مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    الأمن.. ظلال وارفة    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    ضيوف برنامج خادم الحرمين يؤدون العمرة    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    التحليق في أجواء مناطق الصراعات.. مخاوف لا تنتهي    من «خط البلدة» إلى «المترو»    أهلا بالعالم    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    كرة القدم قبل القبيلة؟!    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    النائب العام يستقبل نظيره التركي    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    استثمار و(استحمار) !    وسومها في خشومها    وانقلب السحر على الساحر!    منتخبنا كان عظيماً !    الضحكة الساخرة.. أحشفاً وسوء كيلة !    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة العراق في خليجي 26    نيابة عن "الفيصل".. "بن جلوي" يلتقي برؤساء الاتحادات الرياضية المنتخبين    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    إحباط تهريب (140) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    آل الشيخ: المملكة تؤكد الريادة بتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن حكومة وشعبا    موارد وتنمية جازان تحتفي بالموظفين والموظفات المتميزين لعام 2024م    "التطوع البلدي بالطائف" تحقق 403 مبادرة وعائدًا اقتصاديًا بلغ أكثر من 3مليون ريال    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قانون الانتخاب في لبنان وفن التعامل مع المعجزات : الوطنية ليست حيلة قانونية
نشر في الحياة يوم 06 - 05 - 1999

منذ ان فتح اجتماع الطائف باب التعديل في قانون الانتخاب والنظام الانتخابي اللبناني غير مستقر، لا عملياً ولا نظرياً. فتطبيق القانون الجديد ظلّ مجتزأً، يوضع موضع التنفيذ في دائرة ويعلق في دائرة اخرى، نزولاً عند رغبات أصحاب النفوذ السياسي، وكأن لبنان لم يستعد عافيته كاملة بعد من الحرب المدمرة. الا انه مشهور عن البلد مراعاته للظروف ومرونته عند الاخذ بالتدابير الرسمية، مما يثير قرف البعض وقناعة البعض الآخر بالحكمة التي توجه هذا المسلك.
والآن وقد جاءت ساعة الاستحقاق من جديد بعد ان أظهرت الحكومة العتيدة جرأة، تكاد تقترب من مشارف التهور، لاعادة النظر في قانون الانتخاب المطبوخ في الطائف، نرى من الواجب ان نحاول استكشاف أغوار القضية بما فيها من محاذير وفرص صعبة المنال.
ان مهمة المسؤول عن اعادة كتابة قانون الانتخاب اللبناني هي أقرب الى ضرب من الإعجاز منها الى أي شيء آخر. فالمفروض بالمضطلع بتلك المهمة ان يحافظ على التوافقية المعهودة وعلى إلغاء الطائفية في آن، وأن يوفر الآليات للتمثيل الوطني من دون ان يلغي الروابط المحلية، وان يحقق الإنصهار الوطني من دون ان يضعف مسؤولية المنتخب تجاه ناخبيه، وان يجعل الناخب يقترع للاحزاب من دون ان يمس المستقلين، وان يقدم فرص النجاح للمرشحين الشباب والتقدميين منهم من دون ان يتلاعب بالقوانين، وان يحقق التمثيل المتساوي من دون ان يمس الانماط السكنية المتقلبة، وان يحقق النظام الانتخابي النسبي داخل نظام نسبي قائم بالفعل، وأن وأن...
تطرح جميع هذه المطالب بصورة متجاهلة أو مناهضة لثوابت يعرفها جميع اللبنانيين ولا يتخلى عنها أحد منهم، حتى المطالبين بتغييرها! ومن تلك الثوابت عادة الناخب اللبناني والتزامه التصويت الطائفي وروابطه بالزعامات التقليدية والحديثة معاً، والاقتراع في دوائر المولد لا السكن وتفضيله المرشحين المستقلين وليس الاحزاب السياسية. هذه الثوابت الواقعية يعرفها القاصي والداني مع انها تظل مسلمات غير مسلم بها، كونها مفتوحة للنقاش دوماً وابداً. وهي معرضة لمحاولات غثة للإصلاح، ليس أقلها تلك التي يقدمها الليبراليون أو اليساريون، والإشكالية الاكبر تكمن في ان اللبنانيين جميعاً يعتبرون أنفسهم إصلاحيين، إن تواضعوا، وتقدميين ان إختالوا، مع فارق بسيط انه ليس هناك طريقة في العالم تحملهم على التخلي عن المسلمات المفتوحة للتجريح والتي يعرف الجميع انها ليست إصلاحية ولا تقدمية.
