يستحق منّا الرئيس البرازيلي دا سيلفا، بالأصالة عن أنفسنا وبالنيابة عن شعوبنا المحبطة، أن نقدم له ولزملائه من قادة دول أميركا اللاتينية الاعتذار مرتين. مرة لأن حكامنا لم يبادروا هم بفكرة الحوار مع دول أميركا اللاتينية وشعوبها، على رغم كونهم الأكثر احتياجاً اليه، ومرة لأنهم لم يحسنوا استقبال اليد الممدودة اليهم كما ينبغي أن يكون الاستقبال وتعاملوا معها بطريقة أقل ما يمكن أن توصف به أنها لا تليق وتنم عن جهل وغرور، أو قل عن غرور جاهل، وهو أمر محير للعقول إلى درجة يعجز المرء أحيانا عن تصديقها. ففي الوقت الذي تتعامل فيه القوى الفاعلة في النظام الدولي، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية، مع العرب باعتبارهم"رجل العالم المريض"أو"مجرم العالم المنحرف"، وتنصِّب هذه القوى من نفسها أطباء معالجين، أو مربين مهذِّبين، أو قوامين أوصياء علينا. يصبح واجبًا على حكامنا ألا يألوا جهدًا في البحث في مشارق الأرض ومغاربها عن أيّة قوى قابلة للإنصات إليهم والاستماع إلى همومهم وشكاواهم. غير أنهم لم يفعلوا ولم يتحركوا أو يجتهدوا، بل تقاعسوا، كسلاً، في أحسن الفروض، أو جهلاً، في أسوأها. وهكذا فعندما جاءهم الآخرون يطرقون أبوابهم ويمدون إليهم يد العون والصداقة من دون أن تكون بهم حاجة أو خصاصة، توقعنا أن يهب حكامنا وقوفًا مهللين ومرحبين شاكرين للضيوف كرم صنيعهم ومقدرين لهم حسن جميلهم. لكننا فوجئنا في الواقع بسلوك فظ غليظ من جانبهم. إذ قاموا كسالى متثاقلين لم تنفرج لهم سريرة أو يتهلل لهم ملمح، وراحوا يتصنعون المجاملات في الظاهر ويتهربون من أداء الواجبات في الباطن. وهنا أضاف حكامنا العرب إلى جهلهم الذي قد يكون معروفًا للكافة، غرورًا غير مبرر وغير مستحق. وعندما يقترن الغرور بالجهل، بل ويتفوق عليه، لا بد وأن ينتاب المواطن منا شعور غريب هو مزيج من الازدراء والشفقة على هؤلاء الحكام والقلق في الوقت نفسه على مستقبل الأوطان. أدرك المتابعون للشأن الدولي من المراقبين العرب على الفور أهمية المبادرة التي تقدم بها الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا لتأسيس حوار عربي مع بلدان أميركا اللاتينية، وتفهموا دلالتها، واعتبروها فرصة سانحة تمنوا لو أحسن العرب انتهازها والإمساك بها واستثمارها إلى أقصى درجة ممكنة لمصلحة الطرفين. لكن ما إن حان وقت التنفيذ الجاد للمبادرة وبدأ الإعداد الفعلي لأول قمة تجمع بين الدول العربية ودول أميركا اللاتينية، وهي القمة التي عُقدت بالفعل في مدينة برازيليا خلال الأسبوع الماضي، حتى بدأت مظاهر التلكؤ والتردد العربي المعتادين إلى أن فوجئ الجميع بتدني مستوى التمثيل العربي فيها إلى درجة مذهلة، مقارنة بمستوى تمثيل دول أميركا اللاتينية. وبينما حرصت الغالبية الساحقة من رؤساء دول أميركا اللاتينية وحكوماتها على الحضور بنفسها، غاب عن القمة معظم الملوك والرؤساء العرب. فشارك من الجانب الأميركي 9 رؤساء، من إجمالي عدد الدول الذي لا يتجاوز 12 دولة، بينما لم يحضر من الجانب العربي سوى 5 رؤساء دول من إجمالي 21 دولة يمثلون: الجزائر، والعراق، وقطر، وجيبوتي، وجزر القمر، إضافة إلى رئيس السلطة الفلسطينية. أما بقية الدول العربية فحضر منها ثلاث رؤساء وزارات سورية ولبنان وموريتانيا. والباقي مثل على المستوى الوزاري أو على مستويات أقل. بحثت عن أعذار لهذا التدني في مستوى التمثيل فلم أجد منها ما يمكن قبوله. وإن دل ذلك على شيء فللتأكيد على أن العالم العربي تعامل مع مبادرة نبيلة وشجاعة بقدر كبير من الاستخفاف وعدم الإحساس بالمسؤولية الوطنية أو القومية. ولولا حضور الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ومشاركتهما الفعالة والنشطة لتحول المؤتمر إلى مناسبة جديدة لتعرية النظام العربي وفضحه عالميًا. يلفت النظر في هذا