مساء، أجلس وحدي تحت قصف الضجيج: موسيقى الديسكو الصاخبة، واهتزاز الآسيويات اللدن، وألحان البوب الهادرة، وأصوات فتيات جئن من آخر الدنيا، ليغنّينَ أمام مجموعة من "الخراف" الآمنين الذين لا يكفون عن رفع أقداحهم، وهز بطونهم التي امتلأت بالأطاعم والسوائل والخليط. لا أحد يتكلم العربية، حتى أن صوتي صار نشازاً. لكن الجميع يتمكنون من فهم ما تريد، طالما يتعلّق الأمر بالمأكل والمشرب والجلوس بسكون. ومع ذلك سيسألونك، متعجبين: ألا تتكلم الانكليزية؟ بلى! ستقول، مضيفاً: لكنني لا أعرفها. ولن يضحك أحد، فالصراخ الأصمّ يخرِّب نكهة اللعب عند جميع الحاضرين. صحيح أن الفضاء، هنا، شكل مبهر من "الحضارة"، فهو يتجاوز في "شكلانيته" حتى أوروبا التي جئت منها الى هنا في مهمة طبية. لكنه قطعة من "الحضارة الأميركية" التي نعرفها، بصخبها، واستواءاتها، وأبراجها الشاهقة التي تبصق على البحر في شكل مجاني. انها الشكل الأكثر بهرجة من هذه "الحضارة" العدائية التي بدأت تنتشر هنا "كالنار في الهشيم"! حضارة المصرخ، والمرقص والدولار، و"لغة الآخر" التي صارت، على رغم كل شيء، كونية. وسنكون مضطرين، هنا، لسماع أغنيات لا مكان لها في تاريخنا العاطفي، أو الأخلاقي، أو الاجتماعي، على الأقل عندي. لا أم كلثوم، ولا عبدالوهاب، ولا سيد درويش، ولا فيروز، ولا حتى صباح فخري لأذكر سورياً. وفي الرقص، لا تحية كاريوكا، ولا سامية جمال، ولا نجوى فؤاد، ولا... ولا... لا شيء سوى ما يفضّله "الانكشاريون الجدد"! أولئك الذين صاروا يفرضون ذوقهم الجمالي على المحيط الخاضع لخدماتهم اليومية. "ومن يعمل يفعل ما يريد"، تلك هي قاعدة الحياة. الآسيويات سافرات، متبرجات، يتمايلن وهن يمشين الهُوينى، يبتسمن وهن يعملن ليل - نهار، وكأنما أوكل اليهن أمر البلاد! ولحضورهن الفعلي في الحياة، أخشى أن يتحكَّمن، ذات يوم ان لم يكن قد وقع المحظور، بعد، في ذوق الرجل، وفي جنسانيته. في قلبه، وفي نظرته للمرأة، وحتى "للحب". هؤلاء الانكشاريون الجدد سيكونون، قريباً، هم كل شيء في حياة العرب الخليجية. وسيتحكمون، ربما، بكل شيء فيها من الجسد الى القلب، وبخاصة في الفكر ونمط المعاش، حتى ولو بدوا ذوي مسكنة! نحن من هم نحن؟ لسنا ضد امتزاج الكائنات، فنحن بحاجة الى كل هذه الأشكال لنكون الصورة النهائية للواقع. لكن هذه الصورة الإنسانية ذات البعد الواحد، والشديدة الفقر، السائدة هنا، هي التي تخيفنا! اضافة الى ذلك فإن مظاهر "ذوبان" الثقافة العربية الإسلامية في خليج من اللغات والعادات والأنماط، مهما كانت دوافعه ومبرراته، يثير القلق حتى وان بدا بالنسبة لبعضهم قلقاً غير مبرر. وكما قال أحدهم "إذا أردت أن تُفتِّت أمة فابدأ بتفتيت ثقافتها"! لماذا لا يفهم العرب، إذاً، ان "التحضّر" ليس في الشكل والهيئة، وانما في المعنى والجوهر، في الفكر لا في اللباس، في التمتع بالحياة لا في التهام الأطباق المحفوظة، الخارجة، للتو، من بطون البرادات العملاقة؟ لكن الجمهور الذي "فُرِّغ" من محتواه، والذي خُلِع عنه أحد أسمال ثقافته الإنسانية، هو الذي "يريد ذلك"! يقولون! وتلك هي علامات "امبراطورية الهباء". امبراطورية سيتوج عليها، ربما، ذات يوم، "المماليك الجدد"، هؤلاء الذين يسيِّرون، الآن، أمور الحياة اليومية، بكاملها. وهم سيستحقون ذلك، إن حدث. "فما يحدث هو الذي سيسود، دائماً، في حركة التاريخ" التي تمحي سريعاً ما لم يحدث حتى ولو ظلًّت ذكراه حاضرة! وأحب الإصرار على هذه "المقولة المرعبة" حتى نتبين "الخطر" فيما نراه أمراً عابراً لا شأن له، وهو يتسلل، متجذراً، في لا وعي أو وعي "جمهور" اضطربت عنده، عميقاً، نقاط ارتكازه الثقافية. لست بحاجة الى أن تعيش، هنا، دهراً، لتكتشف ان المجتمع يحيا في "حاضنة" عملاقة متعددة البؤر والمستويات، وأن علاقته بالمحيط أصبحت اصطناعية بحتة. ولربما كان ذلك، كله، من مسؤولية الشمس. فعندما تجرؤ على السير في الشوارع بضع خطوات، فقط، تحس نفسك تصارع وحشاً أسطورياً مصنوعاً من مادة الشمس، نفسها. المادة التي لا تقاوَم. ومع ذلك، فإن هذه العلاقة "المقلوبة"، مع الطبيعة، تستوجب النظرة النقدية اليها قبل أن تحل الكارثة! هنا، أتصوّرني في "مدجنة انسانية كبرى"! فلم يعد للوجود المحلي جوهر خاص به، ولا يبدو الهدف من هذا الوجود واضحاً، ولا صريحاً، الا إذا كان يكفي ان يستهلك الكائن البضائع، فقط، حتى تلك التي لم يسهم هو في انتاجها، ولست أدري ان كان باستهلاكه، هذا، سيكون لذاته "هوية" تاريخية! هذا ما توحي به لي تلك الكائنات "الصورية"، وما تعبّر عنه في سلوكها. لكن الخطأ، في مثل هذه الأحوال، ممكن دوماً. وهذه الإمكانية هي التي تعطي المقاربة النقدية للواقع أهميتها. فنحن نعرف "أن للخطأ دوره التاريخي"! وأن "من يخشَ الخطأ يفقد الصواب". ستتألم طويلاً هذه "المعزلة"! ستتأمل كيف أن أي واحد هنا قادر على اقتناء "صورة" العالم، على شراء كل ما يريد، متوهمين أنهم بذلك يحوزون على "العالم" الذي أنتج ما اقتنوه. لكن العالم يظل عصيّاً علينا مهما اشتريناه. وهو مصدر الحس بالمأساة. بمأساة لا نهاية لها، توجب العود الأبدي الى "البضاعة" التي لا تتوقف عن التجدد والتكدّس والدعوة الى اقتنائها، من جديد. انها مأساة ضد - اغريقية. لا خلفية أخلاقية، أو عاطفية، لها، ولا يرجى منها تطور معرفي أو سلوكي، وانما نكوص مستمر الى أطوار الحياة الأولية القائمة على "الحيازة" و"الحوش"، من دون أن يكون ذلك مصدر ثراء انساني، وانما افقار مستمر بلا أفق! "مأساة عربية" أريد أن أقول بصراحة، على رغم مظاهرها المفرحة، الكثيرة الألوان. مأساة وجود بلا كينونة، وكائن بلا جوهر، وتجمعات بلا هوية، وشكل بلا معنى. لا أدري! هل يكفي أن نحوز على "الصورة" لنمتلك الأصل؟ أن نستعمل الغرض لنكون على مستوى مبدعيه؟ أن نلفظ الكلمات ليتسنّى لنا المعنى؟ تساؤل تصعب، الآن، في هذا "الوضع" المعقد المترع بالآلات والأغراض المستهلكين الذين يتصرفون بمنتهى الراحة والاطمئنان، الإجابة عنه اجابة مرضية. انه وضع "محيّر"، أو هكذا يبدو لي. وضع يوحي بوجود قد لا يعقبه تاريخ انساني جدير بالتأمل والاقتداء! هذا ما يُخيّل لي هنا والآن. ولأني أحترم "ما يُخيّل لي" فإني أسجله كما يأتي بلا تحريف، من دون أن أدّعي العصمة عن الخطأ. ماذا بقي لي، الآن، أن أفعل غير أن أشرب قهوتي في "سنزيو"، وأن آكل شيئاً خفيفاً في "برغركينغ"، وبعض الحلوى في "هوارديز"، وبعد أن أمر على كثير من المحلات الأوروبية والأميركية الرائعة التكوين والمحتويات، أستريح، قليلاً، في "ماكدونالدز"، ومن جديد الى فنجان قهوة في "مسز فيلد"، وسيكون عشائي في "دجاج كنتاكي" وان كنت قد سئمت هذا النوع من "الفرافير"، فما عليّ إلا أن أذهب الى "ماريوت"، أو الى "لاند مارك"، أو الى "سيتي سنتر"، أو الى أحد المطاعم الهندية، "بُخارى"، مثلاً، قبل أن أعود