في اطار النشاطات المرافقة لمعرض الكتاب العربي أحيا الشاعر المغربي محمد بنيس أمسية شعريّة قدمها الزميل عبده وازن وشارك فيها عبر مداخلتين: الشاعران عباس بيضون وشربل داغر، وحضرها جمع من أهل الأدب والثقافة. وقرأ بنيس مختارات من مراحله الشعرية المختلفة. تناول الشاعر عباس بيضون تجربة بنيس من خلال البعد الجمالي الذي تفترضه مدينة فاس المغربية مسقط رأس الشاعر ومما قال: "يمكن ان نفكر بالشعر كما نفكر بمئذتة جميلة. في أحيان قليلة ونادرة تتخذ الفكرة الشكل الذي تستحقه. الأكمل والأبسط وربما أيضاً الأقل ثقلاً بحيث نظن أننا نستطيع هكذا أن ننقشها وكأنها ولدت شكلاً. هل نرتاح من عذاب الفكرة ونحن ندق كلمة في جدار. هل نحسب أننا لن نعاينها بعد وقد حولناها الى الأبد فرحاً لأيدينا وأعيننا. ألا يخيفنا تململ الفكرة الحية والمعذبة في الأشكال الكاملة، وهل نحسب انا نكون أحراراً أكثر إذا حلمنا بأشكال أقل كمالاً، هل هو الفن يصارع كماله أم أنها الفكرة ترفض أن تموت في كمالها أو أن الأكثر لبساً هو أن يتسنى للشكل الأبسط والأكمل أن يكسر قالبه أو ينكسر في داخله. أفكر في فاس ومحمد بنيس وأنا أتحدث عن جنة الأشكال هذه، إذ كيف يقدر امرؤ على أن يتجاوز نقشاً بهذه الروعة أو مصلى أو مئذنة. بل كيف يقدر المرء أن يفعل شيئاً في مدينة الأشكال الكاملة. يسهل عليَّ أكثر أن أجد الشعر في ما يحلم الشعر أن يكونه: كلمةً من حجر. لكن من الرحمة بالشعر أن يبقى كلمة من هواء. من الرحمة به أو له أن يحاول نقشاً فيبقى صوتاً. من الرحمة بالفكرة أو لها أن تبقى كلمة وأن تصارع أشكالاً لا تملك أن تصيرها. أفكر في فاس وبنيس وأقول كم يشق على المرء ان يكون شاعراً في فاس، وكم يتوجب عليه مع ذلك ان يكون شاعراً. فالحياة مع الخلود الصعب لا تسعد الا الموتى. ثم ان حديقة الأشكال الكاملة هي، على نحو ما، ذاكرة باهظة على انسان. إذا أقام المرء في متحف طغى عليه جسد أعلى من جسده وخيال أعم من خياله. إذا لا يمكن المرء أن يملك عينين من ذهب، فإن النظرة التي تحول الأشياء ذهباً تقتل صاحبها، حين أفكر في فاس أفكر ببنيس وأقول كم هو صعب ميراثه، وكم هو صعب أن يكون المرء شاعراً في فاس. كم عليه أن يكسر ايقونات في خياله وفي ذاكرته، وربما في جسده نفسه. كم عليه أن يتعذب ليكون أقل كمالاً مع الذكرى المؤلمة للكمال الفاني. كم يتوجب عليه أن ينقش وهو يكتب أو يكتب وهو ينقش. ثم يحطم الازميل ويحطم النقش والكلمة ويعود على بدء من حيث لا يوجد شيء. لا كلمة ولا نقشاً ولا ازميل ولا جداراً، حيث عليه أن يصنع من جديد وبيديه الفانيتين كلمته وإزميله وجداره. عليه ان يصرخ وهو يحطم في ذاكرته وخياله. وهو يبيع الأكمل بالأقل كمالاً. وهو أيضاً وفي لحظة اليأس الكبرى يرتجف في الحديقة المحطمة متأملاً برعب ما صنعته نفسه وصنعته يداه. كم عليه أن يهز التماثيل والنقوش لتخرج ديدانها الحية وعذاباتها السجين. يهزها لتغدو شيئاً أقل: كلمة أي أكثر عطباً، صوتاً أي أقل حضوراً، ايقاعاً أي أقل معنى .... من الأشق ان يكون المرء شاعراً حيث اكتملت القصيدة. ومحمد بنيس لذلك بدأ من حيث ان الشعر قدر. رأى الشعر سؤالاً والقصيدة سؤالاً. لكن سؤال الشعر الأصعب في غير القصيدة وفي مقابلها وحولها .... الشعر ممارسةً وجاء في مداخلة الشاعر والناقد شربل داغر: "يتحدث ميشال فوكو في كتابه "الكلمات والأشياء"، وفي معرض حديثه عن "الحداثة"، أو عن "عتبتها" بالأحرى، عن الكتابة، عن الرواية مثالاً عند سرفنتس، فيجد في صفاتها واحدة راقت لي، وطلبتها