"مأزق الفرد في الشرق الأوسط"كتاب جماعي صدر حديثاً عن دار الساقي، وقد جمع دراساته وحرّره الكاتب حازم صاغية. هنا قراءة في أبحاث الكتاب. تستمد الفرادة زخمها وقيمتها الايجابية وبُعدها الدلالي من الفردية Individualite المرادفة للذات والذاتية، على عكس الفردوية Individualisme كمقولة مرادفة للأنوية، والأنانية السلبية. ولكن هل تلغي الفرادة"الجماعوية"؟ وهل توطد"الفردوية"الذاتية الشخصانية أو الشخص كجمع للروح والعقل والجسد في المعنى الوجودي؟ الفارق ما بين"الفردوية"والشخصانية الايجابية أن الشخصانية هي توكيد للذات والذاتية في الاطار الجماعي، الاجتماعي، الانساني، في المجال الكوني، في علاقة الكائن بالكينونة. أي هي فرادة تواصلية. بينما الفردوية هي توكيد وتوطيد للأنا والأنانية في معزل عن الآخر، والجماعة، والوطن والقوم والانتماء الانساني ? الجماعي. ولا مراء بأن الشخص هو الفرد الحر، في صراحة الحرية، وهو يستمد حريته وفرادته وطبيعته وكماله من ذاته وذاتيته وجدارته بالوجود والكينونة. والحال هذه، لا تلغي الفرادة"الجماعوية"ولا الذات والذاتية الانتماءات الغيرية. ولا تلغي الحرية المسؤولية والواجب والخير والحق في علاقة الفرد بوطنه وقومه وانسانيته، من دون اختزال لفرادة الانسان، ككائن حامل للمعنى، ومعيار للوجود، وفاعل للمصير، وسيد لذاته في"الجماعوية". ثمة نمط من الكتابة النقدية يريد التحرر من آفات الشمولية والتمامية integrisme و"الجماعوية"، فيبحث عن الفردانية في"نهايات"المشروع الغربي"الفردوي"، وفي"انجازات"العولمة، والانترنت، والتلفزة المعممة الخ. أعطتنا تجربة الانترنت - بحسب هذه الوجهة - درجة أكبر من الاستقلالية الشخصية من ذي قبل، من خلال تراجع الحدود الوطنية وقوة الدولة - الأمة بإعادة تشكيل الجماعات الانسانية على أرضيات يختارها الأفراد ص 13. وصار الفرد بطل الانترنت - نتيجة الاندماج بين"أميركا أون لاين"و"تايم وارنر"متقدماً على العائلة جمهور التلفزيون. لا تنوجد الفردانية - بحسب حازم صاغية - إلا مع الحداثة وبفضلها ولا تقوم الحداثة إلا على التغريب كشرط مسبق للحداثة, مع ذلك ثمة"جماعوية"ما"كامنة"ومستضمرة في هذا الخطاب ترى أن"الغرب المسيحي"هو الحضارة الوحيدة التي نجحت في بلوغ النمو المبدع متجذراً في حمى التقدم الطويل المدى لأسباب تتصل بالتقليد الثقافي وبأنظمة معتقدات كونية، بناء على مرجعية ماكس فيبر ومنظومته. هذه الطريقة الاختزالية في القراءة والكتابة هي طريقة كوكبة من الكتّاب"الشرق - أوسطيين"، الذين خرجوا على الجماعة والقوم باسم الفرد والفردية، والذات والذاتية. لكن الخروج على ما هو سائد عند هؤلاء الكتّاب يتسم بصيغ"تعويضية"مواربة ومتخارجة. يقدم لنا علم الدلالة والسيمياء الهرمنطيقي ستين اسماً وأكثر للحب الوجد، الشوق، الغرام، التبل، الصبابة، الهيام الخ... وأكثر من عشرين اسماً للماء السعبر، الكوثر، القليذم، الصبة، الصَبابة الخ... فلماذا لا نجد ثمة دلالات شتى في المعاني التفاضلية في ذات - المعنى للمصطلحات الأخرى بمنأى عن"مبادئ"العقل التجزيئية الهوية، والتناقض، والثالث المرفوع؟ ألا يوجد للفرد معادلات عدة وعديدة لا يتحدد فيها الفرد الا بذاتيته الشخصانية؟ وهل يوجد للجماعة صفة توتاليتارية واحدة وأحادية؟ وهل صحيح ان الغاء كينونة العائلة الصغرى في الغرب حرر انسانية الفرد وتفتحه الابداعي؟ وهل صحيح ان"الأتمتة"والميديا والتلفزة التي وحدّت العالم بحيث أصبح"قرية كونية"قد حلّت مشكلة الاغتراب والاستلاب والسلطة في المجتمعات الحديثة؟ وهل ثمة اسم واحد للوردة، ولون واحد لموشور السماء، وصفة أو صفات قليلة للوطنية والعروبة حتى تصبح الشرق - أوسطية بديلاً خلاصياً لنهايات الجماعية والعروبة؟! نحن نفتقر في مجتمعاتنا العربية البطركية - الأبوية ولا ريب الى الفرد والفرادة، ولكن هل الفردية تعني حقاً الصعلكة؟ يلاحظ محرر الكتاب حازم صاغية أن من أشد ما يثير الاهتمام في أولى ترجمات"البيان الشيوعي"أن كلمة بروليتاريا تُرجمت الى"صعاليك"، بالعربية، بحيث صار النداء - الشعار الشهير"يا عمال العالم اتحدوا"هو"يا صعاليك العالم اتحدوا"؟ يلاحظ الكتاب الجماعي بحق، ان ليس من الضروري أن تترافق الفردانية في المجتمعات"غير الأوروبية"كمجتمعاتنا بعلمنة"يعقوبية"مباشرة ومفروضة من فوق ولا بفردنة فوقية، ولا شرق - أوسطية ما بعد - قومية فوقية اذاً أليس كذلك؟ ولا يقبل بقمع"الخصوصي"لمصلحة"العمومي"، ولكن ما هي الخصوصية، هنا، وما هي العمومية؟ من أغرب الطروحات"الخصوصية"في هذا الكتاب ما يقدمه الباحث ايليا حريق، وهو وضعه الطائفية مقابل الفردية، التي تبدو له - الطائفية - في التجربة اللبنانية أقدر على حماية الديموقراطية والتعدد في مواجهة الاستبداد العسكري - العقائدي! وثمة مقاربات أخرى تؤكد على أهمية الشخص، ككائن أخلاقي مستقل، وكذات مستقلة، في مجتمع ديموقراطي حديث، ولكن هل لا بد من أن تقترن الفرادة"بالفراموشخانة"والمحافل الماسونية كمروّج للنزعات الفردية الديموقراطية، وحدها، في ايران وخارجها؟ بحث رامين جاهانبغلو - بدايات الفردانية في الثقافة الايرانية الحديثة. والكتابة - الشرق أوسطية - تمارس التطبيع الثقافي - مع اسرائيل - من طرف واحد، في مديح"الخصوصية الثقافية للديموقراطية الليبرالية"في مقابل القومية والكهنوتية في اسرائيل. هل بيريز البراغماتي - الذي تحلق حوله"سادة"النظام العربي في مدريد - أقل عتواً من"التوراتي"شارون، وما الفارق بين مجزرة قانا ومجازر غزة وأريحا؟ بحث الفردانية والجماعية في اسرائيل - يارون ازراحي -. ويستكمل بحث عمانوئيل سيفان - مضاعفات احياء الذكرى - في مداخلته عن أدب"اليذكور"- كتب المذكرات حول قتلى الحروب مع العرب - التطبيع الثقافي. ويقدم مراد بلجه بحثاً عن الفردانية في السياق التركي، القائمة على التحديث الدولوي البيوقراطي. و"الفردانية في الشرق الأوسط العربي"تستمد مصطلحاتها المرجعية من كتّاب ككنعان مكية، وبرنار لويس وتربط أزمة الحداثة في الاسلام بالعصبية: ماذا عن المعتزلة والمرجئة والمتصوفة؟ ولو تسنّت ظروف تاريخية لهذه الفرق أما كان أول الاسلام هو آخر المسيحية كما لاحظ بحق جورج طرابيشي في كتابه"مصائر الاسلام"؟ ويرجع حسين أحمد أمين ابن المفكر والمؤرخ الليبرالي أحمد أمين أزمة الفرد في مصر الى طغيان منطق التوحيد"من اخناتون الى العروبة"، لميل عدد كبير من المصريين الى الاحساس بانتماء غير عربي، وضعف حصيلة المصريين بعامة من التراث العربي - الإسلامي بالمقارنة مع غيرهم في سورية والعراق؟! ويرى صالح بشير الفردانية في المغرب العربي ان الفردية في المغرب لم يكد يُحفل بها الا باعتبار الفرد"بطلاً"يضحي بفرديته في سبيل"فرادته"... المؤسطرة والخرافية. ويرى ان الجذر اللغوي للبطل والبطولة يفيد، اشتقاقياً، معاني الباطل والبطلان والابطال والبطالة وما اليها؟! ويتناول الكاتب السوداني خالد مصطفى المبارك مفهوم الجماعة الساحق في الثقافة والمجتمع السوداني الذي يقوم على"النفر"و"النفير"والتي يلغي الفردانية والحيز الخاص للفرد في المجتمع السوداني القائم على مستندات الاثنية والصوفية. والخصوصية الكردية تقوم على ازدواجية الانتماء والتناقض الحاصل لدى الأكراد بين التوق الى الحرية والخروج من أسار الدولة وقمعها للفرد وهويته الجماعية والايديولوجية - من جهة - والانتساب الى هويات جماعية دينية وقومية ايديولوجية واجتماعية لا تقل في محقها لفردانية الفرد وحريته عن الدولة من جهة ثانية. ويتحدث إلسن فان دير بلاس عن"الفردانية والجماعية والفنون والكائن البشري كفرد". ويرى ان وصف الفنان الجيد بالعبقري هو الذي يحيل الى أهميته الفردانية الكاملة، مما يعني انه شخص ذو خصوصية وغير ممتثل للأعراق و"مبتكر"و"سابق لزمانه". ويتناول الروائي اللبناني محمد أبي سمرا في دراسته"الفردانية الموقوفة في الثقافة العربية"ركون الأدب والثقافة الى لاتاريخية المجتمعات العربية يقصد بهذا بقاء معظم التأريخ والكتابة والوصف والدراسة والبحث والاستطلاع في الاطار"الشفهي"لا الكتابي؟ فيما لا علاقة لهذا الأمر على ما يبدو بالسجال ما بين البنيوية والتفكيكية. ويعالج الناقد اللبناني ابراهيم العريس اشكالية الفرد والأقلية في الفيلم العربي فيرى ان تاريخ الذات هو واحد من التجديدات الأساسية التي طرأت على السينما بفضل"السينما الجديدة"وهي سينما سعت الى سبر أغوار الذات، بحيث صار الفرد فيها فرداً من لحم ودم، وشخصية سينمائية بامتياز لها تاريخها الفردي. وتتطرق الكاتبة مي غصوب الى إشكالية الذات والجندر في مجتمعاتنا الأبوية - الذكورية التي تعيد الفتاة الباحثة عن تحقيق ذاتيتها في عالم الذكور الى"غلامية" Garcon manque. كتاب"مأزق الفرد في الشرق الأوسط"، غني بالمعطيات لكنه يضعها في اطار الشرق - أوسطية المقبلة الينا مع"منتوجات"العام سام ...