الى الفندق المكيّف، مستقبلاً من أصدقائي الآسيويين، ذوي اللطف المتميز. في "أوروبا" تدرك ان المجتمع الاستهلاكي ليس "صيغة جوفاء"، وانما هو نمط حياة انسانية خُطِّط لها منذ عشرات السنين، وترافق مع انتقال المجتمع الأوروبي من الطور الزراعي الى الطور الصناعي/ التجاري المتقدم الذي استوجب حركة اقتصادية، وسياسية، حرة، محورها الربح بحسب قانون: دعه يعمل، دعه يمر. نمط حياة يعيشه الناس، كلهم، كل يوم. يعانون منه، ويناضلون ضده. ثمة ضحايا له، ومستفيدون منه. أما هنا فالاستهلاك وليس المجتمع الاستهلاكي مظهر بلا جوهر! لا علاقة بين الكائن وما يستهلكه سوى النقود، وهي ليست حصيلة جهده اليومي، في الغالب، على العكس من الأوروبي الذي حصل على نقوده بعرق جبينه. وانعدام هذه العلاقة المنتجة للاستهلاك هو الذي يحدد مصائر الكائنات، وطبيعة الثقافة التي يعيشونها، هنا، وهناك. أخيراً، على أطراف الصحراء القطرية المحيطة بالمدينة، تتغير نظرتك للأمور. تفهم أن "الارتماء في أحضان نمط الحياة المستهلكة"، هذه، والأميركية منها، في شكل خاص، ما هو إلا محاولة للانتقام من هذه الرمال اليابسة التي تبدو وكأنها قد خرجت، توّاً، من فوهة الجحيم. ولكن السؤال يبقى مطروحاً: الى متى يمكن أن يستمر تحدّي هذه الصحراء التي بلا حدود؟ وهل يكفي أن نختبئ عنها داخل "الباطون" المكيّف ليلاً ونهاراً، لكي نحقق سيادتها الوهمية عليها؟ برفقة صديقي الهندي "بارفيز خان" الذي تعرفت اليه حديثاً، وعلى متن سيارته الجيب الصحراوية ذات اللون الخمري، سنتوجه، عصر ذلك اليوم، الى الصحراء، خارجين من "الدوحة". ومنذ أن أرى الرمل أحس بالغليان في قلبي! "أحب الحياة كثيراً"! اكتشف هذا هنا. اكتشاف سيدهشني بصرامته! ولكن، لماذا هذا الإحساس الآسر، في هذه الصحراء المحترقة بالشمس؟ في الطريق، أتوسّم حولي المناظر والفضاءات: زرعوا الصحراء دوراً ونخيلاً، والصحراء، هذه، تحتمل كل شيء. صحراء تجابه مثل هذه الشمس المرعبة لا يعود يهمها، من بعد، شيئاً. فليزرعوا ما يشاؤون. وأصير أضحك في قلبي: يظنون أنهم سيروِّضونها بقليل أو كثير من الشجر والدور، وهي تعرف أن المدن، هذه، مهما امتدت، فهي تظل واقعة تحت رحمتها، وحدها، أشجارها الصغيرة اللاطئة بين ذرات رمالها تهفهف، في نسيم العصر، متحدية وهج الشمس الشيطاني. شمس الصحراء الأزلية التي حوّلت غاباتها الأولى الى "بترول"! على جانبي دربنا الذي يمتد باستقامة مثالية، نمر بقرى وحواضر باهتة وبلا حضور، حتى أنني لن أسجل اسماً من أسمائها. قرى اصطناعية تبدو مثل دساكر تعرف أنها ستخسر الحرب، ذات يوم، وهي لا تنتظر، الآن، إلا الأمر الآجل بالإخلاء... حتى الأزوال التي تمر بالقرب منا تبدو أشبه بشخوص فيلم خيالي يتحركون على سطح كوكب آخر. لدرجة أننا لا نلقي عليهم السلام. لكأنهم جبلوا من الرمل، هم أيضاً، ودماؤهم ليست سوى البترول. قبل غروب الشمس، بقليل، نصل الكثبان. في الأفق تتحد جبال الرمل بالسماء. وللمرة الأولى، تبدو الأرض بلا ماهية: قاعاً صفراء خالية من الحياة، ومع ذلك تملأ القلب وجداً. الشمس تبدو، جاثمة، في مركز الكون، والأرض نقطة عالقة في الضوء، ولولا الرمل الثقيل لطارت. ولكن لِمَ صار الأفق البعيد، فجأة، قريباً جداً؟ لكأن الشمس اللاهبة هي التي تجلب اليك المشاعر والماهيات! فلأسكت قليلاً، ريثما تصل الأزوال إليَّ، ريثما تتوضح أمور كثيرة ما زالت تُشوِّه وجه الحياة.