فالاصلاح عندنا هو للغير وليس للمصلح. ويجب ان لا ننسى ان أكثر من يتصف بهذه الخصال هم المشرفون الرسميون على العملية.
ونحن إذ نتورط في النقاش لا ننزه أنفسنا من التهور للخوض في مثل هذه اللعبة المجهولة القواعد والمصير، ونأمل، مع كل هذا، ان يكون في سبر أغوار تلك الإشكاليات فائدة ما لمتلق يفتش عن تفسير لهذه الإشكاليات.
قام اصحاب الطائف بتكبير الدائرة الانتخابية باعتماد المحافظة ووصفوا خطوتهم تلك بالنقلة الاصلاحية، باعتبار ان الدوائر الكبرى تساعد على الدمج القومي. هذا في حين ان المقصود بالدرجة الاولى هو أكل الجبنة وليس الأمر المعلن، أي ان يحصد الزعماء الكبار المشرفون على الطائف حصة الاسد في الانتخابات. فمن شأن الدوائر الانتخابية انها كلما إتسعت كلما زادت نسبة المقاعد التي يجنيها الزعماء الكبار. إن قدرة الزعيم النافذ على تشكيل قائمة انتخابية وجذب الطامحين للنيابة من الصف الثاني اليها، وممن لا صف لهم على الإطلاق، كبيرة جداً فيتهافت هؤلاء نحوه ويدفعون الثمن المطلوب لاحتلال مكان على قائمته الواعدة بالنصر. فالدوائر الكبيرة لا تقوي الزعماء الراسخين في مواقعهم السياسية فحسب، بل تضعف ايضاً مسؤولية المنتخب تجاه المنتخب، ذلك ان النائب يصبح مسؤولاً في الدرجة الاولى تجاه الزعيم الذي رفعه الى سدة النيابة لا تجاه المواطنين الذين منحوه أصواتهم. أضف الى هذا، ان الدوائر الكبيرة تعبث بالتمثيل السليم، لان الناخب لا يملك وسيلة تمكنه من ان يحيط علماً بخصائص ذلك العدد الكبير من المرشحين، فيضطر ان يختار القائمة التي يرى فيها أسم الزعيم أو المرشح المفضل عنده، من دون ان يعبأ بالمرشحين الآخرين المسجلة اسماؤهم في القائمة. فإن فاز أولئك المرشحون يكون فوزهم عن غير قصد، فهم لا يمثلون فئة معروفة المعالم، فما هم سوى أدوات في يد الزعيم الذي احتواهم. ولما كانت الاحزاب السياسية في لبنان صغيرة وفئوية يخضع كثير منها لزعيم راسخ المكانة السياسية، يصبح نظام الدائرة الكبرى إفساداً للعملية الانتخابية وللتمثيل الديموقراطي، لا لإصلاحه، كما يزعم البعض. والكلام هذا يصح في النظام النسبي كما يصح في الأكثري. اما الادعاء بأن من شأن القانون الانتخابي النسبي ان يشجع قيام الاحزاب وان يقويها فهو أمر غير ثابت، كما سنبين أدناه.
من المساوىء الاخرى لنظام الدائرة الكبرى انه يغذي نزعة التدخل الخارجي ويساعد عليها. فلما كان من المتعذر على أي زعيم أو حزب محلي، بمفرده أو بالتعاون مع سواه، ان يشكل قائمة كاملة أو إنجاحها فيضطر ان يرحب، إن لم نقل يلجأ، الى دول نافذة خارجية للمساعدة. وهذه النزعة هي لعنة الدول الصغيرة، فكيف يجوز ان يغذيها عمداً المثقفون عندنا وهم يدعون الإصلاح.
