كثر قد يفضلون "ماندرلاي" لفنيته ورسالته... وأيضاً لقدرته على الاستفزاز. وآخرون قد يأسفون لأن وودي ألن فضّل من جديد ان يعرض آخر افلامه "ضربة المباراة" خارج المسابقة الرسمية، ما يجعله خارج التخمين. بالنسبة الى هذين الفيلمين يصرخ الكثر انهما تحفتان، لكن الأمر لا يخلو ممن يساجل في ذلك. للحسم اذاً، ها هي تحفة سينمائية تطل برأسها في اليوم السابع للمهرجان تنال اجماعاً نادراً. تحفة تحمل توقيع جيم جارموش الذي يعتبر، عادة، في طليعة السينمائيين المستقلين الأميركيين. واعتاد عرض افلامه السابقة في "كان" كما اعتاد ان يكون كل فيلم من افلامه تلك، تحفة صغيرة لا تنسى. هذه المرة قدم جارموش تحفة كبيرة، في فيلم شديد البساطة، ظاهرياً على الأقل. في اختصار، اعطى جارموش دورة "كان" هذا العام فيلم "السعفة الذهبية"، حتى وإن كان علينا دائماً توخي الحذر في تخميناتنا، ذلك ان اذواق أعضاء لجنة التحكيم في نهاية الأمر عصية على الفهم! لذا نعطيه نحن، نقاداً وجمهوراً ومهتمين، سعفتنا الذهبية وننتظر. في الانتظار نقول ان فيلم جارموش وعنوانه "زهور ممزقة" - يبدو ذا صلة بعنوان احد افلام غريفيث الصامتة - فيلم يدخل الى السينما المعقدة... ومنها الى روح الإنسان المعقد، بأفكار في غاية البساطة... بل ايضاً بحبكة في غاية البساطة: رجل ستيني او خمسيني يدعى دون جونستون - اقرأها دون جوان اذا اردت - يعيش وحيداً شبه متقاعد عن العمل. في اليوم الذي تتركه فيه صديقته ليأسها من اقترانه بها، تصله رسالة غفلة، زهرية اللون، مكتوبة على آلة كاتبة، تخبره فيها كاتبتها ان له ابناً منها هو الآن في طريقه الى البحث عنه: عن ابيه. يقوم بالدور بيل موراي الذي يبدو هنا بتعابير وجهه الصامتة والمحايدة - ظاهرياً - وريثاً شرعياً لباستر كيتون. وبيل موراي يستشير صديقه وجاره، هاوي الأدب البوليسي والكومبيوتر، عن العمل، فيشير عليه هذا، بعد التحريات، بأن يتوجه بنفسه لمعرفة ام الولد من بين صاحباته السابقات وعددهن خمساً، واحدة منهن ماتت في حادث. وهكذا يتحول الفيلم من بحث فتى عن ابيه، الى بحث الأب عن الأم. او لنقل بالأحرى، بحثه عن ماضيه، من خلال نساء هذا الماضي. ونحن نزور معه كلاً من أولئك النساء ونلاحظ ان لكل منهن اسماً له دلالة: دورا المنطفئة، لورا التي تحمل ابنتها اسم لوليتا، كارمن المتواصلة مع الحيوانات، بيني التي لا تقبل حتّى استقباله. عبر رحلة ماضيه يبحث دون جوان عصرنا الحديث هذا، عن ذاته... عن الذكر الأميركي في داخله. ولكن من دون ان يستبد به الفضول على الأقل، لملاقاة ابنه. هل التقاه في النهاية؟ لا ندري. لأن ليس هذا ما يهم هذا الفيلم المنتمي الى واقعية اميركية جديدة بدأت تسائل ماضي اميركا وحلمها من خلال الناس البسطاء الذين صنعوه وصعقوا به. في نهاية الفيلم يسأل الابن المفترض دون، عما اذا كان له موقف فلسفي فيكون جوابه "الماضي انتهى، والمستقبل لم يصل بعد. إذاً ليس هناك سوى الحاضر". لقد تحطمت زهور دون جونستون على مذبح رحلة البحث عن ماضيهن. فهل انتهى الماضي هنا... ام اننا، نحن ابناء هذا الماضي، لا نزال نعيشه ونعاني من وطأته؟