المؤتمر أمران على جانب كبير من الأهمية: الأول: سرعة الاستجابة الجماعية والفورية لدول أميركا اللاتينية وترحيبها الحار بمبادرة دا سيلفا وحماسها للمشاركة في القمة المقترحة، بدليل مستوى التمثيل الأميركي فيها مقارنة بمستوى التمثيل العربي، مع الحرص في الوقت نفسه على عزل الولاياتالمتحدة عنها تجنبا لتأثيراتها السلبية المحتملة. ومن المعروف أن البرازيل، وهي الدولة المضيفة للمؤتمر والداعية له، أصرت على رفض طلب الولاياتالمتحدة الأميركية للمشاركة بصفة مراقب، ما أفسح المجال لمداولات حرة عكست حقيقة الرؤية اللاتينية بعيدا عن الضغوط والإغراءات الأميركية. الثاني: قوة ووضوح واستقامة البيان الختامي للمؤتمر الذي حمل اسم "إعلان برازيليا". إذ طالب هذا البيان بانسحاب إسرائيل من كافة الأراضي العربية المحتلة حتى حدود 4 حزيران يونيو 1967، مشدداً على الحاجة الماسة للاستجابة للمطالب والحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني كافة، وفي المقدمة منها حق تقرير المصير، وبإزالة المستوطنات الإسرائيلية من جميع هذه الأراضي بما فيها القدسالشرقية، وباتخاذ الإجراءات العملية والعاجلة لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط مع انضمام دول المنطقة كافة من دون استثناء إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. وعبْر المؤتمرون عن معارضتهم"للتطبيق الانتقائي لمبادئ الشرعية الدولية وقواعدها وللإجراءات أحادية الجانب"، وأعربوا عن"قلقهم العميق من العقوبات أحادية الجانب المفروضة على سورية من قبل الولاياتالمتحدة"، ورأوا في"القانون المزعوم لمحاسبة سورية انتهاكًا للقانون الدولي". وتكفي نظرة سريعة على هذا الإعلان للتأكد من أن عباراته صيغت بطريقة أكثر استقامة وتحديداً وقوة ووضوحاً وصراحة من العبارات التي تصاغ بها عادة معظم الإعلانات والبيانات الصادرة عن مؤتمرات القمة العربية ذاتها. وربما يكون غياب العديد من القادة العرب ساعد على التوصل إلى تلك النتيجة وبالتالي رفع سقف مواقف المؤتمر. وتلك مفارقة لها دلالاتها وأسبابها التي قد لا تغيب عن فطنة القارئ العربي، وتوحي بملاحظتين قد تساعدان على تفهم طبيعتها: الملاحظة الأولى: تتعلق بالفرق بين منهجي الدول اللاتينية والعربية في إدراك أهمية علاقاتهما المتبادلة. فدول أميركا اللاتينية تدرك هذه الأهمية من منظور تأثير القضايا العربية، وفي المقدمة منها قضايا فلسطينوالعراق والنفط وغيرها من قضايا المنطقة، على موازين ومستقبل علاقات القوة في النظام الدولي. أما العالم العربي فيدرك هذه العلاقة من منظور تأثيرها المباشر على مصالحه المادية، وهي مصالح تبدو محدودة بطبيعتها في الوقت الحالي، على رغم أنها قد تكون واعدة وقابلة للتطوير في المستقبل المنظور. ومن المعروف أن دول أميركا اللاتينية من أكثر دول العالم تخوفا من الهيمنة الأميركية المنفردة على النظام العالمي لأسباب تاريخية. فهي عانت كثيرا من تدخل الولاياتالمتحدة في شؤونها الداخلية، وكان هذا التدخل واحدًا من أهم الأسباب التي عاقت تطورها الديموقراطي وتنميتها الاقتصادية. وعلى سبيل المثال فإن التدخل الأميركي، الناجح، لقلب نظام حكم ألليندي المنتخب ديموقراطياً في شيلي خلال سبعينات القرن الماضي، لم يكن سوى نموذجًا واحدًا لهذا النوع من التدخل في مرحلة الحرب الباردة، كما أن التدخل الأميركي، الفاشل هذه المرة، لقلب نظام حكم هوغو شافيز المنتخب ديموقراطياً في فنزويلا خلال العامين الماضيين لم يكن سوى نموذج واحد لهذا التدخل في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ويدرك العديد من دول أميركا اللاتينية، خصوصاً بعد أن هبت عليها رياح الديموقراطية وأصبحت أكثر قدرة على مقاومة الهيمنة الأميركية، أن لها مصلحة واضحة في مقاومة هذه الهيمنة داخل القارة الأميركية