من شأن الدائرة الكبيرة ايضاً عدم إنصاف الأقليات في الدوائر الانتخابية، ان هيمنة الاكثرية هنا تخلق عند الأقليات شعوراً بالغبن وتحملهم على الاعتقاد بأن قوة قاهرة تحاول تجريدهم من المشاركة الفاعلة، فإما ان يثوروا أو ينعزلوا عن المشاركة. ان أسوأ ما يمكن ان تفعله القوانين الانتخابية هو ان تحمل الناخبين على الشعور بالاستبعاد أو الغبن. هذا هو بالفعل ما حصل على اثر تكبير الدائرة من الحجم المتوسط الذي هو القضاء الى المحافظة، أي عكس ما أراده المشرّع. وقد فات هذا الاخير ان الانتقال الى المحافظة من دون درس للنتائج قد نال من مكانة بعض الطوائف التي إنخفض حجمها وقل وزنها فشعرت بانه قد لحقها غبن بسبب التحول المذكور. الواقع انه ليس بالامكان ضبط مسألة توزيع الطوائف في الدوائر بنسب موافقة تساعد على الإنصهار الوطني، ولكنه بالمستطاع تجنب الاساءة والضرر.
والقاعدة هنا بسيطة: أي تغيير يسبب تراجع في مكانة جماعة ما في الدائرة عما كانت عليه سابقاً يثير ضغينتها لا إنصهارها مع سائر الفئات. فأي تكبير للدوائر في محيط ديموغرافي كالذي نعهده في لبنان سوف يلحق الأذى بالبعض ويبعث الضغينة في النفوس. وقد كانت الناس اعتادت على وضعها في الدائرة التي تعتمد القضاء على درجة معقولة حتى قضت ترتيبة الطائف على ذلك المستوى من الاستقرار.
ومن الامور التي تدعو للعجب في هذا البلد المسحور ان فكرة الدائرة الكبرى قد أفتنت البعض من أهل الفكر في لبنان فراحوا يطالبون بالمزيد من التوسع ليصبح لبنان بكامله دائرة واحدة! ويبدو انهم يفعلون ذلك ببراءة لا مبرر لها، تلخص برغبتهم في تحويل النائب الى اعتناق هوية وطنية والناخب الى إنتماء حزبي، بمجرد شحطة قلم. ودون الدائرة الواحدة والاحزاب صحار ووديان، وبين النائب والانتماء الوطني طبقات من الضباب، علها تنقشع يوماً.
ان مشروع جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة هو من أخطر الاقتراحات الشائعة في هذا البلد اليوم، فالمشروع يجسد ويضخم جميع المساوىء المذكورة أعلاه فيما يخص الدوائر الكبرى، وهو نظام غير معروف سوى في خمسة من دول العالم، بينها اسرائيل وباراغواي وموناكو! أما ان نمني النفس بان النظام النسبي يحل مشكلة التجزئة والانتماءات المحلية فأضغاث أحلام. ذلك انه من شأن النظام النسبي الإكثار من تعدد الاحزاب، لا من تماسكها أو من تعاظم شأنها. وتعدد الاحزاب وانقساماتها هو الامر الذي اتصف به النظام اللبناني منذ نشأته ولا يزال، فلن يكون هناك من جديد. فما الذي يسمح لنا بالافتراض ان حزباً ما يستطيع ان يطرح ذاته للناخبين طرحاً وطنياً في الدائرة الواحدة ولا يستطيع ان يفعل ذلك في الدوائر الصغرى؟ يظل هذا سؤال بلا جواب.
لنضع أنفسنا لحظة في موضع الناخب المطلوب منه ان يقترع لقائمة وطنية واحدة لعلنا نرى ما اذا كانت هذه العملية تساعد فعلاً على تكوين شعور وطني. فلماذا سيواجه هذا الناخب؟ أولاً، سوف يكتشف بسرعة ان اسماء المرشحين على القوائم المطروحة أمامه هم خليط من الاحزاب المتحالفة ومن الزعماء وأتباعهم، لانه ليس في المجتمع السياسي اللبناني حزب أو زعيم واحد قادر على إنزال قائمة بمفرده، وطنية كانت أو غير وطنية. فهل من المنتظر، ان يقترع الناخب اذا كان من دائرة الشوف، مثلاً، لقائمة على رأسها سليمان فرنجية الماروني من الشمال ونبيه بري الشيعي من الجنوب؟ طبعاً، لا. فهو سوف يختار القائمة التي يجد فيها اسم وليد بيك جنبلاط. وإن كان له الحق في التشطيب، وهو أمر غير مألوف في الاقتراع النسبي لا بل متناقض معه، فلن تسمح له معلوماته المحدودة من ان يختار أكثر من عدد لا يتجاوز أصابع اليد، ويقترع للباقين إكراماً لوليد بيك جنبلاط. وسيقوم الناخب بمثل هذا الامر إن كان في زغرتا أو في النبطية أو في بيروت!
