ان كارثة تسونامي الطبيعية في كانون الاول ديسمبر الماضي واغتيال الشهيد رفيق الحريري في لبنان في 14 شباط فبراير وغياب يوحنا بولس الثاني خلال الشهر الجاري، ألّفت، بلا شك، عوامل مأسوية مؤشرة اكثر من سواها، في الفترة الاخيرة، لحاجة مشتركة في العالم ولو في عمق اعماق ابنائه، هي الحاجة الماسة الى عولمة الخير على الارض. فبعيد الزلزال في المحيط الهندي برزت رغبة عالمية عارمة الى التضامن في سبيل مقاومة جماعية لنتائج"شر"طبيعي، فجاءت المؤسسات الانسانية لتجسد، بأنشطتها المختلفة التي هي"بلا حدود"، تلك الرغبة في عولمة الخير. وبكى لبنان بأسره وكذلك كثير من البشر في دنيا العرب وحتى العالم الذين اجتمعوا هم وبعض"الأخصام"، عملية الاجرام النكران التي ذهب ضحيتها الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وتجمع الرأي العام العالمي من جديد، بعد انطلاق الحبر الاعظم الى دنيا الحق، ليذرف الدمع الحار على رجل استثنائي جسّد، اقله لبليون من البشر، نظرة كلية شمولية الى الاخلاق. كان يوحنا بولس الثاني حتى الرجل الوحيد القادر على ان يمثل اليوم ديناً او اخلاقاً او قوة روحية. وهذا ما تأسّف على تواريه عدد كبير جداً من البشر تحت كل سماء. ان هذه الظواهر الوجدانية الجماعية التي تسببت بها تلك الزلازل الثلاثة على الخصوص، تؤلف رد فعل، على تطور معاكس يجعل العولمة تبدو، منذ خمس عشرة سنة، في نظر عدد كبير من المراقبين، كأنها تعميم لمختلف اشكال الشر، كالبطالة والهجرة والارهاب والتعصب والاوبئة والاستعمار الجديد السافر او الخفي. وسبق ان سعى الساعون، اقله مرات ثلاثاً ومنذ قرنين عام 1780 وعام 1880 وعام 1920، لنشر العولمة. ولكنهم اخفقوا في تحقيق هذه العولمة الرامية الى تحقيق خير يواكب وتيرة انتشار الشر. وهذا ما ادى الى النزعات القومية الحمائية في القرن التاسع عشر، ثم الى حربين كونيتين. واليوم، قد يقود الخوف من عولمة الشر البشر ايضاً الى الحرب او الانطواء والتراجع، والارجح ان يقود اليها كلها. ازاء هذا الخطر المتجدد، لا يمكن عولمة الخير ان تختصر بتجسدها في شخص ما او بعض المؤسسات التي تنشر نفسها. فهذه الركائز وسواها النادرة، على رغم اخلاصها ومقدراتها الذاتية، ان تؤثر إلا تأثيراً هامشياً في جزء محصور من سكان الكرة الارضية. ثمة قوى اخرى نادرة من شأنها المشاركة انما جزئياً في تحقيق عولمة الخير: فالأمم"المتحدة"هي بالأحرى صراع بين الامم، والمؤسسات الدولية الاخرى هي مجلبة لشيء من السخرية والاستخفاف. اما الموسيقى، التي هي عولمة رائعة للجمال، فتبقى ذات تأثير ثانوي. ومن غير عولمة للتضامن، ما من امر جدي يمكن تحقيقه. وان سائر ضروب عولمة الخير قد لا تكون سوى حجج للتخفيف النسبي من نتائج تعميم الشر ومواكبة لبقة أنيقة للبشرية شطرَ هلاكها. واذا شئنا فعلاً ان نستجيب لرغبة العالم المظلوم بخاصة، في تحقيق عولمة الخير كما عُبّر عنها، منذ اشهر معدودة، في بلادنا وتحت كل سماء، ترتب علينا ان نمضي الى ابعد من ذلك في هدي التحركات الشبابية على الخصوص، وان نرسي قواعد مؤسسات قادرة على بلوغ الهدف المنشود، اعني دستوراً كونياً شاملاً، ونظاماً قضائياً لتطبيق بنوده، وشرطة لاحترامه، وسلطة سياسية تنظم بعض التحولات الممكنة وتستشرفها، ونوعاً من التضامن عبر الخصوصيات. واذا تعذر علينا ذلك، بقيت التظاهرات الحزينة - الفرحة احياناً، كالتي تجلت اخيراً إثر غياب كمٍ من البشر ومنهم كبيران من هذا العالم أشرنا اليهما، وهو غياب أقام الدنيا ولم يقعدها، تبقى وكأنها المعالم الحديثة العهد لخبث انتحاري بغيض للبشرية جمعاء. ويا شباب لبنان والعالم، اتحدوا وسائلوا مسؤوليكم على الدوام! الدكتور جهاد نعمان