وخارجها، كما تدرك أن منطقة الشرق الأوسط هي إحدى الساحات المهمة التي ستحسم فوقها صراعات القوة العالمية وموازينها. الملاحظة الثانية تتعلق بخصوصية تجربة دول أميركا اللاتينية في تعاملها مع المؤسسات الدولية المعبِّرة عن الرأسمالية العالمية. فمن المعروف أن عددًا كبيرًا من هذه الدول عانى كثيرًا من وصفات البنك وصندوق النقد الدوليين التي جاءت في سياق نموذج "الليبرالية الجديدة" والتي تسببت في إفقار مجمل الطبقة العاملة وشرائح واسعة من الطبقة المتوسطة. ومن المعروف أيضًا أن عددًا من القيادات السياسية في هذه الدول، من أمثال شافيز في فنزويلا ودا سيلفا في البرازيل، لم تتمكن من الوصول إلى السلطة إلا بسبب نجاحها في إسقاط هذا النموذج تحديداً وتبني استراتيُية جديدة للتنمية أساسها مكافحة الفقر والانحياز للطبقات الفقيرة والمتوسطة. وهذه القيادات تدرك بدقة طبيعة الفجوة القائمة بين مواقف الحكام العرب ومواقف شعوبهم، كما تدرك أيضا أن نضال الشعوب العربية ضد الاحتلال الأميركي في العراق والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، هو جزء لا يتجزأ من نضال عالمي ضد العولمة والرأسمالية المتوحشة. في سياق كهذا، كان من الطبيعي أن يبدو سقف دول أميركا اللاتينية، حتى فيما يتعلق بالقضايا العربية، أعلى من سقف الدول العربية نفسها بكثير. وهنا تكمن طبيعة المفارقة والتي حدت كثير من إمكان الإفادة المثلى من هذا التجمع أو تلك المبادرة التاريخية. فبينما تبدو منطقة أميركا اللاتينية وكأنها على أعتاب مرحلة انطلاق واعدة، تبدو المنطقة العربية وكأنها على أعتاب مرحلة نكوص جديدة، تتعرض فيها لأبشع محاولات النهب بل والاحتلال الاستعماري المباشر. وكان بوسع القيادات العربية أن تمسك بهذه الفرصة التاريخية لتتعلم من تجربة دول أميركا اللاتينية في النضال ضد الهيمنة وفي البحث عن آفاق جديدة للتنمية. غير أن القيادات العربية تبدو مشغولة بهموم وقضايا أخرى لا علاقة لها لا بالنضال ضد الهيمنة، أميركية كانت أو إسرائيلية، ولا بالبحث عن آفاق جديدة للتنمية خارج وصفات البنك وصندوق النقد الدوليين. ومن العبث أن نبحث بين قياداتنا عن شافيز أو عن دا سيلفا عربي. ليس بوسعي أن أختم هذا المقال من دون تأمل مفارقة من نوع آخر تثيرها ذكرى الاحتفالات الجارية هذه الأيام بمرور خمسين عامًا على مؤتمر باندونغ الذي مثل نقطة فارقة في التاريخ السياسي لدول"العالم الثالث". ويخطئ من يعتقد أن باندونغ كان مجرد محاولة تتلمس من خلالها الدول الخارجة لتوها من الحقبة الاستعمارية طريقًا ثالثًا يحول دون انخراطها أو ذوبانها في إحدى الكتلتين المتصارعتين. فالواقع أن باندونغ كان محاولة لتلمس سبيل لمقاومة كل أشكال الهيمنة على النظام الدولي، بصرف النظر عما إذا كانت هذه الهيمنة أحادية أم ثنائية القطبية. وإذا كانت تجربة باندونغ حلقت بعيدًا في سماوات النجاح قبل أن تسقط في هوة الفشل السحيق بعد ذلك، إلا أن البحث عن نفس الطريق ما زال جاريًا. وكان يمكن لمؤتمر برازيليا أن يتحول إلى باندونغ القرن الواحد والعشرين، وتحل أميركا اللاتينية محل آسيا والدول العربية محل إفريقيا الخمسينات، وتحل حركة التضامن العربية - اللاتينية محل حركة التضامن الأفروآسيوية التي أسست لإطلاق حركة عدم الانحياز التي ضمت دول القارات الثلاث فيما بعد. غير أن المشكلة باتت تكمن في الجانب العربي هذه المرة. فبينما استطاعت دول أميركا اللاتينية أن تعيد إنتاج قيادات تذكرنا بالقيادات الآسيوية التاريخية من أمثال شو ان لاي وسوكارنو، فإن الدول العربية لم تستطع بعد أن تعيد إنتاج قيادات تذكرنا بالقيادات الإفريقية التاريخية من أمثال جمال عبد الناصر. ويبدو أن البحث لا يزال جاريًا عن عبد الناصر جديد، ولكن بنكهة القرن الواحد والعشرين ومتطلباته. * كاتب واكاديمي مصري.