لا تزال الشاعرة والروائية أندريه شديد مجهولة أو شبه مجهولة عربياً على رغم تخطيها الثمانين واصدارها أكثر من أربعين كتاباً في حقول مختلفة كالرواية والشعر والمسرح... وان كان يوسف شاهين جعل من روايتها "اليوم السادس" فيلماً سينمائياً مثلت فيه المغنية الراحلة داليدا فإن شهرتها العربية لم تتخطّ حدود النخبة التي تقرأ بالفرنسية. فما ترجم من أعمالها الروائية والشعرية لم يتعد بعض المختارات المنشورة في الصحافة وظلّ اسمها حاضراً وحده كونها لبنانية الجذور، مصرية الولادة والنشأة، فرنسية الانتماء والاقامة واللغة. لعلّ المختارات الشعرية التي وضعها الشاعر والناقد شربل داغر للشاعرة اندريه شديد تحت عنوان "شمل تشابه ضائع" * هي أجمل تحية عربية توجّه اليها ليس لأنها الأولى في لغتها الأم فقط بل لأنها أيضاً تمثل صنيعها أو مسارها الشعري خير تمثيل. ولم يكتف داغر بما اختار وعرّب بل قدّم المختارات بحوار طويل كان أجراه معها في باريس اضافة الى مقاربة نقدية لعالمها الشعري. وعلى خلاف المقاربة أو المقدمة التي أغرقت في مفهوم الترجمة علاوة على تناولها شعر اندريه شديد استطاع الحوار ان يلقي ضوءاً على تجربتها الشاملة الموزعة بين الكتابة الشعرية والكتابة الروائية وعلى سيرتها وبعض الزوايا المجهولة من حياتها. عادت أندريه شديد الى اللغة العربية عبر ترجمة شربل داغر الذي أدرك منذ بداية مشروعه أنّ ترجمته ستقوم على النقل ولكن النقل الذي "يؤدي الى تجديد المعنى، لا الى جلبه فحسب من لغة الى أخرى". هكذا بدت الأمانة للنص كأنها الوجه الآخر للخيانة التي طالما تحدث عنها المترجمون واصفين بها صنعة الترجمة، بل ان الأمانة والخيانة تضحيان هنا شأناً واحداً ما دام المترجم يصنع النص الآخر ويكتبه بالعربية متخطياً معايير الترجمة "المدرسية". وقد وجد نفسه ازاء شعر يزيد عليه ويتخفف منه ولكن من غير قصد، كما يعبّر. وقد يلحظ من قرأ شعر أندريه شديد في لغته الأصل ان الاحساس الذي يخامره هو نفسه الذي خامره حين قراءته الترجمة العربية. هذه الملاحظة تندرج في مصلحة الترجمة التي استطاعت ان تحافظ على روح النص وان تخونه في آن. الترجمة هنا "تعرّب" النصّ ولكن من دون ان تسقط عنه المواصفات التي تميزه ولا السمات التي يتسم بها. لم يفسر "التعريب" ما التبس في القصائد أو غمض أو بوهم، ولم يسع الى ستر "العيوب" التي تعتري بعض القصائد الأصلية ولا الى اذكاء نار الشعر حين تخمد ولا الى رتق بعض شروخه. لكنّه استطاع ان يبدع صيغة عربية توازي الصيغة الفرنسية موقظاً في النص نفسه ذاكرته الأولى أو جذوره أو ما يُُسمّى بنيته الغائبة أو المنسية. تحتل أندريه شديد مرتبة بارزة في حركة الشعر الفرنسي لئلا أقول الفرنكوفوني. قصائدها تعلّق على لوحات في أنفاق "المترو" كلما دعت المناسبة، والقراء الفرنسيون يقبلون على رواياتها بوفرة، والمعاجم الأدبية تخصص لها صفحات. وقد حظيت أيضاً بما يحظى به الشعراء المكرّسون عبر دخولها سلسلة "الشعراء المعاصرون" التي تصدرها دار سيغير. لكنّ اللافت ان اندريه شديد أصرت على ان تكون على هامش الحركة الشعرية الفرنسية في كل تياراتها ومدارسها على خلاف بعض المصريين الفرنكوفونيين من أمثال جورج حنين وجويس منصور اللذين انخرطا في الحركة السوريالية على طريقتهما الخاصة. عاصرت أندريه شديد معظم التحولات التي طرأت على الشعر والفن بدءاً من الأربعينات وانتهاء في