للحديث عن الصديق الشاعر محمد بنيس، وهي صفة "المخاتلة". وما يريد فوكو قوله في هذه الصفة يتعين في أن الكتابة باتت، بخلاف ما كانت عليه في العهد الكلاسيكي، لا تطلب مطابقة مع السابق، مع المرجع، ومع "المناسبة" مثلما تقول العربية، بل هي تسعى للافتراق، للمخادعة، للابتداء من مكان آخر، من الممارسة الكتابية نفسها التي تستولد الكلام بفعلها نفسه، كما لو أنها تتأتى من عدم، أو من فعلٍ جذورُه فيه. وهو ما أتحقق منه إذ أقبل على أعمال بنيس الشعرية حيث هي ابتداء لا يلبث أن يداور، وأن يطلب خداعاً، بل وقيعة تستنفر الكلام بغير طريقة وطريقة. والقصيدة في ذلك ليست معنى مطموراً أو محفوظاً تستعيده أو تسعى اليه، وإنما هي انشاء للقارئ فيه أن يقرأ لا أن يستظهر ما فاته ويعيده الشعر اليه" وللسالك فيه أن يمضي من دون أن يصل بالضرورة، إذ المتعة في التجوال، في المواقعة، في المخادعة، في اصطفافٍ للحروف قريب من زليج في فاس: الأحجار لا تتبادل ألوانها والعلاقات بين أشكالها إلا في تفرقها، في خفائها. والقصيدة في ذلك تزهو بنفسها، ولها مهابةٌ لا يجوز فيها غير قول الجسيم، بلغة المتكلم الفردي الذي يقبل على اصطراع العناصر إقبال القادر على صنع الكبر والعجب. والقصيدة "ورقة بهاء"، إذ لا يصلح للشعر غير الباهر في صنعه، غير الشكل الجلي، الذي فيه بعض صفاء التركيب المجرد عند الرمزيين وتنويعاتهم الموسيقية، والذي فيه زخرفات من كتاب صوفي قديم. والقصيدة عنده لا يناسبها غير جلاء الشكل، غير خيلائه، فلا تعرض القصيدة للقارئ بل للمبصر وحسب، بخلاف ما يقوله بنيس عن صديق أعمى، وهي القصيدة التي تحتاج الى قراءة بصرية قلما بلغتها عند شاعر عربي آخر. بالمناسبة، وعلى سبيل الطرفة، قرأت قبل أيام في مجلة جديدة، في عددها الأول، أن بنيس تأثر في تراكيبه المبتكرة فوق الصفحة الطباعية، بصنيع جاك دريدا، وما فات صاحبنا هو ما أتيح لي ذات صيف، إذ قرأت مقاطع من قصيدته الطويلة "ورقة البهاء" في المحمدية، بخط يده، بخطه المغربي المترف في أناقته والذي له تشجير وتوريق" كما غاب عن صاحبنا أن لبنيس معرفةً مستقصية في الشعر الفرنسي، وتحديداً في شعر مالارميه الذي رمى نرده على غير هوى على أن لرسمهِ معماراً فريداً، كما غابت عن صاحبنا معرفة أن بنيس سبق غيره من النقاد العرب في درس الشكل الطباعي الذي تمثل فيه القصيدة فوق الورق الطباعي. ولبنيس في الشعر مثال صميمي، جوهراني، تكويني لغيره، يكاد أن يكون العوض عن الوجود، وفيه بالتالي تطلع رومانسي، يتكفل به الشاعر على أنه المتعهد للشيء والمصلح له والقائم به" وله عن الشعر صورة مثلى، لا يلامسها أي زيغ، أي خدش. وقصيدة بنيس "مخاتلة"، إذ تمضي بسطورها الى حيث تنبني، أي في جهة غير مسبوقة وغير معلومة. وما يستوقف في غير قصيدة، ولا سيما في قصائده الطوال، هو هذا الجمع بين قراءات تسبقها على ما يؤكد في الحديث عن احدى قصائده على الأقل، وبين عيش يسبقها ويخترقها، في السفر خصوصاً، وبين انبثاق صوتي يتكشف للشاعر في القول نفسه وينغلق عليه في آن. أن أكون أنا: هذا قصدُ بنيس، وهذا ما يحاوله الشعر، على أن فيه هويةً ترتجى بعيداً عن لغة سابقة، مستهلكة، عن شعر مغربي سابق عليه هو أقرب الى لغة الفقه، الى لغة التدوين، معولاً على الحفظ، على المنوال، لا على نبض العيش، وفجاءة المتاهة وخفاء الرغبة. شعرُ بنيس هذه الفتحة الخارجة من هواء شديد الاستعمال، شعر الظن والتوهم والانشاد لا تأكيد البلادة، شعر يستعيد تملك اللغة وينشرها على أنها ذيوعه الأبلغ والأتم.