حين أقدم أنصار مقتدى الصدر قبل أسابيع على احراق مكاتب"المجلس الاعلى للثورة الاسلامية"في معظم مناطق بغداد، إثر الاشتباكات التي اندلعت بينهم في مدن الجنوبالعراقي، لم يقدموا على ما أقدموا عليه في منطقة الكاظمية. أحرقوا مكاتب المجلس في مدينة الثورة وفي مدينة الشعلة وفي منطقتي الشعب والبلديات، أما في منطقة الكاظمية فقد اكتفى انصار مقتدى الصدر بتظاهرة عبروا فيها عن سخطهم ورفعوا فيها شعارات ضد المجلس وقادته. أما السبب فهو ان منطقة الكاظمية محكومة بتوازنات تختلف عن تلك التي تحكم المناطق الشيعية الاخرى في بغداد وفي العراق عموماً. انها الحاضرة الأكثر تمدناً من الحواضر الشيعية الاخرى، وهي منطقة حاضنة لتنوع مختلف، وهي خلاصة تجربة اجتماعية من نوع آخر. في مدينتي الثورة والشعلة ثمة تجانس اجتماعي يمثله انتماء السكان الى عشائر عربية تعود بأصولها الى مناطق جنوبالعراق، وفي هذه البيئة يتفشى التيار الصدري على نحو ما تتفشى الاشاعة في الاحياء الفقيرة. فيقترن هذا التفشي بحكايات يحملها النازحون معهم من بلادهم البعيدة، وترسل نتف من هذه الحكايات الى الابناء والاحفاد، ويتصل ابناء الجيل الثاني والثالث من النازحين بهذه الحكايات عبر وسطاء من عشائرهم تتراوح صفاتهم بين الشعوذة والامامة. اما الكاظمية فسكانها من العائلات الشيعية المدينية، وهم في اصولهم أخلاط قدِم كثيرون منهم من بلاد بعيدة ليجاوروا"الامام"، فمنهم الفارسي والآذري والافغاني والشيشاني والهندي، وطبعاً منهم العربي. وشكّل هؤلاء، مجتمعين، بعد ان اختبروا على مدى قرون تعايشهم وتبادلوا وتزاوجوا، مجتمع الكاظمية. ولهذه المعطيات علاقة اكيدة بعدم تمكن انصار مقتدى الصدر من احراق مكاتب المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في الكاظمية، واكتفائهم بتظاهرة سلمية، اذ ان هذه البيئة اعقد من ان ينفرد تيار واحد بساحتها، وهي إضافة الى ذلك قليلة الترحيب بسذاجة شعاراته وأوهامه. أشعة الشمس تسقط على رؤوس زوار الكاظم في بغداد في هذه الايام، كما لو ان لها وزناً وثقلاً. لكن الزوار والمتسوقين يمكنهم تجنب هذه الأوزان ما ان يدلفوا الى تلك الازقة المحيطة التي تظللها جدران ومنازل. الفارق في الكاظم كما في بغداد كلها بين الحرارة في الاماكن المكشوفة وتلك المظللة، كبير. ليس المزار الديني وحده سبب الازدحام بل ايضاً تلك الاسواق المحيطة به التي يقصدها يومياً عشرات الآلاف من البغداديين. انها اسواق الكاظم او الكاظمين او الكاظمية، على نحو ما ينوع البغداديون في تسميتها، في نوع من المرونة الكلامية التي يندر ملاحظتها في غير اللهجة العراقية. عبارة"مدينة الكاظم"استمدت طبعاً من ضريح الإمام الشيعي السابع موسى الكاظم، اما"الكاظمين"فتعود الى وجود ضريح ثان الى جوار الكاظم الأول، ويعود الضريح الى حفيده محمد جواد وهو الإمام التاسع وابن الامام الثامن علي الرضا المدفون في مدينة قم الايرانية. وعلى رغم غياب عبارة كاظم عن اسم الإمام التاسع اطلق العراقيون بنوع من الرشاقة التعبيرية اسم الكاظمين على