السبعينات لكنها بدت تعيش داخل الشرنقة التي نسجتها بنفسها ولكن منفتحة على بعض الشعراء الذين قرأتهم بشغف وهي تعدّد منهم: رينه شار وهنري ميشو وإيف بونفوا. وكان رامبو بمثابة "الاكتشاف" في مطلع حياتها. وتأثرت أيضاً ببعض الشعراء الذي يكتبون بالانكليزية من أمثال: بيرون كيتس وشيللي وأودن... وهي أصلاً استهلت تجربتها الشعرية باللغة الانكليزية ولها فيها ديوان يتيم هو باكورتها. هكذا يمكن القول ان شعر أندريه شديد هو "نسيج وحده" كما تفيد العبارة الرائجة. حتى غنائيتها هي غنائية شخصية أو ذاتية وبعيدة من الغنائية "الموضوعية" التي نادى بها شعراء القرن التاسع عشر وكذلك من الغنائية الجديدة التي تجلّت في بعض قصائد بول ايلوار ولوي اراغون وسواهما. ويخيّل للقارئ في أحيان أن قصائدها الكثيفة والمختصرة غالباً تشبه قصائد معاصرها أوجين غيفيك. لكن لغتها تختلف عن لغته تماماً وكذلك معجمها الشعري وهمومها. ولعل وحدتها أو عزلتها الشعرية دفعتها الى ان تؤسس عالماً ولغة مكثت طوال حياتها وفيّة لهما حتى ليظن القارئ ان اندريه شديد تكتب شعراً مفتوحاً على الزمن أكثر مما تكتب قصائد منفصلة أو مستقلة. هذا الشعور يكتشفه من يقرأ دواوينها متوالية. كأنّ الشاعرة شاءت الشعر نوعاً من "المونولوج" الداخلي الذي تحاور من خلاله نفسها والعالم والطبيعة. انه حوار الكائن الذي يعيش على حدة أو على هامش المجتمع. يطرح الأسئلة وهو يدرك مسبقاً ان لا أجوبة شافية عليها. هكذا تسائل الشاعرة صوتها قائلة: "أين أنت يا صوتي البعيد؟" أو تسأل بصراحة: "ما الحياة؟"، أو: "في ا مضى، في ما مضى، أين كنا؟". لكنها تدرك جيداً ان "الشعر يُحسِن الموت" وأن "الموت يتوّج الحياة"... يشعر قارئ اندريه شديد أيضاً ان أمراً ما يفوته في لحظة القراءة، بل ان معنىً ما يفوته أو حالاً ما. فالشعر هنا أقرب الى الشعر العاري الذي تخلّص من كل شوائبه ليصبح صافياً وربما "بدهياً". المقام الشعري هنا هو مقام البداهة بامتياز. اللغة المقتضبة ذات نزعة غنائية خفيضة حيناً ونزعة مجردة حيناً آخر. انها لغة مكشوفة ولكن ليست خلواً من الأسرار، لغة تخلّت عن جسدها لتتمسك بروحها. وهذه المعادلة تعيها أندريه شديد تماماً وتعبّر عنها عبر مقارنتها بين الرواية والشعر قائلة: "تتخذ الرواية جسداً ثم ترتدي لباسها من بعد. أما الشعر فيبقى عارياً، بعد اتخاذه روحاً". ولعل توزّع شديد بين الكتابة الشعرية والروائية حدا بها الى ان تفصل بينهما مستعينة في أحيان بالشعر نفسه داخل صنعتها الروائية. فالشعر يمدّ روايتها بعذوبته وسحره، أما الرواية فلا تمنح الشعر لديها أي عنصر هو غريب عنه. شعرها مثلاً لا يعرف السرد والوصف والتداعي وكل هذه تكمن في صميم العمل الروائي. تقول اندريه شديد: "من الرواية الى القصيدة، الطريقة مغايرة، هناك نتبع خطواتنا الخاصة. هنا نستبقها". الشعر إذاً شأن مرتبط بالجوهر، بالاستباق والاستبطان والمخاطرة أو المجازفة. وان كانت الرواية تحمل هموم الأشخاص والجماعة فانّ الشعر هو وليد الحركات الداخلية، حركات "الكائن الذي يسميه البعض الروح". لكن شعر "الروح" ليس شعر "الأفكار". تقول الشاعرة في هذا الصدد: "حين يصنّف البعض الشعر في مرتبة الأفكار، يختصرونه الى جسم يتضوّر جوعاً". مثل هذا الوصف يدلّ على خلو الشعر لدى شديد من الهمّ الفكريّ والفلسفي، لكنه يؤكد امتلاءه بالهموم الماورائية والوجودية والروحية... على أن