خدعنا التاريخ. لكأننا لا نعرف أن التاريخ مركب من الخدعة. سنوات، ونحن نلوك النظريات بلا تمحيص، من دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن حقيقتها. وهل للكائنات، والأشياء، حقائق؟ لا! لها أشكال فقط. وهنا تكمن خدعة التاريخ التي لا تحتمل. سنوات، والخليج العربي، وحتى الجزيرة العربية، لا يشكل بالنسبة لنا، نحن سكان بلاد الشام، مثلاً، سوى خلفية نقودية، بلا جوهر! وما كنا لنتساءل، بمن في ذلك المتفقّهون، في السياسة، منا، إنْ كان يمكن أن تحيا الكائنات بلا جوهر! بلا جوهر عميق وخلاّق. ولم يكن المسؤول عن ذلك سوى الإدعاء الإيديولوجي، وبخاصة في شقه اليساري، الذي أخذ على عاتقه تأهيل العالم للثورة الشاملة التي أجهضتْها"الثورةالسلعية"، مبكراً، مع الأسف. كنا نتصوّر أن النقود عندهم، هناك. وأن"الثقافة الإنسانية"عندنا، هنا! ولم يكن ذلك إلا وهماً. ولكن لماذ خدعنا إلى هذا الحد، وخلال هذه الفترة التاريخية الطويلة؟ هذه الفترة الحرجة التي أشرفنا فيها، مجتمعات، وثقافة، على الهلاك. خدعة حلوة، مثل كل الخدع الذاتية، تلك التي عشناها بلا تأنيب ضمير، إلى أن اكتشفنا، أخيراً، أن الوهم هو الذي كان يسقيها من نبع غبائنا الذي نضب تحت تأثير النور الحارق لما يمكن أن يُسمّى:"حقيقة الوضع"، تلك التي لم يعد نكرانها مجدياً. في"بلاد الخليج"مقابل"بلاد الشام"، تجولتُ. من قطر إلى الشارقة، إلى دبي، إلى البحرين، وأخيراً ابو ظبي، وذهلتُ! كيف تحولت الصحراء، والماء الأجاج، إلى"مدن حديثة"بالمعنى الدقيق! مدن مختلطة، متباينة الأعراق واللغات، متعددة الأشكال والوجوه، حديثة الشكل والجوهر، لا سابق لها في العالم الذي كان يُسمّى، من قبل:"بالعالم العربي"! التمازج الصريح لعناصر الطبيعة الأساسية: الصحراء والماء، يقابله، هنا، اختلاط ملتبس، بين الاحياء الذين صاروا يستشرفون، على رغم كل شيء، مستقبلهم الحياتي، معاً! ومع ذلك لا يبدو"الوضع"مهيّأ لهضم هذه الخلائط الانسانية التي التجأ بعضها إلى بعضها الآخر، لأسباب شديدة التباين والإختلاف. وما زال يهيمن، في هذه"المجتَمعَة البشرية"، كما هي الحال في المجتمعات الإنسانية الأخرى، منذ مجتمع أثينا التاريخي، استغلال الانسان للانسان، على سياق الحياة، وعلى نظامها المعرفي. ولكن لماذا هذا الهذر الكلامي؟ ذلك، كله، لأقول أن المراكز الأم للعالم العربي، أو مدنه التاريخية، مثل القاهرة، ودمشق، وبغداد، مثلاً، هي اليوم في خطر! خطر الجمود، وخطر التجانس العرقي، والسكونية الثقافية. خطر الركود الإيديولوجي، والنظرة الأحادية للواقع، للعالم، وللكائنات. خطر أن تصير هي"مدن الملح"، التي احتقرناها، أو أن تلاقي المصير المخيف، نفسه: أن تتفتّت في همجية القرن الجديد المتخم بالسلعة. تصوّر شخصي جديد، تحسه يتحكّم في البنية الإجتماعية، هنا. ولكن ما هو هذا التصور؟ لندع ذلك، الآن، جانباً، ولنتحدث عن"الإستخضاع العميق للكائن"!"أثينا"مقلوبة، أعيد خلقها بعد أكثر من ألفين سنة، على أطراف الصحراء العربية، وبين رمالها المتوّجة بالشمس. البحر كان العامل الفعّال في أثينا الأغريق التاريخية، وهنا"يتعاضد"البحر والرمل والشمس و"أشياء أخرى"أكثر جذباً للأيدي العاملة التي أسقطت الكثير من مطالبها الأساسية من أجل"البقاء على قيد الحياة"، بأقل كلفة ممكنة، و"بأحسن الشروط المقبولة للتنازل". "مدن الملح"، تقولون؟، هأنذا أسمع الحِداء الجميل يتصاعد من أفواه الرجال السُمْر الذين يلبسون الأبيص الناصع، ويتمايلون بأبهة جسدية خائلة، فوق المرمر النظيف، تحت أشجار باسقة في قلب الجماد! لكأنهم عائدون من معركة منتصرة، مع أنهم بالكاد خرجوا، للتو، من بيوتهم المكيّفة، والمؤثثة بالرفاهة، وكل ذلك بمناسبة"معرض الكتاب"! وأكاد أرقص عجباً! وأرقص واقفاً في مكاني، والعيون الصامتة تراقب حركاتي. أنا الآخر، أعرف الحداء: حداء أبي الذي كان يسطو على"حلال"الغير في"الظلمة"، ويعود به، مشمراً عن أفخاذه السود العميقة، وهو يزدهي طرباً! أي خمج فكري يشوّه الحياة؟ ولماذا نعذب أنفسنا بالتفكير في أشياء تتجاوز"الآنية"لأنها حية، متجددة، ولا سبيل إلى تجاهلها؟ الشكل العيدي للحياة يسيطر على"الأهالي"، هنا، وأنا الذي من"بلاد الشام"، أغرق في أفكار سوداوية بلا مصير! لماذا لا نواجه الهزيمة التي أملاها التاريخ علينا منذ عقود،"بعزة نفس"؟ فوق الحادين بلا عيس، تشهق الأبراج العالية نحو السماء، عارضة جمالها العمراني الساحر، ومؤكدة، في الوقت نفسه، أنْ لا معنى للحداء بلا عيس! وحتى الأبراج نفسها، تكاد تصبح بلا معنى! لكننا نتعلم من الأسفار أن انعدام المعنى هو المعنى العميق للكينونة! لا للكينونة وحدها، بل للأشياء، أيضاً. أريد أن أقول يكفي أن ننظر حولنا بتعمّق مدرك لنقتنع بأن الوجود الإنساني أشد كثافة، وأكثر تعقيداً من تصوراتنا السطحية البائسة عنه! في"أثينا"التاريخية أعطتنا النخبة تصورات خالدة عن المصائر الانسانية، وعن الفلسفة العبادية، وعن الاخلاق، والعلم. وخلفت للعالم ميثولوجيا خالدة ما زلنا نرضع منها. لكن الحياة المسماة، اليوم، حديثة، وبخاصة هنا، لم تعد تسمح بمثل هذا الصعود إلى الخلود. ولا يكفي أن توجد نخبة لكي تكون مبدعة.""أثينا مقلوبة"ولدت هنا فوق الرمال العربية بلا أي بعد ميثولوجي، أو معرفي، وإنْ كانت تعجّ بالطامعين، كما في"أمها القديمة"التي سيطرت على جزر الأغريق. هنا، حل صراع المال محل الصراع الفلسفي، والعمائر صارت تقابل المصائر، والأبراج حلت محل الأساطير، وإنْ ظلت العلاقة بين الوافدين،"المؤلفة جيوبهم"وبين المواطنين الأصائل، تشبه إلى حد بعيد، العلاقة القديمة بين النخبة الأثينية، والوافدين إليها، عفواً، أو المجلوبين بقوة السيف، التي تماثلها، اليوم، هنا،"قوة المال"، تشبهها، حتى لتكاد تكون صورة مستنسخة عنها، بعد آلاف السنين! وليس في الحياة عجب. فالحياة الحديثة، في الشق العربي من الكرة الأرضية، همّشت الفن والفكر والكائن، ولم يعد يهمها من الواقع سوى الكسب الحثيث. ليكن، سنرى إلى أين تصير. هذه الأبراج الرائعة، بغض النظر عمن يسكنها، لم تنشأْ من عدم، مع أنها بُنِيتْ فوق الرمال. وهي لن تذهب سدى، أيضاً. كمية هائلة من الحداثة تجثم على القلب منذ النظرة الأولى. خليط البشر المتمازج، شكلاً، مثل أحياء تتساكن، ولا تتعاون، هو الذي يملأ الفضاء بألوانه وأصواته. هذا"الخليط الأممي"، أيكون، في النهاية، عنوان المرحلة المقبلة للمدينة العربية التي دخلت الفضاء الثاني للحداثة؟ سنكتب لأن الحياة كتابة. كتابة جسدية لا مناص من طرحها للقراءة الكونية، ذات يوم. هذا ما يوحي به، هنا، هذا الخليط الغامض لأفواج البشر القادمين من أنحاء الأرض الأربع! أيكون الخليج العربي هو التمثيل الأقوى"للمدينة الأممية"التي ستخرج من رحم المدينة العربية القديمة المحصورة بالأهلي، والمطوٌقة بالتماثل؟ لا يمكن التكهن بما ستتمخض عنه الحياة، حتى ونحن نصنعها بيدينا، فكيف والعالم، كله، يتدخل في صنعها في هذه الناحية من الكرة الأرضية؟ ولكن كيف غاب عن افكار المنظرين العرب"الأبرياء"ما ستؤول إليه هذه الناحية من الأرض العربية؟ ولماذا لم يدركوا أن للصحراء شياطينها، ولها أفانين حياتها التي لا تحدها حدود، وبخاصة عندما تكون اديولوجية. أما زال لدينا الوقت، نحن سكان"العالم العربي العتيق"، وهل ذلك ضروري، لنلحق بركب"الحداثة السلعية"، التي تسود هنا؟ طالما أننا تعثرنا في الوصول إلى"الحداثة الفكرية والإجتماعية"التي كلفتنا الكثير من اللَغْو والصراخ، وما زالت تفعل ذلك. أما زلنا قادرين على أن نترك شمس الحرية تنير فضاء عالمنا المملوء بالأجناس والأقليات التاريخية التي كونت الفضاء العربي منذ فجر التاريخ. أقصد: تاريخ البُحير المتوسط بين قارات العالم القديم الثلاث. عندما ننطلق من اللاشيء، نبدع أشياء لا تاريخ لها ولا ضرورة. وهو ما يسم الحياة العربية، هنا، حيث تحولت السلعة أسطورة، أهميتها تكمن في تجددها اللامتناهي! وهو ما يعطي نشاط الكائن صفة الزوال السريع، والعديم الفعالية. الكائن مرموق بقدر ما تكون السلع التي يحوزها مرموقة، وهو ما يحرف الإدراك عن الجوهر إلى المظهر. ميثولوجيا السلعة هي التي تتحكّم في نشاط هذا الخليط البشري الذي يحركه"سباق التسَلُّع"، ويجذبه الاستهلاك كما تجذب العشب الخراف! مدن حديثة!"ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان"! مدن هجينة، تاريخه العاطفي، وحتى الثقافي، لم يعد له محل في ما يسمعه منها ويراه! ولكن، هل من الضروري، أو الممكن، أو المرغوب فيه، أن نحتفظ بأماكننا، وأن نحافظ على"تواريخنا"، إلى الأبد؟ أتمتع بمرأى العالم حتى عندما يكون عدائياً. أريد أن أرى وجه البحر، لكنه مغمور بهذه الأبراج التي تلمع في ضوء الشمس، مثل مرايا بلا تخوم. أمشي تحت وهج الشمس الحامي، وحيداً، قبل أن أعود. شعور غامر بالطيبة والإنشراح يملأ صدري. هذه الأبراج بجمالها الأخاذ، وفتنتها الباذخة، تنشر الطمأنينة في العدم الرملي الذي غدا مدينة! قدر الكائن أن يظل غريباً. وأنا سعيد بغربتي اللامتناهية بين هذه االشواهق التي لا تعرف حتى ساكنيها. أحب انعكاس صورتي في الزجاج. في زجاج هذه الأبراج التي تحجب وجه البحر. أحب صورتي الجديدة لأنها تبدّل هيئتي: تجعلني أطول، وأنحف، ولي شكل غريب! تجعلني أرى نفسي من زاوية مخادعة، تملأني بالإنشراح، ولو عابراً! وفي النهاية، أوليس ذلك ما يلخّص بعد الحداثة السلعية؟ حيث يلعب النظر دوراً فتّاناً في غواية السلعة التي نقضي حياتنا، كلها، في طلبها، من دون أن نصل إلى ما نريد. فهي تتكاثر، بسرعة ضوئية، ويمكنها أن تتجدد إلى ما لا نهاية، ونحن محدودون في شكل مريع! هنا، قفزوا، لأسباب كثيرة، إلى مرحلة"ما بعد الحداثة السلعية"، تاركين الحداثة العربية المشوّهة جاثمة، مشغولة، بتفاهاتها، وأفكارها المثقلة المتقلبة، وترددها اللامجدي بين الإقدام والتراجع. إنهم"الحفيد الشيطاني"الذي كبر، فجأة، وشبّ عن الطوق الإيديولوجي، فغدا ليس، فقط، أكبر من"الجد الأعمى"، وإنما صار يقود خطواته، لأنه مبصر وحديث! في المساء الأخير، أمشي، وحيداً. أضواء الشوارع المتعامدة بانتظام تملأ القلب بالأسى. كل شيء متسق ومكشوف. لا دخلات صغيرة، ولا اعوجاج، ولا خرائب، ولا بنايات قديمة، ولا شيء عتيقاً! اكتشف، بأسف، صرامة الجديد وعبثيته. الجديد الذي يبدو وكأنه لن يصبح قديماً لأنه سيُجدد باستمرار! لكأن"مفهوم الجديد"هو الذي يعطي الحياة المبرر لمتابعة مسيرتها العدمية! "الجديد"يكتسح التاريخ، هنا! وأتساءل إلى متى يمكن الأساطير أن تُدفن تحت الرمال؟ وكيف لنا أن نعزل بين الرؤية والإدراك؟ لا! ذلك يبدو لي أمراً شبه مستحيل. فقوام الكائن، كما الشيء، هو صورته التي أمامي! كنت أحب أن"أقرأ"ما أرى في شكل أقرب ما يمكن إلى الحقيقة، لكن"أُميتي"الحداثية لا تسمح لي بمقاربة كهذه، في ظرف كهذا، منغمس أنا فيه عفوياً! فلأكتفِ بعواطفي التي تملي على القلب رؤياه، وعلى العقل الكلمات التي يقذف بها بلا تزييف، حتى ولو ساءت، من دون قصد مني، إلى الكثيرين من أصدقائي. ولم يبق لي، الآن، إلا أن أعترف ما أقبح هذه العبارة بلا شيء للاأحد، وأن أنتهي من الكتابة على الفور. وأبدأ المشي من جديد. * روائي سوري مقيم في باريس.