المنطقة. موسى الكاظم جد محمد الجواد، ومن المنطقي ان يكون كاظماً حتى لو لم يسمه والده كاظم، تماماً كما يسمون محمد ابا جاسم، وحسين ابا علياً، ثم يستبدلون في كثير من الأحيان اسم النجل البكر باسم البنت الصغرى، كأن يطلقوا على صدام حسين اسم"ابو حلى". لا قيد على الاسم ما دام الأمر مرتبطاً بصفة سابقة عليه. العراقيون شغوفون بأئمتهم. الشيعة منهم والسنة، وللأخيرين أئمتهم ايضاً في العراق، وعلى رأسهم أبو حنيفة النعمان، ومسجد هذا الأخير يقع في منطقة الأعظمية، تماماً على الجهة الاخرى من جسر الأئمة الذي يربط بغداد بالكاظمية والذي تسبب انهيار اجزاء منه بالكارثة الأخيرة. وجسر الأئمة الذي يربط الاعظمية بالكاظمية وأبو حنيفة النعمان بموسى الكاظم، يفصل على قدر ما يربط، اذ ما ان يدير الحجاج العراقيون ظهرهم لأبو حنيفة قاصدين الكاظم حتى يطلقون نكتتهم الشهيرة باللهجة العراقية"يباوعنا حسبانا نزوروا"علماً ان ابا حنيفة النعمان واحد من أئمة السنة الذين لعبوا ادواراً تقريبية بين المذاهب الاسلامية، وهو كان تلميذاً للإمام الشيعي جعفر الصادق. وهذه وقائع وان كانت بعيدة، ولكنها في العراق حية ومادة كلام وتفكير راهن. فالأئمة يشار اليهم على انهم احياء يعيشون في مقاماتهم ومزاراتهم، وحين يقصد العراقي روضة احد الأئمة يقول"كنت يم الإمام". معظم ضحايا انهيار جسر الائمة هم زوار من مدينة الصدر اي من الجهة الاخرى لبغداد. ثمة اسباب جغرافية وأخرى قدرية وراء هذه الحقيقة. فالشيعة في العراق يقصدون الكاظمية من الجسور الخمسة التي تصلها في بغداد وفي المناطق الأخرى، ولكن سكان مدينة الصدر يصلون الى الكاظم عبر جسر الأئمة لأنه الاقرب اليهم. فمدينة الثورة في شرق بغداد، في حين تقع الكاظمية في الشمال الغربي من المدينة، واقرب طريق لابناء الثورة الى الكاظمية هي سلوك شارع فلسطين ثم حي القاهرة وصولاً الى الوزيرية والاعظمية وعبور جسر الائمة وصولاً الى الكاظمية. وتتضاعف رمزية المأساة حين تضاف اليها عناصر مشهدية اخرى تنضم بدورها الى الاسطورة فتتغذى هذه الاخيرة مجدداً من دم طازج. فسكان مدينة الثورة درجوا في السنوات الثلاث الماضية على الذهاب الى الكاظم في مسيرات راجلة، نساء واطفالاً وشيوخاً، قاطعين اكثر من عشرين كيلومتراً، محاكين بذلك تقليداً كانوا استأنفوه ويتمثل في ذهابهم سيراً الى كربلاء في ذكرى عاشوراء. والمواكب الراجلة الى كربلاء حاضرة في التاريخ الشيعي بصفتها سعياً الى اعادة تجديد مشهد عاشوراء وايحاء بأن الشيعة سائرون الى انقاذ الحسين، وما ان يصلوا الى منطقة طويريج القريبة من كربلاء حتى يباشروا ركضاً يسمونه"ركضة طويريج"في محاولة اخيرة للوصول الى الامام قبل فوات الاوان. في السنوات الثلاث الماضية جرى تكثيف للطقس الشيعي بحيث تم تعميم المسيرات الراجلة الى كربلاء على المناسبات المرتبطة بأئمة آخرين، وصار سكان مدينة الثورة يتوجهون بمسيرات تضم عائلات بأكملها مشياً الى الكاظمية. وخلال سيرهم الطويل هذا يقيم لهم سكان الاحياء التي يعبرونها سرادقات راحة يتوقفون فيها