نعم، الدائرة الكبرى، وعلى الأخص الواحدة، تجمع أصوات الناخبين الحزبيين المنتشرين بكثافة ضعيفة في المناطق، ولكن كثرة التشرذم في لبنان يجعل من المتعذر الاستفادة كما يجب من هذا التجميع. وقد تخسر الاحزاب هذه الميزة اذا ما حدد القانون عتبة مرتفعة للدخول الى المجلس، كما حصل في مصر في الثمانينات وما زال يحصل في تركيا. وإن لم يفعل، فان التجزئة ستتحكم بالنتائج، ذلك ان النظام النسبي سيزيد من عدد الاحزاب المتنافسة لا من عدد النواب التابعين لحزب معين، فان زاد عدد نواب حزب ما فمسؤولية قانون الانتخاب النسبي في ذلك ضئيلة جداً، لا تبرر ولا تعوض عن الضرر الكبير الناجم عنه. أضف الى ذلك، ان اصحاب النفوذ التقليديين من السياسيين المستقلين لن يعدموا وسيلة للتجاوب مع مقتضيات القانون الجديد فيؤلفون الاحزاب الخاصة بهم، وهذا ما قد بدأ يحصل فعلاً منذ زمن. أما الاحزاب العقائدية فلن يكون كسبها أمراً أكيداً، كون اسباب ضعفها تعود الى 1 إنقسامها الداخلي و2 دعواتها المحصورة في فئات اجتماعية ضيقة، و3 انصراف الناخبين عنها لبعدها عن مشاغل الناخبين أو سوء سمعتها.
يبقى ان نلاحظ هنا انه في حين ان النظام النسبي يعطي نتائج انتخابية أدق من النظام الأكثري، فان الفارق ليس كبيراً. هناك اعتقاد شائع ان ليس هناك هدر لأصوات احد في النظام النسبي، والواقع غير ذلك، أولاً، لأن الاصوات التي تكون قد أعطيت لاحزاب عجزت عن تخطي العتبة المرسومة تذهب لصالح أكبر الاحزاب الفائزة. كذلك الامر فيما يتعلق بالفائض عند احتساب حصص القائمة من النواب، فالفائض يذهب الى القائمة التي تحوز على أكبر عدد من الأصوات، وليس لمصلحة القائمة صاحبة الفائض الاكبر. فإن كان هناك عتبة مرتفعة المستوى، كما في تركيا مثلاً، وكان هناك عدد كبير من الاحزاب المتنافسة، فانه من المرجح ان تذهب نسبة كبيرة من الاصوات لمصلحة مرشحين لم يقترع الناخبون لهم. اما اذا كان مستوى العتبة منخفضاً فان عدد الاحزاب التي تنجح في ارسال نائب واحد الى المجلس سوف يكون كبيراً. بعبارة اخرى، لن يكون عدد النواب المستقلين أصغر بكثير مما هو عليه الوضع حالياً، ولن يكون التمثيل أسلم.
ومن المقترحات الجديدة المحيرة مشروع اعتماد المحافظة كدائرة واحدة على ان يتم التأهيل على مستوى القضاء، وهو أمر يقتضي اجراء الإقتراع على مرحلتين. وليس من المعروف بعد ما الفائدة من ذلك الاجراء المزدوج والملبك، سوى ان يحافظ على شرف اتفاق الطائف، ولعل الأصح ان نقول قدسيته! طبعاً، لم تقدم حتى الآن تفاصيل مفيدة حول هذا المشروع تساعد على فهمه، علما ان شر الامور في تفاصيلها. فإن كان هناك قناعة بعدالة الدائرة المبنية على القضاء وبأفضليته فما هي الحاجة لإضافة الاقتراع الثاني على اساس المحافظة؟ إن اجراء الانتخابات في لبنان، كما يعلم الجميع، يستغرق خمسة أسابيع، أسبوع لكل محافظة، فهل يريد اصحاب هذا المشروع ان يمددوا موسم الانتخابات الى شهرين ونصف بالاضافة الى ما تتطلبه المعركة الانتخابية؟! والموسم مكلف جداً، اقتصادياً وإنسانياً.