تظل هذه الهموم وقفاً على البداهة أو الغريزة الانسانية العميقة. فالشاعرة لا تصطنع الأبعاد الصوفية والدينية ولا تدّعي الرؤيا أو التنبؤ أو السحر، ولا تؤدّي دور الرائي، ولا تجعل من "الأنا" نقطة الكون. انها تكتب ببداهة تامة مثلما تتأمل ببداهة تامة في لحظة الكتابة نفسها. انها تدع الشعر يتأمل بل تدع اللغة تتأمل ولكن من غير أن تستسلم لهما كليهما. فالصمت الذي يخالج الجمل الشعرية والكثافة التي تعتري اللغة يشرعان الفعل الشعري على ما تسميه الشاعرة نفسها "غير المعبّر عنه" مصرّة على ان الشعر "حضور" و"ليس تلاشياً". الا ان "غير المعبّر عنه" هو غاية في السخاء كما تقول وليس حافزاً على المحو أو الصمت العدمي كما لدى شاعر في حجم مالارميه مثلاً. وهو - "غير المعبّر عنه" - سيدفع القصيدة الى ان تكون "حرة" كما تقول الشاعرة أيضاً ومتحررة أبداً. ينزع شعر أندريه شديد نحو التجريد والمطلق والمحسوس في وقت واحد. وهذه العناصر لا تبدو متناقضة في قصائدها. فالشعر لديها يبحث عن ذاته أصلاً "من وراء الكلمات"، فهو شعر الاكتشاف والتأمل والحضور - كما عبّرت الشاعرة -. انه شعر الحضور في العالم بل الشعر المغتبط في حضوره داخل العالم. ولا بدّ للقصيدة من أن تصبح ذلك "المكان" الثابت والقلق الذي تلتقي فيه "طرق البشر العميقة" أو تلك "الأرض المشتركة" التي تجتمع فيها الأعراق والأجناس. تقول شديد: "سعيت دوماً الى البحث عما هو عالميّ، أي انساني شامل يعني الانسانية جمعاء". هذا "العالميّ" أو "الانساني" هو الذي كفل الغاء وجودها المتعدد وانتمائها الممزق تاريخياً وجغرافياً. فهذه اللبنانية والمصرية والفرنسية أضحت في "أرض" الشعر كائناً واحداً ومتوحداً بنفسه: "لا أحتاج الى القول: هويتي هي هذه، هذه لا سواها، سواء أكانت لبنانية أم مصرية أم فرنسية...". وتعترف الشاعرة انها تقيم في "القصيدة" وان لا وطن للشاعر سوى القصيدة. "وطن الشاعر أو مكانه لا تحدّه خريطة الجغرافيا بل خريطة الأعماق". قد تكمن فرادة شعر اندريه شديد في تلك "الغبطة" التي يثيرها في قارئه. لكنها "غبطة" خاصة جداً، غبطة الشعر الذي يمزج المتناقضات، كأن يكون مجرّداً ومطلقاً في آنٍ، صوفياً ومحسوساً، تأملياً وغنائياً، بسيطاً ووجودياً، واضحاً وغامضاً... هذه المتناقضات هي التي تمنح شعر أندريه شديد قدرته على الانفتاح والتعدّد والتأويل. بل هي التي تدفعه الى التحرر من أسر الاكتمال أو "الكمال" ليبقى مشروعاً شعرياً متواصلاً لا تحدّه نهاية ولا يأسره زمن. انه الشعر الذي "ينتهج الطريق دائماً من دون وصول محتّم" كما تعبّر الشاعرة. واللاوصول هو الوصول نفسه ولكن الى المجهول حيث "لا اسم للمسافة" وحيث "الساعات أعمدة الرماد" و"الموت قريب للغاية". هناك تعاين العين "عين الموت" جهاراً ويصبح الشعر كلاماً "من بلاد بعيدة". نقرأ أندريه شديد بالعربية ونفرح بها مثلما قرأناها بالفرنسية وفرحنا بها. الآن عادت الى لغتها الأم التي لا تجيدها الا في لا وعيها وفي وجدانها العميق، العربي والمشرقي. ولعل جذورها التي لم تتخلّ عنها يوماً هي التي أمدّتها بذلك النسغ الشعري وتلك النداوة والشفافية وبتلك الغنائية الصافية والمقتضبة وتلك الروح الحكمية البعيدة تماماً عن الموعظة والمغرقة في روحانيتها الفطرية والعذبة. * صدرت المختارات عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، في سلسلة "ابداعات عالمية" رقم: 333.