ويستريحون ثم يتابعون سيرهم الى"الإمام". عادة ما كان يتولى جيش المهدي مهمة حماية وتنظيم هذه المسيرات التي لا تتجه في موكب واحد. فمقتدى الصدر ومشايخ تياره الشبان اكثر مرونة في تجديد الطقوس واكثر اقبالاً على تكثيفها وشحنها بانفعالات جديدة من مواقع شيعية اخرى مثقلة بتقاليد المرجعية، او بالتزامات"طقسوية"اخرى. اما هذا العام فمنعت الشرطة العراقية جيش المهدي من تولي هذه المهمة، وما ان حصلت كارثة جسر الأئمة حتى هبّ الصدريون الى ربط ما حصل بمنعهم من عملية التنظيم والحماية للمسيرات الكاظمية. والى جانب السعي الى الربط بين السبب والمسبب تستيقظ حكايات تنسب الى"اولياء"حاضرين دائماً في ظاهرة الموت الشيعي منذ"خُذل الامام"، ولا يسعى جيش المهدي الى طرد هذه الحكايات، لا بل يميل ناشطوه السمر والفقراء الى استقبالها بخوف وتوجس، على نحو ذلك الخوف الذي كانوا يستقبلون به جثث آبائهم واخوانهم حين كان يرسلها اليهم صدام حسين الى منازلهم في مدينة الثورة. عبر عشرات الآلاف من ابناء مدينة الصدر جسر الأئمة في ذلك اليوم يوم وفاة الكاظم من الاعظمية الى الكاظمية. انه امر طالما فعلوه في السنوات الثلاث الاخيرة على رغم ما يحف بهذا العبور من مخاطر فعلية. فقبل سنتين انتظر خمسة انتحاريين وصول الزوار الى المقام وفجروا انفسهم بهم. يومها كان العراقيون حديثي العهد بهذا النوع من العمليات، وتوقع سدنة الروضة الكاظمية ان يؤدي ذلك الى تقلص عدد الزوار. لم يحصل ذلك، بل ربما شحنت هذه العمليات الزوار بمزيد من الانفعالات التي تقتضيها الزيارة. لا يتعلق الامر بشجاعة او بروح تحد، وانما بجعل الزيارة محفوفة بموت يقربهم من الامام. موت مأسوي وليس بطولياً. يومها يوم الانفجارات الخمسة كان مشهد الكاظمية غير منسجم مع روح غالباً ما خيمت على المنطقة. فالدم الحقيقي الكثير الملطخ على جدران الروضة الكاظمية كشف بهتان مشاهد الدم التي رُسمت على جداريات عاشورائية عرضها تجار حول المزار لبيعها الى الحجاج. اما فجيعة هذه السنة فكانت من دون دماء، اذ خلا مشهد الموت من الدم. كان موتاً أبكم، وهو بذلك يكون قد أضاف الى الفجيعة الشيعية بعداً جديداً، ولكنه ايضاً يعزز من قوة الاسطورة. غالباً ما يستقبل أهل الكاظمية زوار الكاظمين بأسواقهم التي يعرفها البغداديون بصفتها اسواق التجار الفعليين. التجار الذين اكتسبوا مهاراتهم بفعل الاحتكاك اليومي بأنواع مختلفة من الزبائن. المتجر في الكاظم هو بمعنى ما معرض اذواق مختلفة، اذ يرتبط بأنواع كوزموبوليتية من السلع الرخيصة. السجاد الذي رسمت عليه الصور المتخيلة لآل البيت والتي حاكها او صبغها عمال عراقيون من اصول فارسية او هندية او افغانية، والسكاكر القادمة من سورية وتركيا، والعباءات السود المستوردة من ايران ومن دول خليجية، وانواع من الاقمشة الآسيوية، ولمعظم هذه السلع وظائف في عملية الزيارة وفي مراحلها. وفي الوقت الذي تصدح فيه مدينة الثورة بأسماء العشائر العربية القادمة من أقصى الجنوب، كالعمارة والكوت، تعيش عائلات شيعية عراقية في مدينة الكاظمية. اسماء