إن البنية الاجتماعية في لبنان قلما تسمح بقيام نائب يمثل الوطن الا في حالات معينة، كما وان هذه البنية لم تحرم المجلس في السابق من نواب وطنيين. فمن العبث السعي لبلوغ الوطنية بواسطة الحيل القانونية. لا ينمو الشعور الوطني ويقدم على الولاءات الاخرى بالقوانين المفتعلة، بل بالقدوة الحسنة وبحفظ كرامة المواطن وأمنه.
إن للبنانيين خبرة في جميع تلك الترتيبات الانتخابية وليسوا بحاجة الى الارشاد أو الوعظ حولها، ومنها الانتخابات التي حصلت حديثاً في ظل نظام الطائف، خاصة في دائرتي بيروت والشوف، حيث توفرت العدالة في بيروت كمنة ومنحة من الاكثرية لا ضمانة لها في المستقبل، ولم يطبق القانون في الشوف لان زعيم الشوف هو من الفئة المنتصرة في الحرب مما مكنه ان يمنع تطبيق القانون المجحف بحق جماعته.
/ الجمع بين نظام الانتخاب الفردي والجماعي
لا يزال الوضع في لبنان على شيء من الغموض والفوضى الفكرية في ما يتعلق بالمبدأ الاساسي لنظام الانتخاب منذ أول عهد الاستقلال، والذي كانت قد أرسيت قواعده جيداً في سنة 1960. ولعل ذلك يعود الى ان هذا النظام مركب البنية، فهو نسبي من حيث توزيع المقاعد النيابية، والنسبية هذه جامدة بمعنى ان أحجام حصص الطوائف مقررة بالتوافق المسبق. وهو أكثري من حيث مبدأ الفصل في أمر النجاح أو الفشل عند إحصاء النتائج. وبالاضافة الى ان هذا النظام يجمع بين الأكثري والنسبي، فهو يجمع ايضاً بين مبدأ التمثيل الفردي ومبدأ تمثيل الجماعة بطريقة فذة وفريدة. فالطائفة ممثلة بحصتها المتفق عليها مسبقاً، والفرد ممثل بحقه في الاقتراع لمن يشاء من المرشحين، بمن فيهم من ابناء طائفته والطوائف الاخرى. فالاقتراع في هذا النظام يظل محصوراً بالفرد، دستورياً وعملياً. وهكذا تكون الطوائف ممثلة وآمنة من حيث ثبات حجمها السياسي، وفي الوقت ذاته خاضعة لارادة الفرد مهما كانت طائفته. ومن المؤسف صعوبة ما يجده البعض في إدراك أهمية النظام اللبناني وعبقريته. نقول عبقريته لانه يشكل تفصيلاً صادقاً وماهراً للجسم السياسي اللبناني في خصوصيته العجيبة، ولانه يجمع مزايا ديموقراطية ووطنية في آن واحد. فهو لا يقتصر على التمثيل الأمين، بل يساعد ايضاً على التمازج والتعاون غبر الطوائف المختلفة. للتفاصيل، راجع كتابي، من "يحكم لبنان".
لهذه الاسباب يظل أمر التخلي عن قانون 1960 أمراً محيراً، فلم يكن هناك من مساوىء خطيرة في ذلك القانون تقلق راحة الناخب أو المرشح، بل جلّ ما كان هو بعض الطروحات العقائدية المعارضة له والمحدودة الانتشار. فإن كان هناك طموح عند البعض لتحسين ذلك القانون فان الحكمة تشير الى ضرورة تصغير الدائرة لا تكبيرها، بغض النظر عما اذا اعتمدنا القانون النسبي أو الأكثري.
