الجديدة، روسيا ما بعد السقوط البولشفي، روسيا الفساد و"المافيات" و"اليبروقراطية". انها روسيا التي لم تعد الاتحاد السوفياتي بعد أن تفكك وأضحى دويلات، لكنها أيضاً روسيا الغريبة عن ماضيها البعيد، روسيا التي ليست "وطن" دوستويفسكي الروحي ولا الأرض التي تغنّى بها بوشكين، انها روسيا التي أضحت مبهورة ب"الحلم" الأميركي. عندما يرفع بافيل بتروفيتش ورقة المئة دولار أميركي أمام أهل القرية في الاحتفال بعودة كوليا، يفاجأون وينقضون عليه يريدون لمس هذه العملة "الخضراء" ولا يصدقون أنها تساوي مليون روبل. وعندما تصل رواية "الأثرياء يبكون أيضاً" التي اقتُبس منها المسلسل المكسيكي الذي يحمل العنوان نفسه، يتهافت أهل القرية الى منزل صاحبة الرواية ليعلموا ما الذي سيحصل في الختام. أما "الكنيسة" التي باتت شبه مهجورة ولا يقصدها الا النسوة والعجائز فترمز بدورها الى روسيا الأرثوذكسية التي لم تبق مثلما كانت من قبل. ولعل الأسطورة التي يرويها أهل القرية عن البحيرة التي ترقد تحت مائها كنيسة، تختصر بعضاً من الذاكرة الشعبية الفطرية والبريئة، فالرجل الغريب سيسبح في البحيرة غاطساً الى الأسفل، وعندما يصعد يعلن بأعلى صوته أنه يحمل وحلاً بيده، ما يؤكد ان ما من كنيسة تحت الماء. يبدو الروائي والسينمائي الرسوي فاليري زالوتوخا مواليد 1954 خير وارث للرواية والقصة الروسيتين وخصوصاً مدرسة غوغول القائمة على تقنية الحدث المفاجئ والنافر الذي يهدف الى ابراز حقيقة الشخصيات. وقد نجح فعلاً هذا الروائي في جعل الشخصيات تتحرك أمام مجهر هو مجهر عينه السينمائية. الا ان ثقافته السينمائية تظهر واضحة في أسلوبه وفي البناء المشهدي الذي اعتمده وفي الايقاع السريع الذي مهما أوغل في التفاصيل لا يقع في البطء أو الرتابة. رواية بديعة حقاً، رواية "المسلم"، وأكثر ما يميّزها بعدها الانساني العميق الذي يقابله بعد تقني، قائم على الرهافة والبراعة في البناء والصقل والتورية. انها رواية روسيا الجديدة في ما تشهد من تحولات و"مآس" صغيرة، روسيا التي لم تعد تلك البلاد التي صنع جزءاً كبيراً من أسطورتها أشخاص مثل دوستويفسكي وتشيخوف وبوشكين وغوغول وسواهم.