عائلات عراقية ولكنها تنتمي الى منظومة معانٍ مختلفة، انهم آل الاسترابادي والشهرستاني والوردي والصدر والخالصي والنواب وابو التُمّن والشبيبي. وعلى قدر ارتباط هذه العائلات بتواريخ قدومها من الشتات الشيعي في معظم انحاء العالم الى الكاظمية لمجاورة الأمام والاتجار في محيطه، ترتبط هذه العائلات بتواريخ حديثة غير شيعية ايضاً. فآل الاسترابادي مثلاً خرج منهم عدد من فقهاء القانون الوضعي، وعائلة ابو التمن خرج منهم جعفر ابو التمن مؤسس الحزب الوطني العراقي، وهو من اوائل الاحزاب الليبرالية في العهد الملكي. علماً انه عقب الانقلاب العسكري الذي اطاح الملكية لجأ رئيس الوزراء في حينها نوري السعيد الى منزل عائلة من آل ابو التمن، وقتل اثناء محاولة هذه العائلة تهريبه. اما العائلات الدينية الاساسية الثلاث في منطقة الكاظمية فهي الخالصي والصدر والشهرستاني، وهي بدورها خارج منظومة التشيع بمعناه العشائري العربي، وان كان مقتدى الصدر يحاول دائماً ان يستثمر علاقات والده في هذه البيئة، ولكن يبقى ان آل الصدر وهم من الكاظمية وأصولهم الأبعد ايرانية، ينتمون اجتماعياً الى نوع التشيع الكاظمي نسبة الى الكاظمية. اما آل الخالصي ومن بينهم السيد جواد الخالصي فهم اصحاب فهم خاص واكثر انفتاحاً لمعاني التشيع، وهو امر عزز من ارتباط ابناء الكاظمية الشيعة بجيرانهم في الأعظمية، خصوصاً ان للخالصي ولتياره في الكاظمية علاقات متينة بعدد من القوى السنية في العراق. مع الاشارة هنا الى ان العلاقات بين سكان المنطقتين اللتين يفصل بينهما نهر دجلة ويصل بينهما جسر الأئمة لم تشهد اي توتر يذكر على رغم الاحتقانات الطائفية التي يعيشها العراق. فالمشهد بالأمس، كما لاحظ مراقب، كان نموذجياً لوقوع صدام لم يقع. شيعة في مزار ديني يتعرضون للقصف وتسري اشاعة عن انتحاري تؤدي الى تدافع يقضي على أثره نحو الفٍ منهم. وفي الجوار حي سني مكتظ. ما حصل ان السباحين المحترفين السنة في منطقة الاعظمية لعبوا دوراً كبيراً في عمليات الانقاذ. ولكن طبعاً لن تصنع سنونوة واحدة ربيعاً للعراق. مدن عبدالكريم قاسم أنشأ عبدالكريم قاسم مدناً صغيرة في محيط الكاظمية على نحو ما انشأ مدينة الثورة في نهاية خمسينات القرن الماضي. أبرز هذه المناطق التي يسميها العراقيون مدناً هي مدينتا الشعلة والسلام، وأسكن قاسم في هذه المدن الفلاحين المهاجرين من الجنوب، فتكاثر هؤلاء وشكلوا أحزمة سكن شيعية كثيفة حول الكاظمية. لكنه سكن لا يمت اجتماعية الى مجتمع الكاظمية بالكثير من الصلات. انه أقرب الى مجتمع مدينة الثورة البعيدة جغرافياً عنه. وفي الشعلة والسلام تمكن جيش المهدي من اختراق السكان وتجنيد الآلاف منهم. لم يقضِ من ابناء الشعلة والسلام عدد كبير في كارثة جسر الأئمة، ففي لحظة التدافع تلك يبدو ان الجميع قصد الاتجاه المفضي الى منطقته التي قدم منها. مدينتا الشعلة والسلام لا تربطهما بالكاظمية جسور. سكان مدينة الثورة تدافعوا في اتجاه الجسر، فانقلبت ضفافه وراحوا يفيضون عنه الى النهر الذي ابتلعهم ولفظ أحذيتهم الى ضفتيه.