من الحكمة ان يحترم المشرع الثوابت في سلوك اللبنانيين الانتخابية وان يقدر مواقفهم، لا ان يبخسها أو يأخذ على عاتقه اختراعها بنفسه، فتلك أمور ليست من اختصاصه. فاذا كان هناك من درس تعلمناه من التطورات العربية خلال الخمسين سنة الأخيرة ومن بلدان العالم الاخرى فهو ان لا نفرض على الناس مواقف وأفضليات من فوق. ومن تلك الثوابت رغبة الناخب القوية في الحفاظ على مكانة الجماعة التي ينتمي اليها، وعلى الروابط الشخصية بين الناخب والمرشح وأن تلك لا تتناقض بالضرورة مع الوطنية. الديموقراطية تقتضي احترام تلك الثوابت وتصغير الدائرة الانتخابية من اجل الحفاظ على حق المساءلة والتمثيل الأسلم.
تظل الدائرة المبنية على القضاء أقل الخيارات المطروحة إشكالاً ومن حق المواطن ان يعلم السبب الموجب لتخلي اتفاق الطائف عنها. فإن كان من المحرج الإقرار بالخطأ بعد الطائف ومن المتعذر على الطبقة السياسية المغلوبة على أمرها ان تعود الى الدائرة الصغيرة والمتوسطة المبنية على القضاء، فهناك بدائل لها. فإن كان لا بد من التغيير فليكن نحو الأصلح. والبديل المثالي هو اعتماد الدائرة المؤلفة من مقعدين أو ثلاثة لا غير، وبذلك يتساوى جميع الناخبين، فلا يعود هناك عشرون صوتاً للناخب في دائرة معينة وخمسة أصوات فقط لمواطن في دائرة اخرى. فالدائرة المصغرة تحافظ على الميزات والأدوار الايجابية المذكورة أعلاه كتمثيل الفرد والجماعة معاً والحفاظ على النظام النسبي الجامد والاكثري معاً والمساعدة على الانصهار والتعاون السياسي بين المرشحين من مختلف الطوائف.
فان استكبر القيمون على الامر اعتماد الدائرة المصغرة لاسباب سياسية مصلحية فلهم بحل وسط أقل فائدة إنما يتمتع بفرصة أكبر للتحقيق، وهو المثابرة على اعتماد المحافظة كدائرة انتخابية على ان نزيد عدد المحافظات زيادة كبيرة لا تقل عن خمس عشرة محافظة. يعني ذلك تقسيم جميع المحافظات الحالية بما فيها بيروت دون تمييز. ومن محاسن هذا الحل انه يحفظ للمدافعين عن الطائف ماء الوجه فلا يخسرون بذلك البدعة الانتخابية الاساسية للطائف، وفي الوقت ذاته يخففون من مساوىء الدائرة الكبرى. وقد يحظى هذا الاقتراح بقبول أوسع عند الطبقة السياسية من اقتراح الدائرة المصغرة.
من الواضح ان اقتراح الدائرة الصغيرة أو الوسطى لا يتفق مع قانون الانتخاب النسبي والمعروف في كثير من البلدان الاوروبية، لان اعتماده يقتضي القضاء على النظام النسبي الجامد، اي المحاصصة على الطريقة اللبنانية. والسبب بسيط جداً وهو انه من المتعذر العمل بنظام نسبي مزدوج. فاما ان نلغي مبدأ المحاصصة ونعمل بموجب النظام النسبي فقط، بما في ذلك من تبعات سياسية عويصة، وإما ان نلزم قديمنا المجرب ونضحي بالجديد البراق. مما لا شك فيه ان النظام النسبي المتحرك يتمتع بشعبية ملحوظة بين المثقفين اللبنانيين، وخاصة منهم من كان ذا ميول يسارية أو حزبية عامة. ذلك انهم يأملون ان يحققوا بواسطته ما قد فاتهم تحقيقه بالوسائل السياسية.
