تكاد الكتابات العربية في الفلسفة السياسية الحديثة ان تكون نادرة، إن لم تكن معدومة، ولا يعود الأمر بالطبع الى غلبة الإيديولوجيا العقائدية على الفكر العربي وغياب القاعدة النظرية والمعرفية الضرورية لتأسيس او نشوء فلسفة سياسية، بقدر ما يرجع الى غياب الاستقرار السياسي النسبي الذي هو وحده الكفيل بولادة فلسفة من هذا النوع. ولذلك لم تشهد الفلسفتان القومية والذرائعية كمذاهب سياسية رواجاً نظرياً ومعرفياً واسعاً، الأولى راوحت في مكانها الفلسفي النظري وحين انتقلت الى السياسي تحولت الى كارثة دوغمائية حقيقية، اما الأخرى فكانت عكس الأولى تماماً، إذ سيطرت على معظم السياسات العربية لكنها ما استطاعت التحول الى مذهب او مدرسة فلسفية سياسية نظرية. يحاول مطاع صفدي المفكر المشهود له بتعمقه الفلسفي النظري لا سيما في مدرسته الفرنسية الحديثة في كتابه"نظرية القطيعة الكارثية"ان يشق قولاً في الفكر السياسي الفلسفي على ضوء التحولات السياسية الراهنة التي يمر بها العالم العربي والإسلامي، لكن من دون ان يحصر حقله التداولي في هذا الحيز الجغرافي وإنما يمتد قوله الى"المدنية الإنسية"التي"تنتظر شخصية الحكيم ديوجين، كيما يشعل مصباحه الضعيف, ويجول به في هذا الوقت من الظهيرة، حيثما تسطع كل الأنوار، ما عدا نور الحقيقة، لأن ليست بينها ذبالة ديوجين وحدها صاحبة الضوء الخافت الذي ان اشتعل ذات مرة فلن تقوى على تبديده اقوى عواصف السطوع المصطنعة. بالنسبة الى صفدي انتهى زمن المقولة الماركسية الشهيرة التي تطلب من الفلاسفة تغيير العالم بدل تفسيره، فالهم الفلسفي الحالي اصبح ليس تفسير العالم، ولا تغييره، بل فهمه، والفهم هنا يختلف عن التفسير، ذلك ان الفهم لا يدعي اجتراح الحل، وإن كان يشتغل في ضواحيه. وعلى ذلك يدخل صفدي في فهم الحضارة المعاصرة، وعلى رأسها الامبراطورية الأميركية، التي هي امبراطورية من نوع غير معروف تاريخياً قبلها، مبنية على قرقعة السلاح اكثر منها على برهان الأفكار، إنها عودة الى معنى العسكرة اكثر منها تقدم باتجاه المدينة، ويبدو مشروعها الاقتصادي في العولمة والفكري في الحرب على الإرهاب متطابقين بمعنى من المعاني، اذ تبرر دائماً ان علة الإرهاب لا تبحث عن سببه وإنما تكمن في صاحبه وحده فقط وفي معتقده الديني، كما ان الرغبة في الثأر تقدم تسويغاً جديداً لمشروع الهيمنة على العالم، بحذف الحيز السياسي والديبلوماسي من علاقة الأمركة الخارجية ببقية العالم، وتستتبع هذه العلاقة كلياً للجانب العنفي الخالص، الذي يعبر عن نفسه بالعولمة الأمنية، وعسكرة العلاقات الدولية. وههنا تحقق الأمركة الغازية الذروة في منطق القطيعة الكارثية، عندما تجيز لنفسها اعلان حرب عالمية على الإرهاب، بما يثبت لها ان العالم اجمع امسى مصدر الإرهاب، او التهديد الأمني ليس ضد مصالحها الحيوية فحسب، بل معارضاً لمجرد وجودها عينه. وهكذا تنجح الأمركة في جوهرة الغرب وتأبيده على صيغته الخاصة، ولذلك استبدلت السؤال الأساس بالنسبة الى الغرب من صيغة: ماذا يمكننا ان نأمل؟ الى صيغة: ممن ينبغي ان نخاف؟ إنها - كما يضيف صفدي - زراعة ثقافة الخوف والتخويف بين عائلات المدنية الإنسانية الشاملة لقريتنا الأرضية الصغيرة، والتي اصبحت هدفاً للابتلاع والهضم، من قبل الوحش المرعب الأول، وزارع الإرهاب الأصلي والحاصد لشروره اللامتناهية, إنها عقدة الهيمنة المميزة للأمركة الغازية. ويبدو صفدي اكثر قسوة وحدّة عندما يرى ان مع الأمركة تشهد الإنسانية المعاصرة ربما اقصى ذروة يبلغها الشطح الطوبائي الكلياني مترافقاً لصعود احاديث القطبية الدولية المتمثلة في الأمركة كآخر ايديولوجيا مجهزة بصيغة الاحتكار الانفرادي لأسلحة التدمير الشامل التي تستخدمها كبرهان مادي اكراهي على جدارة مشروعها في تغيير العالم على مثالها. ان حضارة اليوم هي حضارة مؤسسة على العنف, ودخول الولاياتالمتحدة في الحرب ضد الإرهاب هو إعلان لولادة الحرب العالمية الثالثة، لكن، ليس القصد حين وصف هذه الحضارة بالعنف انها تستخدم ادوات العنف كالحرب ومشتقاتها من حركة القمع الجماعي والطغيان وإلغاء الآخر واستتباعه، فهذه كلها من خصائص ممارستها، لكن ما تعنيه حضارة العنف هي ان جوهرها الأصلي قائم على العنف، هنالك تطابق ماهوي بين تلك الحضارة وأدواتها، وعلى رغم ان العبارة مؤلفة من حدين: حضارة العنف، إلا ان كلاً من هذين الحدين لا يحيل احدهما الى الآخر فحسب، بل يتراءى معه ومن خلاله. وعلى رغم ان صفدي يصرف الكثير من جهده لمناقشة اطروحات هنتنغتون في صدام الحضارات، إلا انه يحلل وبألمعية الفلسفة السياسية التي تقوم عليها نظرية المحافظين الجدد في ادارة بوش الحالية للولايات المتحدة وفيلسوفها المعتمد، ليو شتراوس، المفكر الأميركي من اصل ألماني، الذي كان مسكوناً بهمّ المرجعية الى افلاطون وهوبز معاً، على ما بينهما من تعارض إلا ان شتراوس كان مسكوناً بمرجعياته الذاتوية الخاصة به، وهي انتماؤه الى الديانة اليهودية، وتبنيه للعقيدة الصهيونية، ثم محاولته التوفيق بين الدين والسياسة بخاصة في اعادة قراءته لهوبز. فشتراوس يحاول تأويل الأطروحة المركزية حول طبيعة الإنسان من حيث هو كائن حيواني مدفوع بالخوف من الموت، وخصوصاً الموت العنيف الذي يسببه له الآخر كعدو، بالقتل، انه الأصل الأنثروبولوجي الذي يعارض الأطروحة الأفلاطونية المتمسكة بالأصل الأخلاقي للإنسان، من حيث انه كائن يسعى الى الكمال، وما يعنيه الأصل الأنثروبولوجي هو اسبقية الطبيعة على الأخلاق. كاتب سوري. ويذكر ان كتاب مطاع صفدي"نظرية القطيعة الكارثية"صدر اخيراً عن مركز الإنماء القومي بيروت - باريس .