لقد ركزنا كثيراً في هذه العجالة على مسألة الدائرة الانتخابية، وهناك مسائل اخرى قد لا تقل أهمية عنها كمسألة تخفيض سن الاقتراع ومسألة طبيعة الهيئة المشرفة على الانتخاب. ان التقليد اللبناني هو ان تقوم وزارة الداخلية باجراء عملية الانتخاب، وإن كان لذلك بعض الاسباب العملية، لكنه ليس المسلك الامثل، كما يعلم اللبنانيون جميعاً. ونحن لا نرى المانع من اعتماد هيئة اخرى كما هو متبع في بلدان كثيرة. إن سلامة العملية الانتخابية ونزاهتها تقتضي ان نعير هذه المسألة أهمية خاصة. ونقترح هنا تشكيل لجنة انتخاب عليا تشرف على ادارة عملية الانتخابات بدل وزارة الداخلية وتكون مؤلفة من عدد كبير من القضاة والشخصيات العامة المشهود لها بالنزاهة ومن موظفين كبار في الادارة من مختلف الدوائر. ومن المحبذ ان تعطى مهمة تأليف اللجنة العليا هذه لاعضاء مجلس القضاء الاعلى مرة كل أربع سنوات. وتعطى لجنة الانتخاب العليا جميع سلطات وزير الداخلية ابتداء من اليوم السابق للانتخابات الى ان تنتهي العملية وتصدر النتائج، على ان لا تتعدى تلك المدة الاسبوعين. في حالة العمل على اجراء الانتخابات على مراحل يعاد النظر في تحديد مدة الصلاحية.
ونذكر هنا، منعاً لاتهامنا بالخروج عن التقاليد العملية، ان من بين الدول التي تقوم بالانتخابات تحت اشراف لجنة عليا الجمهورية اليمنية والهند، ولا أظن ان اللبنانيين أقل جدارة من غيرهم للتمتع بما يحظى به اخوانهم اليمنيون، خاصة انهم من أقدم الشعوب العربية ممارسة للانتخابات في هذا الصقيع من العالم. اما موضوع تخفيض سن الاقتراع فهو خطوة قد آن أوانها.
يريد المشرع اللبناني اليوم ان يحقق القانون الانتخابي للناس ما لم يستطيعوا ان يحققوه بأنفسهم سياسياً وتربوياً. فهو يريد ان يخلق مواطناً بصفات جديدة متحررة من الطائفية والعائلية والروابط المحلية. والبعض يريد ان يكون ذلك المواطن علمانياً، بمعنى ان لا يكون مذهبياً في سلوكه السياسي وإنتمائه، والبعض يضيف الى ذلك ان يكون علمانياً بكل معنى الكلمة، أي ان لا يكون لرجال الدين وللقانون الديني أي مكانة أو مفعول رسمي عليه كمواطن. هذه كلها أهداف لا غبار عليها من الناحية الايديولوجية، الا ان تحميل القانون الانتخابي مهمة تحقيقها أمر فوق طاقة القانون ويتخطى الغرض منه، ان المهام المذكورة سياسية الطابع بالدرجة الاولى وتقع مسؤولية تحقيقها على عاتق الاحزاب السياسية والمنظمات وعلى مؤسسات التربية، ابتداء بالاب والام الى المدرسة.
أما القانون الانتخابي فان الهدف منه تمثيل الواقع كما هو واعطاء الناس مجال التعبير عن رغباتها، فالمفروض ان يمثل مواقف الناس ورغباتهم السياسية والاقتصادية لا ان يملي عليهم ما يجب ان تكون مواقفهم ورغباتهم السياسية. الذي يحصل عندنا أشبه بمن يذهب الى خياط كي يفصّل له ثوباً على كقاسه، فيصرّ الخياط ان يفصّل له ثوباً لجسم أكثر رشاقة وطولاً وأقل وزناً! المغزى من الديموقراطية هو النزول عند رغبات الناس وليس إملاء الرغبات عليها. فالديموقراطية، شئنا أم أبينا، فلسفة محافظة ميزتها تمثيل الواقع السياسي على ما هو عليه. ولكنها غير جامدة، فهي تساعد على التغيير السياسي والتحول بواسطة الهامش الكبير من الحرية الذي تتيحه للمواطنين لتحقيق ما يرغبون. فإن كان هدفنا اعادة تكوين الناس سياسياً فلنترك ما نحن فيه من خطط انتخابية ونتبع أساليب أخرى.
* مؤرخ وباحث اجتماعي لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.